الهجرة اليهوديّة إلى فلسطين والهجرة المضادّة.. ومن هم “شياطين العالم”؟ (5/5)

شكّلت هجرة يهود الشتات إلى فلسطين، في إطار سياسة بريطانيا الاستعماريّة الاستيطانيّة، الركن الأساسي لإقامة الكيان الصهيوني، ثمّ توسّعه وبناء قواه الشاملة بقيادةٍ أميركيّة. تمكّن هذا الكيان، بدفعٍ من النظام الرأسمالي الغربي، من استقطاب نصف يهود العالم تقريباً إلى فلسطين. لكن "الوطن القومي اليهودي" لم ينجح في صهر الهجرات اليهوديّة، من إثنيّات وثقافات متعدّدة ومختلفة، في بنية اجتماعية واحدة حقيقيّة، وهو ما أشار إليه الرئيس السابق لكيان الاحتلال رؤوفين ريفلين بـ"صراع القبائل الأربع" في الكيان. في هذا الجزء الخامس والأخير من هذه السلسلة أتناول قضية الهجرة اليهودية إلى الكيان والهجرة المضادة و"شياطين العالم" في العيون الأميركية والأوروبية.

لم ينجح الكيان الصهيوني في إنبات جذورٍ عميقة للمهاجرين اليهود إلى فلسطين. تعتمد الهجرة اليهوديّة للكيان الصهيوني على ما يستطيع هذا الكيان تقديمة للمهاجرين من “رخاء مادّي” ومن “أمن واستقرار”. تكفّل الغرب الأوروبي الأميركي بتنمية هذا الكيان عبر إغداق العطاءات عليه وإقامة بنى إداريّة وصناعيّة متقدّمة فيه. بَنَت أميركا خاصّة قدرات إنتاجيّة متقدّمة في الكيان، وغمرته بالحماية والسلاح المتطوّر وفتحت له أسواقها الداخليّة على كلّ صعيد.

كذلك مكّنته أميركا من التوسّع الجغرافيّ المستمر وابتلاع الكثير من الأرض العربيّة، وما زالت، ولكنّها لم تستطع أن تعطيه القبول السياسي (برغم “السلام البارد” مع بعض الدول العربية) والشعبي في المشرق العربي ليندمج فيه وفي محيطه الإسلامي ويصبح جزءاً من نسيج المنطقة وثقافتها. يبقى هذا الكيان متناقضاً مع محيطه بفعل ثقافته العنصرية وأصوله، كما بفعل سياساته العدوانية والتخريبية والدور المطلوب منه من قِبل الإمبرياليّة الأميركيّة. لم تغيّر معاهدات كامب دايفد ووادي عربة و اتفاقات “إبراهام” من واقع هذا الكيان. بل إنّ الدور الذي أعطي للكيان منذ إقامته يتناقض مع إمكانيّة اندماجه في محيطه العربي والإسلامي. عليه أن يبقى قاعدة كبرى للاستعمار الغربي، ثقافيّاً وسياسيّاً وعسكريّاً، وأن يبقى على تناقض صدامي مع محيطه القريب والبعيد في المنطقة.

تمكّن العدو من أن يبني “المثلّث” (تل أبيب-حيفا-القدس) الذي يمثّل قلب الكيان سكّانيّاً واقتصاديّاً وسياسيّاً، في مأمن من دمار الحروب التي شنّها الغرب، عبر سيطرة سلاح الجو المتفوّق ونقل الحرب إلى خارج أرض فلسطين. في أوقات الشدّة، دخلت القوّات الأميركيّة الحرب مباشرة إلى جانب الكيان (كما جرى في حرب تشرين 1973 وفي حرب “طوفان الأقصى” الأخيرة). لكنّ التطوّرات التقنيّة للحروب الجديدة، وتطوّر سلاح الصواريخ والمسيّرات خاصة، كشف “المثلّث” الصهيوني أمام منظومات صواريخ المقاومين، ولم تستطع “القبّة الحديدّة” والدفاعات الأميركيّة أن تحمي قلب كيان الاحتلال وتمنع تهجير مستعمرات الشمال خاصّة وإخلائها من سكّانها. أٌخليت المستعمرات في شمال فلسطين من مستعمريها، وغادر البعض منهم إلى أماكن أقلّ خطورة في الداخل “الإسرائيلي”، وغادر العديد منهم إلى خارج الكيان. عاد بعض المستعمرين اليهود إلى بلدانهم الأصليّة التي هاجروا منها، وإلى بلدان أوروبيّة وأميركيّة، طلباّ للأمن والاستقرار. قُدّر عدد المهاجرين من الكيان في الفترة المممتدة من 2020 إلى 2024 بما يزيد عن 145 ألفاً، معظمهم من الشباب.

لم تفلح حرب الإبادة الأميركيّة-الصهيونيّة، في دفع الشعب الفلسطيني للتخلّي عن وطنه ومغادرة أرضه. عاد سكّان مدينة غزّة وشمالي القطاع للعيش فوق ركام منازلهم، متشبّثين بالأرض، بينما لم تستطع حروب الإبادة واستمرارها والتهويل “بفتح أبواب جهنّم على مصراعيها”، إذا لم تستسلم المقاومة وتتخلّى عن سلاحها حتى الآن، إقناع “الهاربين” من المستعمرين الصهاينة من العودة إلى مستوطناتهم. برغم انسحاب حزب الله من المعركة بعد اغتيال قائده التاريخي الشهيد السيد حسن نصرالله، واحتلال الصهاينة لشريطٍ من الأرض اللبنانيّة حتى الآن، واستمرارهم في ملاحقة حزب الله في الداخل اللبناني؛ وبرغم إلحاح القيادة الصهيونيّة على إرجاع سكّان مستعمرات الشمال إليها، لم تعد إلى الشمال نسبة حوالي 20% من الذين غادروها، برغم توقف الحرب منذ حوالي السنة.

يدرك العدو الصهيوني أنّ فقدان “الأمن” يهدّد مستقبل الكيان ووجوده. إنّ الفشل في القضاء على المقاومة يعني موت الكيان، وإن بعد حين. إن حرب الإبادة التي قتلت حتّى الآن أكثر من60 ألف مواطن فلسطيني لم تحسّن وضع الكيان على الصعيد الديموغرافي، إذ يبقى أكثر من نصف سكّان الأرض المحتلّة من غير اليهود. خسرت “إسرائيل”، عن طريق الهجرة المضادّة، أكثر ممّا خسر الشعب الفلسطيني عن طريق الإبادة. أمّا خطّة دونالد ترامب لتهجير فلسطينيّي غزّة وبناء منتجعات أميركيّة على ركام مدن غزّة وقراها وتراثها، فموضوعٌ محكوم بالفشل. عمد العدو على الكشف عن جرائمه ونشرها وافتخر بها، غير عابئ بإدانة شعوب العالم ومعظم حكوماته لجرائم الإبادة الصهيونية، بغية إرهاب الفلسطينيّين وحملهم على الهرب من أرضهم، كما حدث في سنة 1948. أراد العدو المركّب أن يُحدث “نكبة ثانية” في فلسطين.

يفسّر هاجس الأمن المفقود، بجانب الثقافة الصهيونيّة، تمادي العدو في ارتكاب الجرائم ضدّ الإنسانيّة في كل يوم، برغم اتفاقات الهدنة، ويلوّح بالعودة إلى الحرب الشاملة ضدّ من بقي حيّاً، على مرأى من دول العالم، مستظلّلاً “بالاستثنائيّة” الأميركيّة التي تضع العدو الصهيوني معها فوق جميع القوانين والمعاهدات والأعراف الدوليّة.

إنّ قدرة فرقاء المقاومة على البقاء والتجدّد يعتمد على قدرتهم في الاستفادة من تجربتهم المريرة حتّى اليوم في مواجهة العدو المركّب. على فرقاء المقاومة دراسة هذه الحروب، بانتصاراتها وهزائمها، وفيها الكثير من الدّروس، لجعل عيش العدو في الأرض المحتلّة غير آمن. ذلك كفيلٌ برفع معدّلات الهجرة المتصاعدة واستنزاف العدو بشريّاً، حتّى انهياره.

الحروب الدائمة على شعوب العالم

استطاعت الإمبرياليّة الأميركيّة أن تُسقط العديد من حركات التحرّر الوطني التي عملت على الإفلات من قبضة الإمبريالية وتحقيق الاستقلال الحقيقي لدولها، وذلك عبر شنّ حروبٍ شاملة، عسكريّة واقتصاديّة وثقافيّة وإعلاميّة، على الدول الساعية للتحرّر. نجحت أميركا في محاصرة حركة عدم الانحياز وضرب معظم دولها والقضاء على أنظمتها (وعلى رأسها الجمهوريّة العربيّة المتّحدة بقيادتها الناصريّة، فضلاً عن يوغوسلافيا وإندونيسيا والهند، وغيرها)، ونجحت خصوصاً بالقضاء على حركة التحرّر العربيّة بعد اغتيال جمال عبدالناصر أو وفاته وضرب الأنظمة العربيّة الراديكاليّة المناهضة للامبريالية (مثل ليبيا والعراق) بشتّى الطرق. لم يبق من قوىً نابضة في وجه الهيمنة سوى حركات المقاومة الإسلاميّة التي تقاتل ضدّ الصهيونيّة في فلسطين ولبنان بشكل أساسي، كما في اليمن والعراق، بجانب النظام الإسلامي الإيراني.

تتكلّم القيادات الأميركيّة كثيراً عن “السلام” العربي-الصهيوني كهدف استراتيجي، وتمارس العدوان والإرهاب لتحقيقه. تدرك أميركا أنّ بقاء الكيان على المديين المتوسط والطويل مرهون بالقبول به في المشرق العربي. تريد أميركا القبول بالنظام الصهيوني كعصىً غليظة تلوّح بها فوق رؤوس جميع الأنظمة وتسحق بها من يخرج عن طاعة أميركا. تريد أميركا أن يبقى النظام الصهيوني متغوّلاً، متوسّعاً، غير خاضع لأي قانون أو قيد، سيّداً مطاعاً على صعيد المشرق العربي وجواره الإسلامي، يتطلّع نحو تدمير إيران وإخضاع تركيا وإركاع السعوديّة كشرط من شروط “السلام الأميركي” في الشرق الأوسط؛ فالسلم الذي تريده أميركا و”إسرائيل” هو الاستسلام الكامل للإمبرياليّة الأميركيّة ووكيلها الصهيوني في المنطقة. فهل بإمكان أميركا أن تحقّق “السلام” الذي تنشده؟

تتكلم القيادات الأميركيّة كثيراً عن السلام العربي-الصهيوني كهدف استراتيجي لها، وتمارس العدوان والإرهاب بدل ذلك. لكنّ تطورات بنية المجتمع الصهيوني، كقاعدة إمبريالية أميركيّة، تفرض عليها خوض حروب عدوانيّة متواصلة على محيطيها القريب والبعيد، ممّا يغذّي العداء للكيان وأسياده، ويُبعد القبول به كشريك في المشرق العربي وجواره الإسلامي. لم تُسقط اتفاقيّة كامب دايفيد حالة العداء بين الكيان ومصر، وبخاصة عداء الشعب المصري العربي لكيان الاحتلال. تمثّل اتفاقيّة كامب دايفيد “هدنة” ستسقطها العدوانيّة الأميركيّة-الصهيونيّة؛ وكذلك الأمر بالنسبة لاتفاقيّة وادي عربة مع الأردن، المرفوضة بعناد من قِبل الشعب الأردني. أمّا اتفاقات “أبراهام” فلم تحقّق دفعاً حقيقيّاً نحو علاقات سلام وتعاون رسمي وشعبي مع الصهاينة. ثم كانت حرب الإبادة الأميركيّة-الصهيونيّة، وما أثارته من غضبٍ وأحقاد على الصعد العربيّة والإسلاميّة والعالميّة، لتبعد إمكانيّة إقامة علاقات سلميّة مع الكيان الصهيوني.

إنّ تطوّر المجتمع الصهيوني (دولة في خدمة جيش مقاتل) أبعد القوى المسالمة نسبيّاً من اليهود والقابلة للسلام. وصل اليمين الدّيني الصهيوني المتشدّد إلى الحكم في الكيان في سنة 1975، بقيادة الإرهابي مناحيم بيغن، خليفة الإرهابيّ المؤسّس جابوتنسكي. ثم تسلّط أقصى اليمين الديني العنصري المتطرّف (والذي يمثّل بشكل خاص سكّان المستعمرات)، ويمثّل قسماً كبيراً من الجيش، على الائتلاف الحزبي الحاكم، ليفرض عليه أيديولوجيته الداعية إلى القضاء على الشعب الفلسطيني، إمّا عبر الإبادة أو التهجير من أرض “إسرائيل الكبرى”.

 ألغت تطوّرات المجتمع الصهيوني وحرب الإبادة في غزة مشروع “الدولتين” الذي ما زالت بعض الدول العربيّة تتمسّك به، ربّما تكتيكيّاً ولأسباب سياسيّة، مع معرفتها أنّ الأحداث قد تجاوزته. ابتلع الكيان الصهيوني كلّ الأرض الفلسطينيّة تقريباً، بموافقة أميركيّة، كما بعض أرض لبنان وسوريا. إنّ السلام الذي تعمل أميركا من أجله هو الاستسلام الكامل وغير المشروط لإمبرياليّتها، وبوكالة أقصى اليمين الصهيوني العنصري الفاشي الحاكم.

إنّ القيادة الصهيونيّة الراسخة، بعمقها التلمودي، والمعزّزة بالقدرات الأميركيّة الشاملة، تشعر أنّها أصبحت قطباً عالميّاً ذات يدٍ طويلة جدّاً، قادرةً على نقل جبروتها وقدراتها التدميريّة إلى أراضٍ بعيدة. وهي ترى نفسها قادرة على إنزال الدمار الشامل “بالحجر والبشر” و”فتح أبواب جهنّم” على مصراعيها بوجه من يعاديها.

هل تَثبُت أميركا في المشرق العربي؟

دفعت أميركا الدول الأوروبية، في إطار سياسة “الاحتواء المزدوج” لروسيا والصين، إلى توسيع حدود حلف الأطلسي شرقاً، لتختصر طريق صواريخ الحلف إلى موسكو ببضع دقائق حاسمة (في أي حرب مقبلة)، وذلك لاستفزاز روسيا وإجبارها على شنّ حربٍ لمنع انضمام أوكرانيا للحلف الأطلسي. كان الهدف أو أحد أهداف الحرب الأطلسية-الروسية على أرض أوكرانيا، استنزاف روسيا الصاعدة بقيادة فلاديمير بوتين، وذلك عبر دفعها إلى الإنفاق العسكري الضخم وتأزيمها فإسقاط نظامها، كما فعلت أميركا إبان الثمانينيات الماضية لإسقاط الاتحاد السوفييتي، حين استنزفته عبر دفعه إلى مجاراة “حرب النجوم” التي شنّها رونالد ريغن لتصعيد سباق التسلّح أثناء الحرب الباردة. لكنّ العالم قد تغير كثيراً منذ تسعينيات القرن الماضي. لم يعد النظام الرأسمالي العالمي بقيادة أميركا يمثّل 89% تقريباً من الناتج العالمي، كما في ثمانينيات القرن الماضي، بل انخفض إلى نصف ما كان عليه، ونمت حصّة دول الـ”بريكس” من الناتج العالمي، إذ أصبح إنتاجها أكبر من إنتاج “الدول السبع” الصناعيّة التابعة لأميركا. بذلك، أصبحت قدرة أميركا على فرض حصار اقتصادي قاتل على روسيا أقلّ بكثير ممّا كان عليه. استطاعت روسيا أن تضاعف إنفاقها العسكري وأن تحقّق في الوقت ذاته نموّاً اقتصاديّا يفوق نمو أميركا. عوّضت أسواق دول “بريكس” وبخاصّة السوق الصينيّة، وكذلك أسواق دول العالم الثالث، عن أسواق أوروبّا وأميركا التي أٌقفلت في وجه روسيا. وبالمقابل، استُنزفت دول حلف الأطلسي وأميركا، والتي تعاني في معظمها من عجوزات ماليّة وتجاريّة كبيرة، ومديونيّات عامة مرتفعة جدّاً.

قرّرت أميركا بقيادة ترامب، المذعورة اقتصاديّاً وماليّاً، إنهاء الحرب الأوكرانيّة بعد توريط دول أوروبّا فيها، والتي قطعت علاقاتها الحيويّة (وخاصة ألمانيا) مع السوق الروسيّة، وأثارت عداء روسيا المجاورة لها، مع توتّر العلاقات الأميركيّة الأوروبية، وقرب انهيار الحلف الأطلسي. انكشفت أوروبّا أمنيّاً تجاه روسيا، مع انحسار المظلّة الأمنيّة الأميركيّة عنها، ولو جزئيّاً. أصبح على أوروبّا مضاعفة إنفاقها العسكري، وهي المأزومة اقتصاديّا وماليّاً. لم تعد أوروبّا “رصيداً” لأميركا، بل ربّما باتت عبئاً عليها من الناحية الماديّة. ربّما أصبح تحالف أميركا مع روسيا أكثر فائدة للأولى، اقتصاديّاً وسياسيّاً.

أصبحت أميركا عاجزة عن كبح نمو القدرات الشاملة للصين، والتي تجاوزت فعليّاً نظيرتها الأميركيّة. لا ترغب أميركا في خوض حرب شاملة مع الصين، ربّما لأنها لا تستطيع ذلك، ولا تستطيع حتّى الدفاع العسكري عن تايوان؛ وللأخيرة قدرات صناعيّة متقدّمة جدّاً في إنتاج أشباه الموصلات التي تعتمد عليها أميركا.

فقد الغرب الأوروبي-الأميركي سيطرته على القارة الإفريقيّة، التي تمثّل مورداً أساسيّاً للغرب في نهبه الإمبريالي، لصالح الصين وروسيا ودول أخرى مثل تركيّا. تجاوزت الهِبات والقروض الصينيّة غير المشروطة للدّول الإفريقيّة مجمل قروض وهبات الغرب الرأسمالي ومؤسّساته الدوليّة. فقدت أميركا سيطرتها المطلقة السابقة على دول أميركا اللاتينيّة، ووتّرت علاقتها مع جارتيها، كندا والمكسيك. نمت قدرات المكسيك وكندا اقتصاديّاً نتيجة دخولهما في السوق المشتركة مع أميركا. إنّ إقفال السوق الأميركيّة في وجه الدولتين الجارتين، كليّاً أو جزئيّاً، عبر الضرائب الأميركيّة المرتفعة، يلحق أضراراً فادحة باقتصاديهما، ويبعدهما سياسيّاً عن أميركا، كما يلحق الضرر الكبير، اقتصادياً وسياسياً، بأميركا.

إقرأ على موقع 180  نتنياهو الغارق في غزة.. يحاول خلط الأوراق وإحراج بايدن

أمّا في منطقة “الشرق الأوسط”، فما زالت أقدام أميركا ثابتة نسبيّاً. حقّقت الإمبرياليّة الأميركيّة خلال أكثر من نصف قرن انتصارات كبيرة ومُنيت ببعض الخسائر في هذه المنطقة. استطاعت محاصرة وإسقاط حركة التحرّر الوطني العربيّة الوحدويّة بقيادتها الناصريّة، وأسقطت الأنظمة الراديكاليّة الخارجة عن سيطرتها، بالحروب والحصار. بَنَت قواعد عسكريّة عديدة لها في الخليج وبعض الدوال العربيّة الأخرى. وسّعت حدود الكيان الصهيوني وبَنت قدراته الصناعيّة المتطوّرة. صنعت أخيراً مثالاً مرعباً لبطشها عبر حرب الإبادة في المنطقة. دمّرت قدرات سوريا العسكريّة، وتعمل على إلحاق سوريا بالأردن ولبنان كتابعين لها، ودخول “إسرائيل” عبر سوريا إلى العراق، حيث الاحتلال الأميركي لم يخرج بعد، لتحقيق “الحلم التلمودي” في إقامة “إسرائيل الكبرى”، “من الفرات إلى النيل”. تعمل أميركا لدفع السعوديّة إلى “الاستسلام” للحلم الأميركي-الصهيوني وإقفال طريق نهضتها الحاليّة والحدّ من انفتاحها على الصين خاصّة، وتطلّعها لدور قيادي، عربي وإسلامي. هل تستطيع أميركا إخضاع مصر لقيادة الكيان الصهيوني في نظام شرق أوسط جديد؟ هل تستطيع إخضاع إيران وتركيا كذلك للقيادة الصهيونيّة، ولو عبر حروب شاملة تقودها أميركا؟ هل تستطيع أميركا القضاء على معسكر المقاومة وفصائلها الفلسطينيّة وغير الفلسطينيّة؟

هل بإمكان الامبرياليّة الأميركيّة تحقيق هذه الانتصارات التي تتطلّع إليها، في وجه تحوّلات عالميّة تنعكس في النهاية على موازين القوى في الشرق الأوسط؟ هل تستطيع أميركا استعادة القرن التاسع عشر في القرن الواحد والعشرين؟

إنّ أهميّة الشرق الأوسط بالنسبة لأميركا، وبالتالي أهميّة دور الكيان الصهيوني في إطار الاستراتيجيّة الأميركيّة الشاملة، تتزايد. ويشكّل الشرق الأوسط المنطقة التي تتشبّث بها أميركا، حيث أسقطت أقنعتها “الديموقراطيّة” و”الإنسانيّة”، لتظهر وجهها الإمبريالي المتوحّش البشع.

“شياطين” العالم في العين الأوروبية-الأميركية

عملت قوى الاستعمار القديم والجديد على إلصاق صفة “الشياطين” بمن تصدّى لها. تجسّد الشياطين الشر في العالم، مقابل الخير الذي تجسّده الملائكة. صُوِّرت الشعوب الأصلية، “الهنديّة”، التي أبادها الاستعمار الاستيطاني العنصري الأنغلوساكسوني، كشياطين، مقابل تصوير الأنغلوساكسون البروتستانت لأنفسهم كملائكة.

إبان الحرب العالميّة الثانية، صُوِّرت ألمانيا النازيّة وبقية دول المحور كشياطين العالم، وصُوِّرت أميركا وحلفائها كملائكة. كانت جرائم “الملائكة” إبان الحرب لا تقل عن جرائم الشياطين. مع انهيار قوى “المحور” واستسلامها، أصبح السوفيات، حلفاء الأمس، هم “شياطين العالم”، ثم انتشرت “الشياطين” في قارّات العالم مع ظهور حركات التحرّر الوطني.

كان للنظام الرأسمالي العالمي قدرات إعلاميّة هائلة بعد الحرب الكبرى. ملكت أميركا كافّة وسائل الإعلام الرئيسّية (الصحافة، الراديو، السينما، المراكز الثقافيّة). استوعبت أميركا أساليب الإعلام النازيّة الناجحة وأضافت إليها الكثير عبر العلوم الحديثة والدراسات الاجتماعيّة والإنفاق السخي، للسيطرة على عقول البشر. استطاعت وسائل الإعلام هذه أن تخفي ما تريد من الوقائع والأحداث، وأن تُبرز ما تريد وأن تنشر الأكاذيب وتشيطن مَن تريد، تبريراً لعدوانيّتها وتحقيقاً لمصالحها. مثّل الإعلام أحد الأسلحة الأساسيّة للإمبرياليّة الأميركيّة. تمّت شيطنة أنظمة الدول الاشتراكيّة ودول عدم الانحياز وقادتها وحركات التحرّر الوطني ورموزها. ليس من الضروري تقديم البراهين والأدلّة على من يُراد شيطنته، إذ يتكفّل الإعلام السائد بذلك، وأيضاً الأكاديميا الغربية وأتباعها، وكذلك تيارات الفن المموَّل السائد.

اختفت “شياطين” روسيا مع انهيار الإتحاد السوفييتي وتفكيك نظامه من قِبل أميركا. خفّض الاجتياح النازي للاتحاد السوفييتي وما واكبه من تدمير وإبادة، الناتج المحلّي السوفييتي بنحو 60%، في حين تمكّنت الإدارة الأميركيّة في عهد بوريس يلتسين من خفض الناتج المحلّي الروسي بنسبة 80%، دون حرب عسكريّة، عبر سياسة “العلاج بالصدمة”! عادت “الشياطين” لروسيا الاتحاديّة بعد أن أفلتت من القبضة الأميركيّة، بقيادة بوتين، واستعادت استقلالها وبعض قدراتها السابقة. أعادت أميركا شيطنة روسيا عبر شيطنة رئيسها، ودفعتها إلى الحرب في أوكرانيا بغية استنزافها.

كان المطلوب إعادة تدمير روسيا، والمدخل شيطنة بوتين، كما تمّ تدمير العراق “وإعادته إلى العصر الحجري”، كما قال جورج بوش الإبن، بعد شيطنة صدّام حسين. لم تكن أميركا يوماً ضدّ الدكتاتوريّة والاستبداد في العالم. لم يكن حكم بينوشيه الذي أقامته أميركا في تشيلي ديموقراطيّاً. لم يكن حكم باتيستا في كوبا ديموقراطيّاً. ليس نظام الكيان الصهيوني ديموقراطيّاًـ بل هو نظام تمييز عنصري فاشي مجرم، يُحاكَم بهذه الصفة أمام المحكمة الجنائيّة الدوليّة (ICC).

تعمل أميركا للخروج من الحرب الأوكرانيّة التي استنزفتها، كما أوروبّا، من دون أن تدمّر “الشيطان” الروسي. إختفى “الشيطان” الروسي فجأةً عندما عجزت أميركا عن إسقاط روسيا. أسقطت أميركا سياسة الاحتواء المزدوج للصين وروسيا، بسبب عجزها عن تحقيق ذلك، لتسعى، بدلاً من ذلك، إلى نوع من التحالف مع روسيا، ربّما كبديل عن تحالفها المكلف مع أوروبّا، ولإبعاد روسيا، ولو جزئيّاً، عن تحالفها مع الصين. تعمل أميركا المأزومة على التراجع الشامل عن سياسات العولمة التي دعت إليها عندما كانت القوّة الاقتصاديّة الأكبر في العالم، والأعلى تنافسيّة. تُسقِط أميركا اليوم كلّ ما لم يعد يعمل لخدمة مصالحها من تحالفات وعداءات ومعاهدات ومواثيق دعت إليها وبنتها في الماضي، وترمي بها اليوم في سلّة المهملات. ما زالت أميركا تعتقد بأنّها “دولة استثنائيّة”، فوق الأنظمة والقوانين والأعراف الدوليّة. كانت تصنع القوانين لفرضها على دول العالم، وليس لتلتزم هي بها. تدرك القيادة الأميركيّة المخاطر الاقتصاديّة والماليّة التي تحيط بها، وتدرك مخاطر تقدّم العديد من دول العالم تقنيّاً وعلميّاً، وأهمّها الصين، في تهديد مصالحها الإمبرياليّة. كلّ ذلك يهدّد الهيمنة الأميركيّة العالميّة ويبشّر بولادة نظام عالميّ جديد.

أمّا دول أوروبّا، فمهدّدة بالانكشاف أمام “شياطين” روسيا مع خسارة الحرب الأوكرانيّة التي موّلت 60% منها وتعمل القيادتان الفرنسيّة والبريطانيّة على زيادة تمويل هذه الحرب بعد أن تراجعت أميركا عن تمويلها.

تعاني الدول الكبرى في أوروبا (ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا وإسبانيا) من صعوبات اقتصاديّة كبيرة. ألحقت قطيعة أوروبّا الاقتصاديّة مع روسيا أضراراً بالغة، وبخاصّة بالاقتصاد الألماني الأكبر أوروبيّاً، والذي يمثّل “قاطرة الاقتصاد الأوروبي”. تشهد ألمانيا تراجعاً في حجم اقتصادها الحقيقي وانكماشاً مستمرّاً في ناتجها الوطني، وبخاصّة في إنتاجها الصناعي. خسارة مواردها الرخيصة نسبيّاً من الطاقة الروسيّة لعبت دوراً أساسيّاً في أزمتها الاقتصاديّة الحاليّة. فقد أجبرتها أميركا على استيراد الطاقة من سوقها الأعلى سعراً بما لا يقاس من أسعار الطاقة الروسيّة، كما خسرت ألمانيا السوق الروسيّة الحيويّة لها تجاريّاً وماليّاً. تتقلّص السوق الصينيّة في وجه الصادرات الصناعيّة الألمانيّة، بسبب نمو القدرات الإنتاجيّة الصينيّة واستغنائها عن الكثير من الواردات الألمانيّة من ناحية، وبسبب شيطنة أميركا النظام الصيني وطلبها من أوروبّا خفض علاقاتها مع الصين. تعمل الإدارة الأميركيّة الحاليّة على فرض ضرائب جمركيّة على وارداتها الأوروبية، خاصّة السيّارات، وذلك يمسّ بشكل خاص صناعة السيارات الألمانيّة. تعاني دول أوروبّا الكبرى الأخرى من ارتفاع في مديونيّتها العامّة التي تجاوز حجمها حجم نواتجها المحليّة، رغم معدّلات الضخّ الضريبي المرتفع فيها. يمنعها ذلك من رفع معدّلات الضخّ الضريبي (على القطاع المنزلي كما على الشركات والمؤسّسات الماليّة). ترفض القوى العاملة الأوروبية زيادة الضخ الضريبي وخفض مستوى دخلها الحقيقي لتمويل الحروب ولبناء قدرات عسكريّة مرتفعة لاتّقاء شرور “الشياطين” الحقيقيّة أو الموهومة. تريد أميركا، كما بعض القيادات الأوروبية، رفع معدّلات الإنفاق العسكري في الدول الأوروبية إلى حوالي 5% بدلاً من أقل من 2% من الناتج المحلّي، ممّا يعني ارتفاعاً كبيراً في الضرائب أو خفضاً كبيراً في الانفاق الاجتماعي. فخفض الإنفاق الاجتماعي يعني بشكلٍ خاص خفض المداخيل الحقيقيّة للقوى العاملة والشرائح الضعيفة في المجتمعات الأوروبية.

التخويف بالشياطين لم يعد ينفع!

تهزّ أزمات أوروبّا الداخليّة والخارجيّة بعض قادتها المأزومين، فتوقظ لديهم أحلام أيّامٍ دارسة. إنّ فرنسا المطرودة عسكريّاً واقتصاديّاً من دول الساحل والصحراء الإفريقيّة، كما من دول غرب أفريقيا، تخسر موارد وريوع توظيفاتها في تلك المناطق. تجد بعض دول إفريقيا في أحداث أوروبّا وعلاقة أوروبّا مع أميركا فرصاً سياسيّة واقتصادية جديدة للخروج من استتباعها لمراكز النظام الرأسمالي العالمي وبناء علاقات مع الصين وروسيا بشكل خاص، ومع بقيّة دول العالم الثالث النّاهضة. للهروب من هذا الواقع الأوروبي، ينفخ ايمانويل ماكرون في أبواق النفير العسكري الأوروبي، ويقترح مضاعفة الإنفاق العسكري، ويعرض استظلال أوروبّا بالمظلّة النوويّة الفرنسيّة الصغير جدّاً والتي لا يمكن مقارنتها بالقدرات النوويّة الروسيّة. تنفخ القيادة الفرنسيّة في بوق النفير العسكري، وكذلك القيادة البريطانيّة، وربّما القيادة الألمانيّة الجديدة (استرجاعاً “لأمجاد” ألمانيا العسكريّة الماضية) والتي لا تستطيع استعادة سياسات انجيلا ميركل مع روسيا. هل تستطيع أبواق النفير العسكري الفرنسي والبريطاني أن تدفع الجماهير الأوروبية إلى “دقّ الصدور بالقبضات” طلباً لأمجاد الماضي القوميّة؟ هل تنجح دعوات الحروب والاستعداد لها، وبالتالي هل تقبل الجماهير الأوروبية بتخفيض مستوى المعيشة لديها؟ هل يستطيع التخويف “بالشياطين” الروسيّة والصينيّة إقناع ناخبي أوروبّا بخفض الإنفاق الاجتماعي في دولها، أم أنّه سيطرد رؤية الشياطين؟ لم تهدّد روسيا تاريخيّاً دول أوروبّا وشعوبها، بل إن أوروبّا (نابليون، هتلر) اجتاحت الأرض الروسيّة وأنزلت بها الكثير من القتل والعذابات، من الخراب والدمار. توسّعت روسيا في أوروبّا الشرقيّة بعد أن حرّرتها من الاجتياح النازي. إنّ علاقات روسيا الاقتصاديّة مع أوروبّا الغربيّة لا زالت حتّى اليوم تمثّل علاقة مراكز النظام الرأسمالي العالمي بدول الأطراف الرأسماليّة. ما زالت روسيا مصدراً للخامات الرخيصة ومستورداً للمنتجات الصناعيّة، كما للتوظيفات الرأسماليّة الثابتة، في مجالات الصناعة والتعدين والخدمات.

في روسيا ثروات طبيعيّة هائلة وغير مستغلّة ومفتوحة أمام فوائض رؤوس الأموال الأوروبية والأميركيّة. فهل بإمكان التكامل الاقتصادي الروسي-الأوروبي أن يبني أسس العلاقات السلميّة بدل سباق التسلّح والبحث عن “ضمانات” عسكريّة مكلفة للدول الأوروبية؟ هل يمكن لثقافة السلام أن تُسقط رؤية “الشياطين” الروسيّة بدل سياسات التسلّح التي تصنع الشياطين فعلاً في أوروبّا؟ ليس هناك تناقضات حقيقيّة وصداميّة بين روسيا وأوروبّا.

إن طرح المزيد من الإنفاق العسكري الأوروبي رفع القيمة السوقيّة لمؤسّسات الصناعات العسكريّة الأوروبية، القديمة منها والحديثة (أصبحت صناعة المعلوماتيّة والذكاء الاصطناعي جزءاً يتزايد دوره في إطار المجمّعات العسكريّة الأوروبية). أصبحت الحروب الحديثة أكثر اعتماداً على تقنيّات المعلوماتيّة والذكاء الاصطناعي تُحدِث متغيّرات سريعة ومذهلة، كما أظهرت الحرب في أوكرانيا. تضاعفت القيمة السوقيّة للمؤسّسات الصناعية والتقنيّة العسكريّة في أوروبّا، وخاصّة الألمانيّة منها، مثل شركة “راين ميتال” (أكبر شركة للصناعات العسكريّة الألمانيّة) وشركة “تيكنسولو” (شركة معدّات إلكترونيّة) وغيرها. وتحوّلت بعض مصانع السيّارات المدنيّة، أو هي تتحوّل، إلى صناعات عسكريّة مثل الدبّابات وناقلات الجند.

هل يستطيع الطلب على السلاح والتخلّي عن السلاح الأميركي أن ينتشل الاقتصاد الألماني خاصّة من التراجع والركود، وأن يرفع من وتيرة النمو الاقتصادي الأوروبي؟ هل يدفع هذا الخيار رؤوس الأموال الأوروبية إلى رؤية “شياطين روسيا” المتربّصة بأوروبّا، ويصنع بالتّالي هذه الشياطين عبر سباقات التسلّح؟ ستجيب السنوات أو الشهور القادمة وتطوّرات النظام العالمي على هذا السؤال.

بالعودة إلى منطقة الشرق الأوسط، يبدو أن مصير النظام الصهيوني القائم مرهون ببقاء القدرات الأميركيّة الشاملة. مع انهيار هذه القدرات، فإنّ دعم أميركا للكيان الصهيوني وتغوّله سينخفض أو حتّى يزول، وبذلك سيزول هذا الكيان حتماً من الوجود في قلب المشرق العربي (كما حدث لنظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا) وستعود فلسطين حرّة “من الميّه للميّه”. يحتاج ذلك إلى بقاء المقاومة وتوسّعها فلسطينيّاً وعربيّاً وإسلاميّاً، وربما أمميّاً أيضا؛ يحتاج إلى توسّع المقاومة بكل أبعادها، العسكريّة والسياسيّة والاقتصاديّة والثقافية والاعلاميّة.

 

Print Friendly, PDF & Email
غالب أبو مصلح

خبير وباحث اقتصادي، لبنان

Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  إيران وشط العرب: صاعق التفجيـر (5)