رواية حسّان الزين.. طانيوس شاهين سؤالٌ أم بطلٌ؟

في قلب رواية حسّان الزين عن طانيوس شاهين، لا يعود الأمر إلى استعادة شخصيّةٍ "تاريخيّةٍ" خرجت من الكتب المدرسيّة لتطلّ علينا في صيغةٍ روائيّةٍ جذّابةٍ فحسب، بل إلى إجراء "تشريحٍ أنثروبولوجيٍّ" للّبنانيّ المقهور، عبر نموذج فلّاحٍ من كسروان في منتصف القرن التّاسع عشر، حمله الناس على أكتافهم ثم أنزلته الهزيمة إلى عزلةٍ قاسيةٍ وسؤالٍ وجوديٍّ معلَّقٍ في الهواء: "ماذا فعلتُ لأستحقّ هذا"؟ والسّؤال، كما يوضح الزّين، لا يخصّ طانيوس وحده؛ إنه سؤال لبنان بأسره، سؤال شعبٍ وجد نفسه في قدرٍ لا يشبه أحلامه.

من الفلّاح إلى “الزّعيم”.. بداية زمنٍ جديدٍ

تقدّم الرّواية طانيوس شاهين كأوّل قائدٍ جماهيريٍّ في جبل لبنان خارج العائلات المقاطعجيّة والنُخب التقليدية. هو مكاريٌّ، حدّادٌ، رجلٌ من السّوق. هذا التّفصيل الذي يبدو تاريخيّاً–سياسيّاً هو في جوهره معطىً أنثروبولوجيّاً: انتقال القيادة من “النَسَب” إلى “الكاريزما” ومن “الدّم” إلى “محبّة النّاس”. هنا بالتّحديد يقرأ الزّين شخصيّة طانيوس بوصفها مدخلاً لفهم نشأة الزّعامة اللّبنانيّة الحديثة: زعامةٌ تقوم على استثمار غضب الجماعة، ووجعها، وأوهام خلاصها، أكثر ممّا تقوم على برنامجٍ سياسيٍّ.

طانيوس ابن بيتٍ صغيرٍ في كسروان، يحمل جرحاً غائراً: مقتل أبيه على يد أحد مشايخ آل الخازن. هذا الحدث – كما يقول الزّين – لم يكن وحده السبب في انتفاضته، لكنه شكّل “الشّرارة الأخلاقيّة” التي جعلت الناس يثقون به: الرّجل الذي لم يصافِح قاتل أبيه ولم يخضع للشّيخ، يمكن أنْ يُعَوَّلَ عليه في مواجهة بيت الخازن. من هنا، يتحوّل الثّأر الشّخصيّ إلى رصيدٍ معنويٍّ، وتتحوّل المظلوميّة الفرديّة إلى رأس مالٍ رمزيٍّ للجماعة. هذه الحركة من الخاص إلى العام، من الجرح الشّخصيّ إلى “قضيّةٍ”، هي ما يمنح طانيوس بعده الأنثروبولوجيّ؛ إنّه نموذج الإنسان الذي يحوّل آلامه الخاصّة إلى منصّةٍ لصنع معنىً جماعيٍّ، وربما… لجرّ الجماعة إلى هاويةٍ جديدةٍ.

إنسانٌ لا بطلٌ.. دراما الضّعف في قلب الثّورة

الرّواية تُصِرُّ على أنّ طانيوس ليس بطلاً استثنائيّاً، بل إنساناً عاديّاً اضطرّته ظروفه ليكون بطلاً. هذا “الاضطرار” أساسيٌّ لفهم رؤية الزّين: ليست البطولة اختياراً حرّاً، بل استدراجاً إلى دورٍ أكبر من الطّاقة. هنا يتبدّى طانيوس شاهين ككائنٍ هشٍّ، متردّدٍ، ممزَّقٍ بين الخوف والاندفاع، بين رغبته في المساواة ومحدوديّة وعيه، بين طموحٍ سياسيٍّ كبيرٍ وأفقٍ معرفيٍّ محدودٍ.

من منظورٍ أنثروبولوجيٍّ، نرى أمامنا “الإنسان–الحدّيّ”: ابن قريةٍ لا يتقن سوى لغتها وعاداتها وأمثلتها الشّعبيّة، يجد نفسه في لحظةٍ تاريخيّةٍ تتحوّل فيها كسروان إلى مسرح لعبةٍ دوليّةٍ: فرنسا، النمسا، روسيا، بريطانيا، الدّولة العثمانيّة. طانيوس لا يعرف هذه القوى، ولا يفهم خرائطها، لكنّه – بدافع من غضب الفلّاحين وحبّ النّاس – يرشّح نفسه موضوعيّاً ليتحرّك في فضاءٍ لم يُصَمَّمَ لمن هم من طينته. هنا تنشأ الدّراما: من فجوةٍ بين حجم الذات وحجم التّاريخ، بين طاقة الفرد وطاحونة الجغرافيا–السّياسيّة.

الزّين يُحوّل هذه الفجوة إلى مسرح سرده: طانيوس الذي لا ينجب أولاداً، ويعيش بين يُتْمٍ مبكرٍ وعجزٍ بيولوجيٍّ عن امتداد السّلالة، محكومٌ بقدرٍ مزدوجٍ: فقدان الأب وفقدان الابن. بينهما، يحاول أنْ يَلِدَ معنىً آخر: ثورةً، مساواةً، عدالةً، أو على الأقلّ انتقاماً عادلاً. كأنّ الرّواية تقول: حين يُسَدُّ أفق “الوراثة البيولوجيّة”، يحاول الإنسان أنْ يخلّد نفسه عبر “الوراثة الرّمزية”؛ عبر بطولةٍ، ثورةٍ، أو مجدٍ سياسيٍّ. لكنّ هذه المحاولة، في حالة طانيوس، تنتهي إلى عزلةٍ ونسيانٍ نسبيٍّ، وإلى صورة رجل يشرب عرقاً على هامش التّاريخ ويسأل نفسه: ماذا فعلت؟

سؤال “ماذا فعلت؟”.. من الفرد إلى الجماعة

عنوان الرواية “ماذا فعلتُ لأستحقَّ هذا؟” يبدو للوهلة الأولى جملة تبريرٍ أو نبرة تظلّمٍ. لكنّ الزين يضغطه إلى عمقه الوجوديّ: إنّه سؤال يُوَجَّهُ إلى التّاريخ لا إلى النّفس وحدها. من هنا يتحوّل طانيوس من حالةٍ فرديّة إلى استعارةٍ جماعيّةٍ: “كلّنا طانيوس شاهين”، كما يقول الكاتب. كلّ إنسانٍ لبنانيٍّ، محكومٌ بالانسداد والفشل المتكرّر، يطرح السّؤال نفسه: ماذا فعلتُ – على مستوى الفرد، والقرية، والطّائفة، والوطن – لأتلقى هذا القدر من القسوة؟

في قراءة أنثروبولوجيّة، السّؤال يكشف عن شعورٍ جماعيٍّ بالعجز أمام بنيةٍ أكبر من الأفراد: بنيةٍ طائفيّةٍ–سياسيّةٍ–اقتصاديّةٍ تعيد إنتاج المأزق نفسه عبر القرون. الزّين يلمّح إلى خلاصاتٍ قاتمةٍ: اللّبنانيّ–الإنسان محكوم بالفشل إلا إذا هاجر أو دخل السّلطة. من يبقى خارج السّلطة–المحميّة بالطّوائف والقوى الخارجيّة والأحزاب المسلّحة – يبقى خارج دورة النّجاة. هنا يتكشّف وجه “القدر”: ليس قدراً غيبيّاً، بل بنيةٌ اجتماعيّةٌ–سياسيّةٌ تعمل عمل القدر: تهمّش، تعاقب، تبتلع، وتعيد إنتاج نفسها.

الطائفيّة.. القيد الأعمى الذي يرفع ويذبح

الرواية تقرأ الطاّئفة لا الطائفيّة كقوةٍ بنيويّةٍ تعبر حياة النّاس اليوميّة، وتقيم في الأمثال الشّعبيّة والعلاقات الجيرانيّة ونظرة النّاس إلى القتل والحلال والحرام. طانيوس شاهين نفسه، كما يعترف الزّين، صعدت ثورته وسقطت بالسّلاح نفسه: الطّائفية – برغم أنّه (أيْ شاهين) كان يتمنى لو وقف معه فلاحو الدّروز ويكونوا معاً في ثورةٍ واحدةٍ ضدّ الإقطاع والمشايخ في جبل لبنان كلّه – وهي التي منحته قوة تعبئة الفلّاحين الموارنة ضد بيت الخازن وضدّ “الظلم”، وهي التي أسهمت في إنهائه حين تحوّل التوتّر المذهبيّ إلى حروب 1860.

الأنثروبولوجيا السياسية هنا واضحة: الطّائفة ليست مجرّد “انتماءٍ روحيٍّ” بل شبكة حمايةٍ ومخيّلةٌ جماعيّةٌ وحليفٌ وسلاحٌ في آنٍ واحدٍ. إنها الحقل الذي يتشكّل فيه معنى الظلم والعدالة، الصديق والعدو، “نحن” و”هم”. الرواية لا تبرّئ طانيوس من استخدام هذا الحقل، لكنها تُظهر محدوديته الكارثية، فحين تُفْلِتُ الطائفيّة من عقالها، تفلت من يد زعيم الفلّاحين كما تفلت من يد الزّعماء المعاصرين. إنها أقوى من كلّ من يستدعيها، فيصبح طانيوس شاهين في لحظةٍ هو المؤجّج وهو الضّحية في آنٍ معاً.

طانيوس شاهين الذي لا يُنجب أولاداً، ويعيش بين يُتْمٍ مبكرٍ وعجزٍ بيولوجيٍّ عن امتداد السّلالة، محكومٌ بقدرٍ مزدوجٍ: فقدان الأب وفقدان الابن. بينهما، يحاول أنْ يَلِدَ معنىً آخر: ثورةً، مساواةً، عدالةً، أو على الأقلّ انتقاماً عادلاً. كأنّ الرّواية تقول: حين يُسَدُّ أفق “الوراثة البيولوجيّة”، يحاول الإنسان أنْ يخلّد نفسه عبر “الوراثة الرّمزية”؛ عبر بطولةٍ، ثورةٍ، أو مجدٍ سياسيٍّ. لكنّ هذه المحاولة، في حالة طانيوس، تنتهي إلى عزلةٍ ونسيانٍ نسبيٍّ، وإلى صورة رجل يشرب عرقاً على هامش التّاريخ ويسأل نفسه: ماذا فعلت؟

العودة إلى القرن التّاسع عشر لفهم الحاضر

الزّين لا يقرأ طانيوس شاهين كتفصيلةٍ في تاريخ كسروان، بل كعتبةٍ لفهم “زمنٍ لبنانيٍّ” بدأ مع بشير الشّهابي، ومرّ بطانيوس، ولا يزال مستمراً إلى اليوم. القرن التّاسع عشر، كما يراه، ليس زمناً منقضياً، بل مخزوناً حيّاً من العناصر السّياسيّة والاجتماعيّة التي ما زالت تتحرّك في لبنان الرّاهن: الزّعامة الشّخصية، الرّعاية الخارجيّة، الطّائفية، الإقطاع الجديد، والفشل البنيويّ في إنتاج دولةٍ.

من هنا الأهمّية الأنثروبولوجيّة للنّص: إنه لا يقدّم سرداً خطيّاً للوقائع، بل يستخدم التّاريخ كمرآةٍ لفحص جملةٍ تعبنا من تردادها في الأدبيّات اليساريّة والقوميّة: “بدايات الرأسماليّة، تغيّر الطائفية…” إلخ. هذه العبارات التي بدت شعاراتيّةً ومبهمةً، يحاول الزّين أنْ يختبرها على لحم السّرد: كيف يتجلّى “التّغلغل الرأسماليّ” في حياة فلاحٍ من كسروان؟ كيف يتغيّر معنى الطّائفة حين تدخل البنوك والقناصل والمصالح الأجنبيّة إلى جبل لبنان؟ لا يجيب بأطروحاتٍ جاهزة؛ يترك السّرد يعمل عمل المبضع: يشرّح ولا يحكم.

اللّغة كأرشيفٍ اجتماعيٍّ حيٍّ

واحدةٌ من أهمّ رهانات الرّواية هي اللّغة. الزّين أراد نصّاً “ينتمي لذلك الزّمن” من دون أن يتكلّس في لغته القديمة غير المقروءة اليوم. فدخل في “مختبرٍ لغويٍّ” طويلٍ: قرأ نصوصاً كُتِبَتْ في زمن طانيوس أو بعده بقليل (منصور الحتوني، أنطون ظاهر الحريقي، حيدر الشّهابي)، فوجد لغةً متعثّرةً، طويلةً، مليئةً بمفرداتٍ وصيغ غير مستساغة الآن. لم يشأ أن يستنسخها، بل أنْ يعيد خلق لغةٍ جديدةٍ–قديمةٍ: تُقْرَأُ اليوم، وتنتمي بالأذن والرّوح إلى القرن التّاسع عشر.

إقرأ على موقع 180  لبنان: حرب الإبادة.. والنقد الذاتي المطلوب (4)

هنا يستعين الزّين بمصدرَيْن أنثروبولوجيّين أساسيّين:

  1. قاموس العامّية في جبل لبنان كما جمعه أنيس فريحة.
  2. المثل الشّعبيّ أيضاً كما وثّقه أنيس فريحة.

المثل الشّعبيّ، كما يقدّمه حسّان الزين، ليس زينةً لغويّةً، بل “دستورٌ” عمليٌّ ينظّم السّلوك، فيه ما هو حلالٌ وحرامٌ، ما هو مستحبٌّ ومذمومُ، متى يُحَلُّ القتل، متى تُحْفَظُ الجيرة، كيف تُقَيَّمُ الرّجولة والشّرف. إنّه مختصرٌ للمنظومة القيميّة التي حكمت أهل الجبل. حين يكتب عن علاقة طانيوس بأمه وزوجته وجيرانه، فهو يستنطق هذه الأمثال: كيف يرى رجلٌ من كسروان “الأمّ الصّالحة، الزّوجة، الشّيخ، الجار، القاتل، الزّلمة القويّ”. اللّغة هنا ليست أداةً، بل أرشيفاً للذهنيّة وللمخيال الجماعيّ.

في هذا السّياق، يمزج الزّين بين العاميّة والفصحى بذكاءٍ حذرٍ: لا “يُفَصْحِنُ” كلام طانيوس؛ لأنّ ابن كسروان في القرن التّاسع عشر أقرب إلى السّريانيّة والآراميّة في مخارج ألفاظه منه إلى الفصحى المدرسيّة. لكنّه أيضاً لا يغرق في العاميّة الرّاهنة. يخلق طبقةً لغويّةً وسطى، يمكن أنْ نتصوّرها، كما يقول، لغةً قد يتكلّم بها طانيوس لو جرى استحضاره اليوم ليتحدّث مع ابن القرن الحادي والعشرين.

الرّواية كمنظارٍ على السّرديات المتنازعة

النصّ مشغولٌ تاريخيّاً بدقةٍ لافتةٍ للانتباه، تقسيم الفصول بحسب الحقبات، الالتزام بالمحطّات الكبرى (الاحتلال المصريّ، نفي بشير الشّهابيّ، القائمقاميتان، ثورة كسروان، حرب 1860). لكنّه لا يتبنّى سرديّة مؤرخٍ بعينه، ولا يتورّط في أيديولوجيا جاهزةٍ. في بلدٍ له “صراعٌ على تاريخ لبنان” كما يقول أحمد بيضون، يحاول الزّين أنْ يفلت من “التّاريخ الرّسمي” ومن تأويلات اليمين واليسار على حدٍّ سواء.

في حادثةٍ واحدةٍ، قد نجد عنده تقاطعاً بين كمال الصّليبي وفوّاز طرابلسيّ وأسامة مقدسيّ وقراءة الأرشيف العثمانيّ ورسائل طانيوس نفسه. الرّواية لا تستنسخ هذه القراءات بل تُدْخِلُها في “بوتقة السّرد”: تُخْضِعُها لرؤية طانيوس – كما كان يمكن أنْ يراها ويشعر بها – ثم تترك للقارئ ملحقاً يتضمّن الرّواية الدّرزية مثلاً لحرب 1860، لأنّ السّرد من وجهة نظر طانيوس (وموارنة ذلك الزّمن) يطمسها. هكذا تتوزّع الأدوار، النّص الرّوائي يلتزم بزاوية الرّؤية، فيما الملحق يلعب دور الباحث الذي يعيد التّوازن للمشهد.

بهذا المعنى، الرّواية ليست “تأريخاً” بقدر ما هي “نقدٌ للسّرديّات التّاريخيّة” من داخلها، عبر عدسة إنسانٍ واحدٍ وجماعةٍ واحدةٍ.

طانيوس كنموذجٍ أنثروبولوجيٍّ للزّعيم اللّبنانيّ

واحدةٌ من أكثر النّقاط إثارةً التي يطرحها الزّين هي أنّ طانيوس شاهين دشّن “زمن الزّعماء” من خارج العائلات المقاطعجيّة. قبل طانيوس، كان هناك المدبّر أو الكاخيّة عند المعنيّين والشّهابيّين: مَن يُدرِّسُ الأولاد، يدير ثروة الأمير، ثم يتضخّم نفوذه فيصفّيه الأمير. أمّا طانيوس، فهو أوّل زعيمٍ “ابن النّاس” لا يتبع للباب العالي ولا للبلاط ولا للقناصل. منذ تلك اللحظة، تبدأ سلسلةٌ طويلةٌ من الزّعماء والقادة اللّبنانيين الذين يخرجون من صفوف النّاس، ويصعدون على ظهر “محبة الجماهير” و”الغضب الطائفي” و”حلم الخلاص”، ثم ينتهون إلى السّلطة أو إلى الهزيمة.

الزين يلمّح إلى تشابهاتٍ معاصرةٍ: نبيه بري قبل استقرار رئاسته، سمير جعجع في بداياته العسكريّة، السيد حسن نصرالله في حمله جماعته إلى أقصى مدًى من الحلم والمغامرة، كمال جنبلاط الذي أحبّ طانيوس مع أنّه (أي طانيوس) أحد مسبّبات الحرب الدّرزية–المارونيّة في 1860. بل حتى أبو جواهر في مسرحيّة زياد الرّحباني “فيلمٍ أميركيٍّ طويلٍ” يُسْتَدْعَى كنموذجٍ: ابن النّاس الذي يصير زعيماً ويخون النّاس. طانيوس لم يخن، لكن في “مسار الزّعامة” ما يشبهه من الناس وإليهم، وبهم وإليهم… ثم ضدّهم أو بعيداً عنهم.

بهذا المعنى، طانيوس نموذج أنثروبولوجي للزّعيم اللّبناني، ابن بيئةٍ مقهورةٍ تراه مخلّصاً، يستثمر رصيده الأخلاقيّ/العاطفيّ في مواجهة “الإقطاع/السّلطة”، يتغذّى على اللّغة الطّائفية والرّمزية الدّينيّة، يلعب لعبةً أكبر من حجمه، مُحَاصَرَاً بقوًى إقليميّةٍ وداخليّةٍ، ينتهي مهزوماً أو معزولاً، أو – في حالاتٍ أخرى – منتصراً على النّاس لا لأجلهم.

الإنسان اللّبناني كقدرٍ.. عن الفشل المتكرّر

من خلال طانيوس، يصل الزّين إلى استنتاجٍ موجعٍ: “الإنسان اللّبناني مأزومٌ، محكومٌ بالفشل، إلا إذا هاجر أو دخل السّلطة”. هذا الحكم لا يخرج من تأمّلٍ فلسفيٍّ مجرّدٍ، بل من تتبّع مسار شخصٍ يحاول تحسين ظروفه ضمن بنيةٍ قاسيةٍ: سلطةٍ عثمانيّةٍ عليا، قناصل أجانب يريدون استخدامه لا تمكينه، كنيسةٍ قويّةٍ تراقب وتهذّب وتحاصر، عائلاتٍ مقاطعجيّةٍ متجذّرةٍ، وطائفيّةٍ تسري في كلّ شقٍّ من المجتمع.

في هذا السّياق، تبدو محاولة طانيوس لتغيير موقعه الاجتماعيّ والسّياسيّ مغامرةً محكوماً عليها بالفشل سلفاً. لكنّه لا يملك ألّا يخوضها. هنا قمّة المفارقة الأنثروبولوجيّة: الإنسان، حتى حين يعرف في لاوعيه استحالة النّجاح، يذهب إلى المعركة. يدفعه إلى ذلك مزيجٌ من الطّموح والكرامة والغضب وحبّ الناس، وهي كلها عناصر لا يمكن اختزالها في “وعيٍ طبقيٍّ” أو “أيديولوجيا”. إنّها مادة الحياة العميقة؛ ما يجعل الفلّاح يخرج من الحقل ليواجه شيخاً مدجّجاً بالشّرعية الدّينيّة والسّياسيّة.

فشل طانيوس ليس شخصيّاً، بل بنيويٌّ. هو الوجه الفرديّ لفشل جماعةٍ في بناء عقدٍ اجتماعيٍّ مختلفٍ، في كسر الطّائفية، في إنتاج سلطةٍ لا تُخْتَزَلُ في شيخٍ أو زعيمٍ أو حامٍ خارجيٍّ. ومن هنا تلتقي سيرة طانيوس بسيرة لبنان الحديث، سلسلة انتفاضاتٍ وثوراتٍ وحروبٍ، تنتهي غالباً إلى إعادة إنتاج النّظام نفسه بوجوهٍ جديدةٍ، وزعماء جددٍ، وأسئلةٍ قديمةٍ.

خاتمة.. طانيوس شاهين مرآة لبنان

في نهاية الرّواية، لا يبقى من طانيوس الزّعيم إلّا رجلٌ يجلس على أطراف قريته، يشرب العرق، يتهرّب من السّياسة التي يصفها بأنها “مثل الدّاخل بتنكة الكنيسة”، أيْ فضاءٌ مغلقٌ، خانقٌ، لا أفق فيه إلّا العتمة. من شيخٍ وزعيمٍ إلى شخصٍ منعزلٍ، ليس عزله خياراً حرّاً، لكنه قبِل به كقدرٍ أخيرٍ. في تلك اللّحظة، يسأل نفسه: “شو عملت ليصير فيي كل هيدا”؟

هنا يتماهى الكاتب مع شخصيّته، ويُسْقِطُ السّؤال على اللّبنانيين جميعاً: ماذا فعلنا – وما لم نفعل – لنستحقّ هذا القدر من الانهيار والخراب؟ السّؤال لا يبحث عن تبرئةٍ ولا إدانةٍ، بل عن معرفةٍ: أنْ يعرف اللبنانيّ نفسه وتاريخه، أنْ يفهم الأوزان الثّقيلة التي يحملها على كتفيه منذ قرنٍ ونصفٍ وأكثر.

رواية حسّان الزّين إذن ليست سيرةً بطوليّةً عن “قائد فلّاحين”، بل سيرة إنسانٍ عاديٍّ جرفته الموجة إلى موقع البطولة من دون عدّة المعرفة ولا حماية السّلطة، فسقط كما يسقط معظم الذين يحاولون في هذا البلد الخروج من أقدارهم. إنّها روايةٌ عن طانيوس شاهين الذي طلب الخلاص ولم ينله، وعن لبنان الذي لم يخرج بعد من دوره كضحيةٍ دائمةٍ، وعن سؤالٍ أنثروبولوجيٍّ مفتوحٍ: كيف تصنع الشّعوب أبطالها؟ وكيف يبتلعهم التّاريخ، ثم يعيدهم – بعد قرنٍ ونصفٍ – في صورة روايةٍ تحاول، عبر السّرد، أنّ تفهم: ماذا فعلنا لنستحقّ كلّ هذا؟

Print Friendly, PDF & Email
سعيد عيسى

دكتوراه في الأنتروبولوجيا الاقتصادية؛ كاتب وباحث في شؤون العمال والحماية الاجتماعية؛ خبير في الحوار الاجتماعي والحوكمة والتدريب.

Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  لنُفكّر بالبديل بدل الإستسلام للجهل والعصبيات!