الصين والصهيونية بين الوهم والتحليل الطبقي: قراءة نقدية في السردية العربية

منذ التسعينيات على الأقل، استقرّ في المخيال العربي تصوّر مريح: الصين قوة صاعدة “محايدة”، معادية للهيمنة الأميركية، قريبة من قضايا التحرّر، وحليفٌ “طبيعي” للفلسطينيين. في زمن الإبادة في غزة، تعزّز هذا الميل: إذا كان الغرب شريكاً معلناً في الجريمة، فلا بدّ من البحث عن قطبٍ بديل، وها هي الصين تقدّم نفسها بوصفها المرشح الأبرز لهذا الدور.

يبني محلّلون كثر رؤاهم حول الموقف الصيني على كونه ناشئ من إيمان إيديولوجي وقضاياويّ بالمسألة الفلسطينية والمستضعفين في الأرض، غير أنّ العودة إلى التاريخ، وإلى الاقتصاد السياسي للعلاقات الدولية، تكشف صورة أكثر تعقيداً: علاقة مبكرة بين الصين والحركة الصهيونية، ثم مرحلة قصيرة من المناصرة الجذرية لحركات التحرّر، قبل أن تستقرّ بيجينغ، منذ التسعينيات، على إستراتيجية يمكن وصفها بـ”الحياد المنحاز” لصالح إسرائيل. هذا المسار نفسه كان موضوع جدل عربي حديث، بعضه جاء من داخل أوساط ماركسية اعترضت على ما عدّته “اختزالاً” للصين ككتلة واحدة، وطالبت بالتمييز بين الدولة والمجتمع، بين موقف النخبة الحاكمة والتضامن الشعبي.

المطالعة أدناه تحاول الجمع بين المستويين: تفكيك الوهم العربي حول الصين كبديل أخلاقي، وفي الوقت نفسه استيعاب النقد الطبقي الذي يذكّرنا بأنّ الصين، كغيرها، جزء من بنية رأسمالية عالمية لا تتحدد بخطاباتها الرسمية بل بموقعها في نظام الهيمنة.

الصين ليست بديلاً أخلاقياً عن الغرب، بل قوة تسعى إلى أن تكون الهيمنة القادمة، الفرق بينها وبين الولايات المتحدة هو في المرحلة والأسلوب لا في الجوهر. البحث عن “إمبراطورية نظيفة” رهان خاسر، فكل قوّة رأسمالية كبرى ستضع مصالحها في رأس أولوياتها، وفلسطين بالنسبة إليها بند تفاوض، لا معيار عدالة

وعد بلفور بنسخة صينية

البداية ليست مع ماو تسي تونغ ولا مع الحرب الباردة، بل مع صن يات سن، مؤسّس الجمهورية الصينية الحديثة. ففي 24 نيسان/أبريل 1920، تلقّى هذا الأخير رسالة من نسيم إلياس بنيامين عزرا، أحد قادة الصهيونية في شنغهاي، مرفقة بنسخة من مجلة (Israel’s Messenger). ردّ صن برسالة قصيرة لكن بالغة الدلالة، عبّر فيها عن “تعاطفه” مع الحركة الصهيونية، واصفاً إياها بأنها “إحدى أعظم الحركات في عصرنا”، وأنّ كل محبّ للديمقراطية لا يمكن إلا أن يرحّب “بحماسة” بمسعى “استعادة الأمة اليهودية العظيمة مكانتها بين الأمم”.(1)(2)

هذه الوثيقة، المحفوظة اليوم في مكتبة إسرائيل الوطنية، ليست مجرّد تفصيل أرشيفي، فهي تكشف أنّ النخبة الجمهورية الصينية نظرت مبكراً إلى الصهيونية ليس كمشروع استيطاني كولونيالي، بل كحركة قومية حديثة تسعى لاستعادة “أمّة تاريخية” مكانتها في العالم. في الخلفية، كان ثمّة خيال ثقافي موازٍ يقارب بين “الحضارة الصينية” و”الحضارة اليهودية” بوصفهما أقدم تقليدين متواصلين في التاريخ.(3)(4)

منذ ذلك الحين، تشكّل في جزء من النخبة الصينية إحساس بأنّ اليهود شعبٌ “ذكي مكافح ناجح اقتصادياً”، وأنّ العلاقة معهم، ومع إسرائيل لاحقاً، استثمارٌ إستراتيجي في المستقبل. هذا الخيال الإيجابي تجاه “الأمة اليهودية” سيعود بقوة في خطاب الدبلوماسية الصينية المعاصرة.

الصين الهامشية شريكة في المركز

خلال النصف الأول من القرن العشرين، لعبت المدن الصينية، خصوصاً هاربين وشنغهاي، دور محطات عبور أو إقامة لمجتمعات يهودية مهمّة، بينها تيارات صهيونية يمينية مثل حركة “بيتار” المرتبطة بجابوتينسكي. تشير دراسة عن “بيتار الصين” إلى أنّ مردخاي أولمرت، والد رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود أولمرت، قاد في ربيع 1947 حملة جمع أموال في تيانجين وشنغهاي تحت اسم “الصندوق الحديدي”، جمعت نحو 100 ألف دولار (ما يعادل أكثر من مليون منه اليوم) لصالح منظمة “إتسل” (إرغون)، واستخدمت الأموال لشراء السلاح والذخائر ونقلها على سفينة “ألتالينا” إلى فلسطين.(5)

مصادر أخرى، من بينها مقابلة أجرتها صحيفة “إستقلال” مع الباحثة الفلسطينية الخبيرة في الشأن، د. رزان شوامرة، تشير إلى أنّ مردخاي أولمرت سعى أيضاً، منذ 1945، للحصول على مساعدة عسكرية مباشرة من مسؤولين صينيين، وأنّ هذا الدعم تبلور بحلول 1948، ما يفتح سؤالاً مشروعاً: هل ساهمت الصين، ولو على نحوٍ غير مباشر، في موازين القوى التي قادت إلى نكبة الفلسطينيين؟(6)

أيّاً تكن تفاصيل تلك المرحلة، فإنّ المؤكد أنّ الصين – قبل صعود الشيوعية وبعدها – لم تكن جزيرة معزولة عن الحركة الصهيونية، بل طرفًا في شبكة مصالح وتبادلات معقّدة. هنا يتصدّع الوهم العربي الذي رسم الصين ككيانٍ نقيّ في مواجهة الغرب، وكأنّها كتلة واحدة لا تناقض فيها ولا مصالح، بينما التاريخ يُظهر وجهاً آخر لدولة تعلّمت منذ نشأتها فنّ الموازنة بين المبدأ والمنفعة.

لحظة ماوية قصيرة: الحياد المتوازن

في الستينيات، قدّمت الصين دعماً سياسياً وعسكرياً لمنظمة التحرير الفلسطينية، ورأت في الكفاح الفلسطيني جزءاً من جبهة عالمية ضد الإمبريالية. كان الخطاب حينها واضحاً: إسرائيل دولة استعمار استيطاني، والحقّ في الكفاح المسلّح جزء لا يتجزّأ من حق تقرير المصير.

لكنّ هذه اللحظة الثورية لم تدم طويلاً. مع انفتاح الصين على الولايات المتحدة في عهد نيكسون – كيسنجر، ومع التحوّل التدريجي في نموذج التنمية الصيني، بدأت بيجينغ تنتقل من موقع “القاعدة الخلفية” لحركات التحرّر إلى فاعل يسعى لدمج نفسه في النظام الدولي القائم. كان ذلك يعني، ببساطة، القبول بإسرائيل كحقيقة سياسية–اقتصادية ينبغي التعامل معها.

عام 1992، أُعلنت إقامة العلاقات الدبلوماسية الكاملة بين الصين وإسرائيل.(8)(9) مذ ذاك، أخذت العلاقات منحى تصاعدياً، حتى صارت الصين ثاني أكبر شريك تجاري لإسرائيل عالمياً، وأكبر شريك لها في شرق آسيا.(8)

الصين، قبل صعود الشيوعية وبعدها، لم تكن جزيرة معزولة عن الحركة الصهيونية، بل طرفًا في شبكة مصالح وتبادلات معقّدة. هنا يتصدّع الوهم العربي الذي رسم الصين ككيانٍ نقيّ في مواجهة الغرب، وكأنّها كتلة واحدة لا تناقض فيها ولا مصالح، بينما التاريخ يُظهر وجهاً آخر لدولة تعلّمت منذ نشأتها فنّ الموازنة بين المبدأ والمنفعة

خطاب محايد.. اقتصاد منحاز

منذ التسعينيات، صاغت الصين لنفسها صورة “الوسيط العادل”: تدعو إلى حلّ الدولتين، إلى التفاوض، إلى احترام قرارات الأمم المتحدة، وتؤكّد “حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة”. لكن خلف هذا الخطاب المتوازن، هناك ممارسة مختلفة تماماً.

في زيارة إلى إسرائيل عام 2013، قال وزير الخارجية الصيني وانغ يي إنّ البلدين “يتمتعان بتاريخ طويل من الصداقة”، وإنّ الشعب الصيني “فتح أبوابه لليهود في الحرب العالمية الثانية عندما أغلقها الآخرون”، مؤكّداً أنّ هذه “الصداقة في المحنة” يجب أن تُنقل إلى الأجيال الشابة.(10) الخطاب هنا يربط بين حضارتين “عريقتين”، ويستدعي الذاكرة الإيجابية عن اليهود بوصفهم ضحايا سابقين لاضطهاد عالمي، من دون أيّ ذكر لكون الكيان الذي يمثلهم اليوم — إسرائيل — يمارس بدوره استعماراً استيطانياً وإبادة بحقّ شعبٍ آخر.

الأبحاث التي تتناول صورة اليهود في الصين تؤكّد هذا الميل: لا يوجد في التراث الصيني المعاصر ما يماثل المسيحية أو بعض التقاليد الإسلامية في إنتاج سرديات لاهوتية معادية لليهود، بل على العكس، هناك إعجاب واسع بـ”اليهود الأذكياء والناجحين”، مع تماهٍ شبه كامل بين “اليهود” و”إسرائيل”.(3)(4) هذه الأرضية الثقافية توفّر بيئة ملائمة لتطبيع إسرائيل حضارياً وأخلاقياً في الوعي العام الصيني.

الاستيطان.. شراكة إقتصادية

هنا تخرج الصين من خانة “المراقب المحايد” إلى موقع الشريك العملي في مشروع الاستيطان. ففي عام 2020، نشر مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان قاعدة بيانات تضم 112 شركة إسرائيلية ودولية متورّطة في أنشطة اقتصادية داخل المستوطنات المقامة في الأراضي الفلسطينية المحتلة.(11) لاحقاً، جرى تحديث هذه القاعدة لتشمل 158 شركة، بينها شركات من الصين ودول أخرى، في قطاعات البناء والطاقة والتكنولوجيا والسياحة.(12)

ليست الصين مجرّد دولة تقيم علاقات مع إسرائيل داخل حدود 1948، بل بات رأس المال الصيني، العام والخاص، جزءاً من البنية المادية اليومية لمشروع الاستيطان، من الحليب إلى مستحضرات التجميل إلى الكيماويات الزراعية

من بين هذه الأسماء تبرز شركات صينية مملوكة للدولة أو مرتبطة بها. شركة (برايت دايري و فود – Bright Dairy & Food Co)، مثلاً، هي شركة صينية تمتلك حصة مسيطرة في شركة الألبان الإسرائيلية “تنوفا” (Tnuva). بحسب تقرير لمنظمة “اللجنة الأمريكية لخدمة الأصدقاء” (AFSC)، تعتمد “تنوفا” على الحليب المنتج في مستوطنات في الضفة الغربية المحتلة وهضبة الجولان، وتسوق منتجاتها في السوق الفلسطينية الرهينة لها أيضاً.(13)(14)

مثال آخر هو استحواذ مجموعة “فوسون” الصينية على 100% من أسهم شركة “أهافا” (Ahava) لمستحضرات التجميل، وهي شركة اعتمدت لسنوات على استخراج طين البحر الميت من الضفة الغربية المحتلة، وكانت مصانعها ومركز الزوار الخاص بها في مستوطنة “متسبيه شاليم” في الأغوار.(15)

إلى جانب ذلك، توثّق تقارير رقابية دور شركة “أداما” (Adama)، وهي شركة كيماويات زراعية باتت جزءاً من مجموعة صينية، في دعم الزراعة داخل المستوطنات في غور الأردن والجولان، عبر تزويدها بمبيدات وأسمدة واستخدامها في تجارب بحثية لصالح معاهد استيطانية.(16)(17)

بمعنى آخر: ليست الصين مجرّد دولة تقيم علاقات مع إسرائيل داخل حدود 1948، بل بات رأس المال الصيني، العام والخاص، جزءاً من البنية المادية اليومية لمشروع الاستيطان، من الحليب إلى مستحضرات التجميل إلى الكيماويات الزراعية.

غزة.. “أزمة إنسانية”!

مع اندلاع الإبادة في غزة بعد 7 أكتوبر 2023، برز سؤال: كيف ستتصرف الصين في لحظة تُختبر فيها فعلاً الحدود بين الخطاب والمصلحة؟

في مداخلاتها الرسمية في مجلس الأمن، نرى تمسّكاً قاموسياً بتعابير مثل “العنف ضد المدنيين”، “الاستخدام المفرط للقوة”، “ضرورة التهدئة” و”الأزمة الإنسانية”.(18) في مرافعة ممثلها القانوني أمام محكمة العدل الدولية حول الاحتلال الإسرائيلي، ذهبت الصين أبعد خطوة حين أعلنت أنّ استخدام الفلسطينيين للقوة لمقاومة الاحتلال “حقّ غير قابل للتصرف، راسخ في القانون الدولي”.(19)

هذا الموقف القانوني مهمّ، وهو يفتح ثغرة في الجدار الدولي الذي يساوي بين المقاومة المسلحة و”الإرهاب”. لكنّ اللافت للانتباه هنا هو الفارق بين حدّة الخطاب القانوني تجاه “الاحتلال” وبين الحذر الشديد في تبنّي توصيف ما يجري في غزة كـ”إبادة جماعية”، في الوقت الذي بدأ فيه مئات الحقوقيين والمنظمات الدولية، بل وبعض المسؤولين الأوروبيين، استخدام هذا التوصيف صراحة.(20)

إقرأ على موقع 180  "ميني حرب لبنانية".. أين جعجع والجيش وحزب الله؟

يمكن قراءة هذا الحذر الصيني بعين المنفعة في ضوء حرصها على عدم الدخول في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة في لحظة لا تزال تعتبرها مبكّرة للصدام المفتوح، وعلى إبقاء علاقاتها مع إسرائيل ضمن هامش يسمح باستمرار الاستثمارات والتعاون التكنولوجي. بكلامٍ آخر: فلسطين هنا ليست سوى درجة صغيرة في سلّم “الصعود السلمي” الطويل للصين.

نقد الصين على دورها في الاستيطان الإسرائيلي أو صمتها عن الإبادة في غزة لا يعني إنكار التناقضات داخل مجتمعها، ولا يعني الانزلاق إلى خطاب حضاري يختزل “الشرق” في بنية استبدادية واحدة، بل يعني ببساطة التعامل مع الصين كما نتعامل مع الولايات المتحدة أو روسيا: كقوّة مادية ملموسة تنتج قرارات وسياسات يجب مساءلتها

ماذا عن المجتمع الصيني؟

في مواجهة هذا التوصيف، برزت أصوات يسارية عربية — بينها من ينطلق من تحليل ماركسي صارم — تحذّر من تحويل الصين إلى “جوهر ثابت” معادٍ لفلسطين. هؤلاء يذكّرون بأنّ داخل الصين نفسها تناقضات حادة: بين حزب شيوعي حاكم متحوّل إلى رأسمالية دولة، وطبقات عاملة وفلاحية متضرّرة، ونخب فكرية وشبابية ترى في فلسطين امتداداً لتجربتها التاريخية في مقاومة الاحتلال الياباني أو الحرب الأهلية.

الباحث الصيني تشانغ شنغ، في عمله المشترك مع “المعهد عبر–الدولي”، يبيّن كيف يرى كثير من الناشطين الصينيين أنّ “فلسطين اليوم هي الصين البارحة”، وكيف يطلقون على المقاتلين الفلسطينيين لقب “الهندباء” — تلك الزهرة البرية التي تحمل بذورها الرياح لتنبت في كل مكان — أو “مقاتلي ريفنا” في استعارة مباشرة من حرب الأنصار الريفية الصينية.

هذا البعد الشعبي، الثقافي والإنساني، لا يمكن إنكاره ولا التقليل من أثره على المدى البعيد. وهو يذكّرنا بأنّ أي تحليل جدي للصين لا بدّ أن يميّز بين مستوى الدولة ومستوى المجتمع، بين السياسات الرسمية وبين ديناميات التضامن الشعبي.

لكنّ هذا التمييز لا يُستخدم لتبرئة النظام، كما يفعل أحياناً بعض المدافعين عن الصين، بل لفهم أنّ المعركة على الصين نفسها مفتوحة: بين من يريد تحويلها إلى قطب استبدال للإمبراطورية الأميركية، ومن يريد استعادة تقاليدها التحرّرية الأولى لتكون جزءاً من جبهة أممية حقيقية.

ما الذي نقوله فعلاً عن الصين؟

قد يبدو للوهلة الأولى أنّ هناك تناقضاً بين من يقرأ الصين من زاوية التحليل الطبقي ومن يقرأها من زاوية التحليل الجيوسياسي. الأول يضعها داخل بنية رأسمالية عالمية واحدة، حيث لا فرق جوهرياً بين واشنطن وبيجينغ سوى في موقع كلٍّ منهما داخل الهرم. الثاني يركّز على تنافس الدول الكبرى، وعلى تحوّل الصين إلى قوّة عسكرية – تكنولوجية قادرة على تهديد الهيمنة الأميركية.

لكنّ هذا الانقسام، في رأيي، وهمي. فالرأسمالية المعولمة تُمارَس اليوم عبر دول قومية محدّدة، ومن دون فهم أجهزة هذه الدول وخطاباتها وتحالفاتها، لا يمكن فهم كيفية عمل الطبقة الرأسمالية العالمية نفسها. الصين ليست “مجرد اقتصاد”، بل دولة مركزية تدمج الحزب والدولة ورأس المال في جهاز واحد عالي الانضباط.

من هنا، فإنّ نقد الصين على دورها في الاستيطان الإسرائيلي أو صمتها عن الإبادة في غزة لا يعني إنكار التناقضات داخل مجتمعها، ولا يعني الانزلاق إلى خطاب حضاري يختزل “الشرق” في بنية استبدادية واحدة، بل يعني ببساطة التعامل مع الصين كما نتعامل مع الولايات المتحدة أو روسيا: كقوّة مادية ملموسة تنتج قرارات وسياسات يجب مساءلتها.

في المقابل، يجدر بالتحليل الطبقي ألا يتحوّل إلى ذريعة لتعليق كلّ شيء على شماعة “النظام الرأسمالي العالمي” في تجريدٍ مبالغ فيه، يساوي بين الضحية والجلاد، فهناك فرق بين مجتمع صيني يتظاهر (حين يُسمح له) تضامناً مع غزة، وبين مؤسسات دولة صينية تستثمر في مستوطنات الأغوار.

ليست القضية أن نُقرّر ما إذا كانت الصين “عدواً” أو “صديقاً” في المطلق، بل أن نكفّ عن التعامل معها كصندوقٍ أسود. هي ساحة صراع مفتوح: بين رأس مال متعاطٍ مع الاستيطان والإبادة، وبين مجتمعٍ يحمل في ذاكرته الخاصة تجارب استعمار وقهر واستغلال

ما العمل عربياً؟

إذاً، ماذا يبقى من كل هذا للعرب والفلسطينيين؟

-أولاً، سقوط وهمٍ جديد: الصين ليست بديلاً أخلاقياً عن الغرب، بل قوة تسعى إلى أن تكون الهيمنة القادمة، الفرق بينها وبين الولايات المتحدة هو في المرحلة والأسلوب لا في الجوهر. البحث عن “إمبراطورية نظيفة” رهان خاسر، فكل قوّة رأسمالية كبرى ستضع مصالحها في رأس أولوياتها، وفلسطين بالنسبة إليها بند تفاوض، لا معيار عدالة.

-لكن هذا لا يعني إدارة الظهر للصين أو الاكتفاء بلعنها من بعيد. على العكس، المطلوب هو الانتقال من موقع المتفرّج إلى موقع الفاعل، أي أن تتوجّه النخب العربية الشابة والأكاديمية إلى الصين عبر المنح الدراسية ومراكز الأبحاث والإعلام والعمل الثقافي.

-أن تتكوّن داخل الجامعات والمؤسسات الصينية شبكات ضغط فكرية وثقافية قادرة على تقديم سردية مختلفة عن فلسطين، وعن العرب عموماً، تكسر صورة “الآخر الصامت” وتعرّي المشروع الصهيوني بلغة يفهمها الصينيون، في ضوء تجاربهم الخاصة مع الاحتلال والحرب والفقر.

-أن يُستثمر الميل الشعبي الصيني إلى التعاطف مع القضايا العادلة، لا كزينة معنوية، بل كرافعة لبناء رأي عام يُصعّب على الدولة تجاهل الكلفة الأخلاقية والرمزية لعلاقاتها مع إسرائيل.

-صحيح أنّ بوابة الحزب–الدولة في بيجينغ شبه مغلقة أمام أيّ تغيير أيديولوجي مباشر، لكنّ الهرم يمكن اعتلاؤه من أسفله: من المدرسة والجامعة ومنصّات التواصل والبحث العلمي. الرأسمالية الصينية نفسها تحتاج إلى صورة أخلاقية أمام شعوب الجنوب، وهذه ثغرة يمكن للعرب أن يدخلوا منها، إذا امتلكوا المشروع والمعرفة واللغة.

في النهاية، ليست القضية أن نُقرّر ما إذا كانت الصين “عدواً” أو “صديقاً” في المطلق، بل أن نكفّ عن التعامل معها كصندوقٍ أسود. هي ساحة صراع مفتوح: بين رأس مال متعاطٍ مع الاستيطان والإبادة، وبين مجتمعٍ يحمل في ذاكرته الخاصة تجارب استعمار وقهر واستغلال. مهمّة العرب ليست التصفيق للصين ولا لعنها كذلك، بل النضال داخلها أيضاً، بالكلمة وبالمعرفة وببناء جسور مع أولئك الذين يرون في “الهندباء” الفلسطينية امتداداً لمقاومتهم هم.

فهرس المراجع:

[1] Sun Yat-sen, “Letter to N.E.B. Ezra (1920)”, 29 Rue Molière, 24 April 1920، نص الرسالة على ويكي سورس.
https://en.wikisource.org/wiki/Letter_to_N.E.B._Ezra_(1920)

[2] Times of Israel, “China’s century-old support for Zionism surfaces in letter”, 10 February 2021.
https://www.timesofisrael.com/chinas-century-old-support-for-zionism-surfaces-in-letter/

[3] Shalom Salomon Wald, “China’s Interaction with Israel and the Jewish People”, Jerusalem Center for Public Affairs.
https://jcpa.org/article/chinas-interaction-with-israel-and-the-jewish-people/

[4] Vera Schwarcz (أو كاتب مشابه)، “Encounters Between Chinese and Jewish Civilizations”, Education About Asia, Association for Asian Studies.
https://www.asianstudies.org/publications/eaa/archives/encounters-between-chinese-and-jewish-civilizations/

[5] Jonathan Goldstein, “Betar China: The Impact of a Remote Jewish Youth Movement, 1929–1949”, Jerusalem Center for Public Affairs.
https://jcpa.org/article/betar-china-the-impact-of-a-remote-jewish-youth-movement-1929-1949/

[6] Al-Estiklal, “Expert on China’s Foreign Policy: Beijing Colludes with ‘Israel’—Not a True Ally to Iran”.
https://www.alestiklal.net/en/article/palestinian-expert-china-colluding-with-israel-not-a-true-ally-to-iran

[7] Zhang Sheng, “From Global Anti-Imperialism to the Dandelion Fighters: China’s Solidarity with Palestine from 1950 to 2024”, Mondoweiss/Transnational Institute، 30 March 2025.
https://mondoweiss.net/2025/03/from-global-anti-imperialism-to-the-dandelion-fighters-chinas-solidarity-with-palestine-from-1950-to-2024/

[8] Al-Haq & CIHRS, “Palestine: Al-Haq and CIHRS Welcome Publication of UN Database on Settlement Business Activities”, 13 February 2020.
https://www.alhaq.org/advocacy/16449.html

[9] AFSC Investigate, “Bright Dairy & Food Co Ltd”.
https://investigate.afsc.org/company/bright-dairy-food-co

[10] Times of Israel، “Chinese state company buys controlling stake in Tnuva”, 22 May 2014؛ وكذلك تقرير رويترز عن الصفقة.
https://www.timesofisrael.com/chinese-state-company-buys-controlling-stake-in-tnuva/

[11] Fosun Group, “Fosun Acquires Entire Stake in Israel’s Dead Sea Mineral Skincare Brand AHAVA”, 12 April 2016؛ وAli Abunimah, “Chinese purchase of Israel’s Ahava shows boycott is hurting”, Electronic Intifada, 4 September 2015؛ إضافة إلى مدخل Fosun/Ahava في قاعدة بيانات AFSC.
https://en.fosun.com/content/details46_4293.html
https://electronicintifada.net/blogs/ali-abunimah/chinese-purchase-israels-ahava-shows-boycott-hurting
https://investigate.afsc.org/occupations

[12] UN Human Rights Office, تحديث قاعدة بيانات الشركات العاملة في المستوطنات، أيلول/سبتمبر 2025، كما نقلته وكالتا رويترز وAP.
https://www.reuters.com/world/middle-east/more-than-150-companies-have-ties-israeli-settlements-un-database-finds-2025-09-26/

[13] “China–Israel relations”, Wikipedia؛ وGov.il, “Israel and China mark 15 years of diplomatic relations”, 24 January 2007.
https://en.wikipedia.org/wiki/China%E2%80%93Israel_relations
https://www.gov.il/en/pages/israel-and-china-mark-15-years-of-diplomatic-relations-24-jan-2007

[14] Wang Yi, “On His Visit to Israel: It is for Friendship, Cooperation and Peace”, Embassy of China in Israel, 24 December 2013.
https://tl.china-embassy.gov.cn/eng/xwdt/201312/t20131224_1139129.htm

[15] Transnational Institute, “Zhang Sheng: Why Chinese Netizens Call Palestinian Fighters ‘Dandelions’”, فيديو وتعريف، 12 March 2025.
https://www.tni.org/en/video/zhang-sheng-why-chinese-netizens-call-palestinian-fighters-dandelions

[16] AFSC Investigate, “Adama Ltd”.
https://investigate.afsc.org/company/adama

[17] Who Profits, “Adama – The Israeli Occupation Industry”.
https://www.whoprofits.org/companies/company/6596

[18] Ministry of Foreign Affairs of the PRC، “Remarks by China’s Permanent Representative to the UN Ambassador Zhang Jun at the UN Security Council Briefing on the Situation in the Middle East, Including the Palestinian Question”.
https://www.mfa.gov.cn/eng/xw/zwbd/202405/t20240530_11365740.html

[19] Middle East Monitor, “ICJ hearing into legal consequences of Israel’s occupation – day 4”, 22 February 2024 (تصريحات ما شينمين).
https://www.middleeastmonitor.com/20240222-icj-hearing-into-legal-consequences-of-israels-occupation-day-4/

[20] Ihsan Adel & Katherine Gallagher, “Genocide in Gaza: A call for urgent global action”, Al Jazeera Opinion, 12 November 2023.
https://www.aljazeera.com/opinions/2023/11/12/genocide-in-gaza-a-call-for-urgent-global-action

Print Friendly, PDF & Email
محمد فقيه

كاتب سياسي؛ لبنان

Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  "ميني حرب لبنانية".. أين جعجع والجيش وحزب الله؟