من محكمة الديراني إلى معسكرات سديه تيمان.. العدالة للمستعمِر فقط

ليلة عيد الأضحى من العام 1994، اخترقت فرقة كوماندوس إسرائيلية عمق منطقة البقاع اللبناني لتختطف المسؤول في "حركة أمل الإسلامية" مصطفى الديراني، على خلفية اتهامه بالضلوع في قضية اختفاء الطيار الإسرائيلي رون آراد، الذي سقطت طائرته في جنوب لبنان، واختفى أثره منذ ذلك الحين.

نُقلَ مصطفى (أبو علي) الديراني من سهل البقاع إلى منشأة إسرائيلية سرية عُرفت لاحقًا باسم “Facility 1391“، وأُخضع لتعذيبٍ شديد القسوة تضمن انتهاكات جنسية، بهدف نزع اعترافاتٍ منه تميط اللثام عن مصير الطيار المفقود.

لاحقًا وفي العام 2000 وخلال وجوده في السجون الاسرائيلية، تقدّم الديراني بدعوى مدنية ضد الحكومة الإسرائيلية، مطالبًا إياها بتعويض قدره ستة ملايين شيقل (نحو 1.47 مليون دولار)، عما لحقه من أضرار نتيجة أساليب التعذيب الوحشية وسوء المعاملة التي كشف الديراني عن تفاصيلها بدقة، موجهًا اتهامًا مباشرًا لضابط التحقيقات في “الوحدة 504″، المعروف باسم “الكابتن جورج”.

وبرغم أن المحكمة أقرت حق الديراني بالتعويض، إلا أنها ماطلت في تنفيذه، حتى عام 2015 حين رفضت المحكمة العليا الإسرائيلية التماس الديراني، مبرّرة قرارها بأنه “عاد إلى صفوف الأعداء” وبالتالي “لا يستحق التعويض ولا يملك حق المطالبة به”. بهذا الحكم، لم تحمِ إسرائيل فقط جلّاديها، بل رسّخت مبدأً قانونيًا صادماً معياره؛ “أن العداء السياسي يسقط الحق الإنساني”، في سابقة تكشف بنية استعمارية تُعيد تعريف العدالة بما يلائم احتياجات الدولة، لا معايير القانون.

هذه السابقة القانونية لم تكن حادثة منفصلة، بل مرآة لما سيصبح لاحقًا مكوّنًا صلبًا في العقيدة الأمنية الإسرائيلية، تجلّى بشكل أكثر عنفًا خلال حرب الإبادة على غزة (2023-2025)، حين أُطلقت سرديات انتقامية من أعلى المستويات السياسية والعسكرية والدينية، واعتُبر القتل والنهب والتعرية والاعتداء الجنسي جزءًا من “فعل مشروع” داخل مجتمع يقدّم جنوده المنتهكين بوصفهم أبطالًا، ويجد في القتل والحرق والسرقة والاغتصاب فعلًا مبررًا للانتقام.

يتعاظم ذلك مع تسريب فيديوهات وشهادات وتسجيلات لحالات اغتصاب وانتهاكات جنسية في السجون ومراكز الاحتجاز الإسرائيلية بحق الفلسطينيين، رجالًا ونساءً، تلقفها المجتمع الإسرائيلي بكثيرٍ من الحفاوة والترحيب والزهو بمجرميها كأنهم أبطال، ليؤكد ذلك عقيدة أمنية ومجتمعية إسرائيلية، يُستخدم فيها الجسد ساحة إذلال وسيطرة، ويُعزّز من قناعة الفلسطينيين قبل غيرهم، أن الإفصاح الفردي الخجول عن التعذيب الجنسي لا يعكس حالات فردية وإنما جزءًا من سياسة مؤسساتية معتمدة تاريخيًا.

الأمل الحقيقي هو أن يتحرك الشارع الفلسطيني من جديد، ويردم الهوة بينه وبين مجتمع الأسرى، ويعيد لهم مكانتهم وتموقعهم في الحركة الوطنية النضالية، لأنهم فقط الشهداء الأحياء، الذين اختبروا الموت والحياة واقتربوا من سجّانهم إلى لحظات المواجهة اليومية الشرسة، ما يجعلها الأقدر على قيادة النضال نحو الحرية، حرية الجسد والأرض والروح

تطبيع الجسد وتطويعه

نعم، يجد هذا السلوك جذوره في سياسة مؤسساتية ممتدة منذ عقود، تؤكدها تقارير منظمات حقوقية إسرائيلية ودولية مثل B’Tselem وPublic Committee Against Torture in Israel PCATI منذ تسعينيات القرن الماضي، وثّقت شهادات عن تهديد المعتقلين “بالاغتصاب أو الاعتداء على شرف عائلاتهم”، واستخدام التعرية القسرية والتفتيش العاري كأداة إذلال يومية في مراكز التحقيق والسجون.

هذا التفتيش الذي يُقدَّم في الخطاب الإسرائيلي كإجراء أمني اضطراري، وكرد فعلٍ على العمليات الاستشهادية التي حوّل بها الفلسطينيون أجسادهم إلى قنابل، فقرّر المحتل تحويلها إلى مساحات مراقبة وهيمنة، حتى أضحت فعلًا روتينيًا يُمارس ضد النساء والفتيات الفلسطينيات في سجون الدامون وهشارون، حين يُجبرن على نزع ملابسهن تحت تهديد الكلاب والسلاح، مرة ومرات، دون أن يُحرّك ذلك في الضمير العالمي أو الحقوقي القانوني أي التفاتة تذكر.

واليوم يتعزز ذلك تحت وطأة الإبادة- التي لم تتوقف بصمت الرصاص-، فتقارير الأمم المتحدة والمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، وثّقت انتهاكات جنسية ضد معتقلين فلسطينيين في سجن سديه تيمان، وفي مراكز الاحتجاز الأخرى، تضمنت ضرب الأعضاء التناسلية والتعرية القسرية، والاغتصاب الفعلي من قبل جنود الاحتلال ومن قبل كلابهم المدربين على هذا الفعل.

هذه الشهادات المغرقة في عنفها، تمر مرور الكرام، على الصحافة العربية، وعلى المجتمع الفلسطيني ومؤسساته الرسمية والمدنية التي اكتفت بعضها بإصدار بيانات الشجب والاستنكار، فيما برّرت أخرى ارتهانها للخطاب الدولي وأمواله، بالقول إن الشهادات بحاجة إلى تدقيق وتحقيق قبل الأخذ بها، وحتى الشارع الفلسطيني الذي مرّ أكثر من مليون نسمة من أبنائه بتجربة الاعتقال لم يُحرّك ساكنًا، وفضّل الإدانة عبر فضاء مواقع التواصل الاجتماعية، بدلًا من التحرك على الأرض.

يُحيلنا ذلك إلى تأكيد نجاعة النظم التي يستهدف الاحتلال الإسرائيلي الشعب الفلسطيني عبرها، بدءًا من تطبيع الجسد وتطويعه لصالح المستعمر، وتبرير أي انتهاكٍ له بصفته رد فعلٍ على عمل مقاوم، والاحتفاء بالانتهاك ومن يقوم به كأنما يحتفي بجندي عائد من ميدان معركة، فيما ينتزع جميع الأنياب القانونية والسياسية والأممية التي يمكن للفلسطينيين، جمهورًا وقيادة، اتخاذها لمحاصرة المحتل أو إحراجه دوليًا، بينما تنكسر في داخل الفلسطيني علاقته بجسده، فمجتمعه فأرضه.

إقرأ على موقع 180  إسرائيل و"سيناريو حرب لبنان": مئات القتلى وآلاف الصواريخ!

كسر الصمت

تغدو النظم الإسرائيلية أكثر إيقاعًا، بادعاء اعتقال عدد من الجنود المتهمين، وتصدر الأخبار حول انتكاس حالة بعضهم النفسية، برغم الحفاوة المجتمعية بجرمهم، لكنه في الواقع ليس أكثر من تمظهر خارجي لدولة تُصمّم الديموقراطية والحقوق على مقاس حاجاتها وأمنها وجمهورها فقط، حتى يغدو المخرج النهائي “لا عدالة لمن يقاومنا”، يتشابه ذلك جدًا مع دعوى مصطفى الديراني، لكنه يتشابه أكثر من دعاوى الإبادة الجماعية في لاهاي والمحكمة الجنائية الدولية، حين يُغلق باب المحاسبة، ويترسخ معيار قانوني أيديولوجي واحد؛ العدالة للمستعمر فقط، أيًا كان موقعه.

بالمحصلة، تتسع ظاهرة الإفصاح عن الانتهاكات الجنسية داخل السجون، وربما سيزداد عدد من يُصرّحون بما جرى معهم في السجون، لكن من غير المتوقع أن يُحدث ذلك كبيرَ أثر، فالاحتلال على مدى عامين من الإبادة، وأكثر من 70 عامًا على النكبة، رسخ أدوات استعمارية، تجعل اقتحامه للجسد جزءًا من اقتحامه للأرض وانتهاكها.

ومن التاريخ إلى الحاضر، فحين وقف الديراني في المحكمة مطالبًا بحقه خسر قضيته، لكنه كسر الصمت؛ هذا الصمت نفسه أعاد عشرات من الفلسطينيين كسره بشهادتهم، على أمل استثماره في محاكمة إسرائيل، وإدانة فعلها وأدواتها بكل أشكاله، وتقويض نفوذها الدولي والإقليمي.

ومهما يكن من أمل بالقانون، فإن الأمل الحقيقي هو أن يتحرك الشارع الفلسطيني من جديد، ويردم الهوة بينه وبين مجتمع الأسرى، ويعيد لهم مكانتهم وتموقعهم في الحركة الوطنية النضالية، لأنهم فقط الشهداء الأحياء، الذين اختبروا الموت والحياة واقتربوا من سجّانهم إلى لحظات المواجهة اليومية الشرسة، ما يجعلها الأقدر على قيادة النضال نحو الحرية، حرية الجسد والأرض والروح.

Print Friendly, PDF & Email
سجود عوايص

باحثة أكاديمية وكاتبة فلسطينية مقيمة في ماليزيا

Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  ثنائية الجيش ـ الميليشيا.. وشرعية العنف!