المَنبَع 

لم تكُن المشاعر الحادَّة التي اندلعت أمام الشاشة؛ سوى انعكاس طبيعيّ للمشاهد المتوالية. منبع السُّخط الذي لفَّ الجَّمعَ المُتلهف على تلقِّي الجديد؛ هو الأداءُ العجيب لرئيس أكبر دولة في العالم، أو كهذا يُعرّف نفسَه ويُعرِّف بلدَه، ويتيه علنًا بينما يرمي الإهاناتِ هنا وهناك، ويخرقُ التقاليدَ المُتعارَف عليها في نطاقِ الدبلوماسية الرشيدة. جاور السَّخطَ استياءٌ وعدم تصديق؛ منبعهما سوءُ الإدارة والتنظيم، وغياب أبسَط الأدوات الضَّرورية عن المَحفَل الضخم، وظهور المُنظِمين بمظهرٍ أقلّ من المُتوقَّع. 

المَنبَع اسمُ مكان من الفعل نَبَع؛ مَنبَع الشيء هو مَصدره الأول ومَنشأه، وعادة ما يُقال إن العقلَ مَنبع الحِكمَة فيما القلبُ مَنبع الأحاسيس، أما منابع النهر فهي الجداول الصغيرة التي تتكون من تسرُّب مياه الأمطار وتتحد فيما بعد سويًا، وتُعرِّف معاجم اللغة العربية الينبوع بأنه عينُ ماء مُتفجّرة في الأرض.

***

قد تمثل الثروةُ منبعًا لحقد من يشتهونها ويفتقرون إليها، بينما يمثل الجَّمالُ منبعًا للغِيرة والحَسد عند من يُعلون من شأن الظاهرِ على الباطن، أما النجاح والشُّهرة؛ فمتى اجتمعا باتا منبعًا دائمًا للقيل والقال، ومقصدًا للنمائم والشائعات؛ وبخاصة في المجتمعات الخاوية التي لا تتمتع بالقدرة على مناقشةِ مشاكلها الحقيقية، ولا تتمكَّن من المُشارَكة في صُنع المستقبل.

***

النيلُ الأبيض والأزرق هما المَنبعان الرئيسان لنهر النيل، يلتقيان قرب الخُرطوم في السُّودان، ويمضيان ضِمن مَجرى واحد ينتهي إلى البحر المتوسط. يمثلُ النيلُ الأزرق المَصدرَ الأكبرَ للمياه، وينبع من بحيرة تانا في إثيوبيا؛ حيث الأزمة الناشبة بشأن سدّ تمَّ بالفعل إنشاؤه، ويتوقع الخبراء أن يختزلَ حصَّة مِصر مِن المياه؛ مثلما اختُزلت حصتها من أشياء أخرى عديدة.

***

زُرتُ دَهب ونُويبع منذ عقود طويلة ولم أكن قد تجاوزت بعد فترةَ الطفولة؛ اقتصر المكانُ حينذاك على بعض المنشآت الصغيرة المَحدودة، القائمة وسط طبيعة خلابة، خالية من أسباب الصَخْب والضجَّة. صَمتٌ شاملٌ وبحرٌ واسعٌ مُمتد؛ لا حبالٌ تخططه وتحدُّ من حريَّة السَّابحين كما في سواحل ومناطق أخرى؛ لا مَمَرات لقوارب أو ألعاب مائية مُزعجة تنفثُ عادمَها في الوُجوه؛ لا أصوات لمُغنين ولا أضواء زائدة عن الحد. سماءٌ رحبة تلمع في الليل بالنجوم وراحةٌ كبرى للنفس. كرَّرت الزيارةَ قبل أعوام، امتلأ المُخيَّم الذي قصدت بالناسِ وفَقدت الطبيعة عزلتها لمصلحة الاستثمارات المُتوقَّعة، ولم يعد الأمر في طزاجة المرة الأولى.

***

غنى محمد منير “علموني عنيكي أسافر” وبين مقاطع الأغنية تنويعات حول نبع الحبِّ الصافي؛ تارة هو مصدر الارتواء وتارة أخرى هو وَصف مباشر للمعشوقة. الأغنية من كلمات عبد الرحيم منصور وألحان هاني شنودة وقد صدرت عام ألف وتسعمائة وسبعة وسبعين. عن نفسي أحببت أعمال منير الأقدم، ولم أرتح كثيرًا للأعمال الحديثة، والحال أنه يبقى صاحب لون متفرد على امتداد رحلته، وأحد هؤلاء الذين وضعوا بصمتهم الخاصة على السَّاحة.

***

بعضُ التصرُّفات مُفتعلٌ وبعضها نابع من الأعماق. ناتج الافتعال سطحيٌّ غير مؤثر؛ إذ لا يستوي أبدًا فعل منشأه الاهتمام الحقيقي، وآخر يؤديه الشَّخصُ كواجب أو حتى بُناءً على طلب وسؤال، شتان الفارق ما بينهما إذ الأول يحمل الدفءَ وتتوفَّر له الرغبة الخالصة، أما الثاني فباردٌ وبعيد عن القلب.

***

تطرُق الضُّغوط النفسية النابعة من زمرة الأحداث المفجعة أبوابنا ليل نهار، لا مَهرَب منها ولا مَنجى، ولا شكَّ أنها تترك في النفوس أثرًا عميقًا ولو لم يظهر في حينه. تتوالى الكوارث تباعًا، تتنامى إلى أسماعنا وتتجسَّد أمام أعيننا دون فواصل؛ تتراوح ما بين غرق واشتعال وانفجار، واصطدامات على الطرق السريعة تسفر عن عشرات الضحايا، وقد صارت جميعها أنباء يومية لا يتعرض لها أحد بسوء وكأنها أحداث عادية، والحقُّ أن أعوامًا فائتة شهدت غضبات عارمة إزاء وقائع أقل حجمًا وأثرًا؛ لكن دوام الحال من المحال، ودور وسائل الإعلام في التلاعب بالوعي العام لا ينكر.

***

مكتوب لي أغني لك وأغزل مواويلك.. وإن جفّ نبع الحب يرويه عسل نيلك“ أغنية لإيمان البحر درويش، كلماتها مُوجَّهة للوطن، والشَّجن الذي يملؤها ليس غريبًا على أعمال المطرب صاحب التاريخ المتميِّز؛ فرحلته هي الأخرى عامرة بالأحزان والخطوب، ويكفي إحساسه الطاغي في كلمات أغنيته ”نِفسي“ التي ينعى فيها حالًا مرعبة من القهر والطغيان: ”يا بلدنا يا بلد هو من إمتى الولد بيخاف من أمه لما في الضلمه تضمه صدقيني خفت منك صدقيني“.

***

المَنبَع أصلٌ لا فرع، والأنانية المُطلقة من مَنابع الشرور الكبرى؛ لا يرى صاحبها سوى ذاته، ولا يفكر إلا في مصلحته، ولا يكاد يدرك وجود آخرين غيره في الحياة؛ إن آلمه أصبع توقفت الأرض عن الدوران وإن واجه مشكلة بات على المحيطين به جميعهم أن يسارعوا لغوثه، وإن تقاعس أحدهم صار في حكم العدو. الأناني لا يعرف من معاني التضحية والإيثار إلا ما يُصنَع لأجله، ولا يبذل جهدًا إلا لمصلحة نفسه، ولا يجد مُتعة إلا في خدمتها.

***

سباقاتُ التسَلُّح مَنبع قلقٍ دائم؛ خاصة حين تتحكَّم في مصير العالم زُمرةٌ من المُختلين الذين يرون في القتل سلامًا، وفي التدمير فرصًا للاستثمار والبناء، وفي اختلاق الأكاذيب سبيلًا لكَسب التأييد والاحتفاظ بالسُّلطة. ابتليت الأرض في الآونة الأخيرة بمن لا يستحون من فجاجة أفعالهم، ولا يحاولون حتى تجميلها؛ إنما يرتكبون مأساة تلو أخرى ويجدون من يهلل لهم، ويعدُّهم من المنقذين الذين يستحقون الجوائز والتماثيل.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  المَصَحَّة
بسمة عبد العزيز

طبيبة وكاتبة مصرية

Download WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  المفاوضات النووية.. "الشيطان" في التفاصيل