المُجتمَع اسمُ مكان من الفعل اجتَمَع، وهو مكان التقاء الناس. الفاعلُ مُجتمِع بكسر حرف الميم والمصدر اجتماع، وإذ يُشار إلى مُجتمَع الريف؛ فتصنيفٌ قائمٌ على وجود خصائص ومُحدِّدات تميزه عن مُجتمَع المدينة، والحقُّ أن القِسمَة كانت واضحة ذات يوم، وأن السِّمات كانت جليةً ظاهرةً، ثم إذا بالأمور تختلط فتتداخل النعوتُ وتغتربُ الأوصاف.
***
المُجتمعاتُ تنظيماتٌ قديمةُ الوُجود، نشأت منذ أدرك الإنسانُ حاجته الماسَّة للآخرين، وصعوبة بقائه وحيدًا في مواجهة الطبيعة، وفي مواجهة ذاته المُنفرِدة. تستعصي الحياةُ ما غاب الشركاء عنها؛ ولو كانوا مُخالفين في العاداتِ والآراء، ولو باتوا مَصدرَ متاعب ومنغِّصات؛ فالمرءُ مَجبولٌ على العَيش وَسط الناس؛ يَختبر نفسَه في مَراياهم، ويُشبِع نوازعه عبر التفاعل معهم.
***
يُمثل العَقد الاجتماعيُّ اتفاقًا بين السُّلطة والمَحكومين؛ يقضي بقيامها على تنظيم شئونِهم وترتيبها، في مُقابل تنازلهم عن بعضِ الحريَّات. توفير الأمان والاستقرار غاية؛ لكن الثمنَ قد يكون في بعض الأحيان باهظًا؛ يُحرِّض على إعادة التفكير في بنود العَقد وشروطِه، والظنّ أن روسو لم يَقصد في كتاباته أن يجعلَ من العَقد الاجتماعيّ مدخلًا للقهر، ولا بوابةً للقمع، أو حُجَّة لخنقِ الأصوات وتقييد الأجسادِ والعقول.
***
في ذكر المُجتمَع الراقي إشارة متوافق عليها لأصحاب الحياة الناعمة المَخمَلية؛ الذين لا يَجدون مَشقَّة في الحصول على احتياجاتهم وتحقيق مختلف رغباتهم، كما يملكون الفائضَ المناسبَ لشتى ألوان الترفيه والتسلية، والحقُّ أن الرُّقيَ لا يتعلقُّ معظم الأحيان بالمقدرة المادية ولا حتى بالمَظهر؛ بقدر ما ينُمُّ عنه السُّلوكُ المُتحضِّر، وأكم من أناس يرتادون أفخم الأمكنة، ويرتدون الثمين الغالي، بينما يسلكون مسلكًا متدنيًا، ولإن ضلَّت بوصلةُ المجتمع واختلطت عليه المعايير؛ فقصور في الرؤية وضيق في الأفق.
***
قاع المُجتمع تعبير يُدلّل على هؤلاء القابعين أسفل السُّلم الاجتماعي؛ الذين اضطرتهم الظروفُ لسلوك طرق وَعرة من أجل البقاء على هامش الحياة، وقد مثلت حيواتهم إلهامًا لا ينضب لكثير الكتاب والمفكرين، يُذكَر في مقدمتهم يوسف إدريس الذي تركت مجموعاته القصصية علامة بارزة على جدران الفقر الخشنة؛ والحق أن القاع التي انحدرنا إليها بعد قرن تقريبًا من ميلاده، تفوق أتعس التصوُّرات.
***
كلما دار الحديث حول السَّفر ومَواسِمه؛ قفزت إلى الذهن مُصطلحاتٌ استجدَّت على قاموسنا اليومي وباتت مألوفة في كلامنا، من بينها السَّاحل الشرير والطيب؛ بكل ما ترمُز له التسميتان. مُجتمع الصَّفوة فاحش الثراء يمضي إلى الشرّ مجازًا، بينما مُجتمَع الطبقة الأقل حظوة يمضي إلى شيءٍ من الرِّفق والتواضع النسبيِّ، أما مُجتمَع الأغلبية المُهمَّشة المطحونة؛ فإلى مناطقٍ ذات سواحل وشواطئ، لا تُدرَج بأي حال ضِمن القوائم الدالة على الجَّاه والمكانة.
***
إذا اجتمع الناس على موقف موحد؛ تيسَّر لهم تغيير واقعَهم إلى الأفضل، وإذا تفرَّقوا وتشتَّتوا وفشلوا في الاتحاد لمُواجهة ما ساءَهم؛ بقوا على حالهم عاجزين خاضعين. الظنُّ أن ما يَحفظ للمُجتمَعاتِ مكانتها ويدفعها للتقدم؛ هو قدرتها على تفعيل القواعدِ والقوانين دون استثناءات، فمتى انهارت آلياتُ المُحاسبة؛ انحرف المسار وتدهورت الأوضاع على مختلف المستويات. نفتقر في مجتمعاتنا إلى موقف الندية الحقيقية الذي يُتيح للمواطن حساب المَسئول، فالمسئول عندنا أبٌ والأبُ سُلطةٌ مُطلقة؛ لا يمكن أن تتعرَّض للاهتزاز مهمًا كان حجم الخطأ.
***
يختصُّ علم الاجتماع بدراسة حركة المجتمع ويفسرها وفق نظريات شتّى قد تتفق أو تختلف فيما تطرح من فرضيات وما تأتي به من براهين، والثابت أن الحركةَ في ذاتها مُحيرة، غير مفهومة في كثير الأوقات، وأن طفراتٍ تحدث بين الحين والآخر؛ فتهدم ما استقرَّ، وتعيد عملية البحث والدراسة إلى المبتدأ.
***
جرت العادة على أن يتخذ المجتمع الدولي مواقف منحازة غير منصفة، لا تلتزم معايير واحدة تجاه الأطراف جميعها. يعاقب من أتى بخطأ ويغفر لآخر، لا اعتمادًا على حيثيات صادقة مقنعة؛ بل مراعاة لمصالح أغلبها اقتصادي، وتحسبًا لرد فعل غير مأمون من جهة المخطئ، المتمتع بأسباب السطوة والقوة. في العربدة الإسرائيلية أدل مثال، وفي استمرار عمليات الدك والهدم والقتل المباشر إدانة دامغة للحكومات والأحلاف والمجالس التي تدعي الحياد، وتعلن أنفسها حامية للقوانين والقرارات.
***
المُجتمَع بتعريفيه؛ اللغويّ والاجتماعيّ، حاضنة لمجموعة من البشر؛ يحملون بعض الصفات التي تميزهم عن المجتمعات الأخرى، يتقاسمون الموارد ويُسهمون كلٌّ بمهاراته ومقوماته في تأسيس حياة مقبولة مُرضِيَة، تستوعِب الجميع. يتطلب تجانسُ فئاته المتنوعة أن تكون الفجوات بينها محدودة، وأن تتسع الأرضية المشتركة لتضمّْها دون تمييز؛ لكن ليس كل ما يتمناه المرءُ يدركه.
***
ثمَّة هوةٌ مُتعاظمة تفصِل بين الناس في مجتمعنا، وثمَّة شرانقٌ مَعزولة تنمو هنا وهناك؛ تلتهم الحواف وتضيق الخناق على الكتلة الكبرى المغبونة، المحرومة بسبب سياسات اقتصادية مجحفة من احتياجاتها الدنيا، ولا جدال أن المجتمع الذي ينكر على أفراده حقوقهم، ويسحق الضعيف سحقًا فيما يُحصّن القوي ويزيده منعة وكِبرًا؛ إنما تتخلخل أركانه بمرور الوقت، ويصبح هشًا متداعيًا، لا تقوم له قائمة إلا بتبديل الأحوال وإقرار نظام أكثر عدلًا وقابلية للاستدامة.
(*) بالتزامن مع “الشروق“
