لبنان: حرب الإبادة.. والنقد الذاتي المطلوب (4)

ظهرت "المقاومة الإسلاميّة- حزب الله" في لبنان إبان الاجتياح الأميركي-الصهيوني سنة 1982، من ضمن قوى مقاومة أخرى للاحتلال، ونتيجة عجز معظم أحزاب جبهة المقاومة الوطنيّة اللبنانيّة، أو تقاعس قياداتها، عن الاستمرار بالقتال والتصدّي للعدو. توقّفت قوى عديدة عن القتال مع تراجع الاحتلال الصهيوني جنوباً، إذ كانت، نظراً لبنيتها وقدراتها المحدودة، عاجزة عن ملاحقة العدو بعد انسحابه من مناطق ثقلها الشعبي.

استطاع حزب الله، بدعمٍ إيراني، أن يستمرّ في القتال وينمّي قدراته ويستنزف الجيش الصهيوني وأذنابه في الجنوب (جيش سعد حدّاد ثم أنطوان لحد)، حتّى انهارت دويلة سعد حدّاد (ولحد) وانسحب الجيش الصهيوني إلى داخل الأرض الفلسطينيّة المحتلّة في أيار (مايو) عام 2000.

برز أمين عام حزب الله، السيد حسن نصرالله (بعد اغتيال الأمين العام الأسبق، السيد عبّاس الموسوي) كقائدٍ لحرب تحرير الجنوب ومنع العدو الصهيوني من ضمّ قسم من الجنوب والسيطرة على مياه نهر الليطاني. مع عجز النظام اللبناني أو تقاعسه عن أن يكون حامياً للأرض والوطن، نمت قدرات حزب الله العسكريّة رغم إرادة الطبقة الحاكمة (التي ترى أن “قوّة لبنان في ضعفه”) والقوى الإمبرياليّة والتابعين لهم في لبنان، وبقيادة نصرالله الذي تحوّل إلى رمزٍ وطنيٍّ عابرٍ للمذاهب، ورمزٍ عربيٍّ وإسلاميٍّ للمقاومة. تلعب القيادات دوراً كبيراً ومركزيّاً في بناء الأحزاب السياسيّة، وبخاصّة في حركات التحرّر الوطني، حتّى تكاد القيادات “تختصر” هذه الثورات، فضلاً عن أن تصبح رموزاً لها. اختصر نصرالله المقاومة في لبنان، التي حرّرت الجنوب وطردت الإستعماريّين الأوروبيين، وأصبح رمزاً لهذه المقاومة. يدرك العدو الأميركي-الصهيوني أهميّة مثل هذه القيادات التاريخيّة ودورها الحاسم في المقاومة، ويعمل بشتّى الوسائل لشيطنتها واغتيالها. كان لاغتيال نصرالله وخليفته (السيد هاشم صفيّ الدين) وقعاً كبيراً وقاسياً على مقاومة حزب الله وقدراتها.

كان النظام اللبناني قد استطاع أن “يستوعب” حزب الله نسبيّاً، عبر إشراكه في السلطتين التشريعيّة والتنفيذيّة، ومع تداخل بعض بنيته، على الأقل، مع بنية الطبقة الحاكمة اللبنانيّة. مثّل دخول حزب الله بنية السلطة اللبنانيّة وطبقتها الحاكمة تناقضاً حادّاً مع بنيته العقائديّة الأساسيّة ودوره النضالي المبرّر لوجوده. إن حزب الله، كجزءٍ من حركة التحرّر الوطني، المتطلّع إلى نوعٍ من “الوحدة الإسلاميّة” وإلى “تحرير القدس”، يتناقض كليّاً مع بنية الطبقة الحاكمة في لبنان وخلفيّتها الفكريّة وعلاقاتها الخارجيّة، كما مع تطلّعاتها السياسيّة والاقتصاديّة.

إنّ تقديم التنازلات السياسيّة والمبدئيّة بهدف تحقيق تحالفات “فوقيّة” مع قيادات طائفيّة وميليشياويّة، معادية فكريّاً ومصلحيّاً لأهداف المقاومة، لا تحلّ التناقضات الصداميّة مع بنية النظام اللبناني والقوى التي يستند إليها في قدرته على البقاء والعودة للإمساك بزمام السلطة السياسيّة والاقتصاديّة، وعلى رأس هذه القوى أميركا ونظامها العالمي.

يرفض حزب الله طرح القضايا الاقتصاديّة-الاجتماعيّة والتي تمسّ الأكثريّة الساحقة من اللبنانيّين، “حفاظاً على وحدة الطائفة” أوّلاً ووحدة البنية الطبقيّة لممثّلي الطوائف اللبنانيّة في الحكم. طرح حزب الله قبول وتأييد “أزليّة” الكيان اللبناني مع العماد ميشال عون، ورفع شعار “وحدة الجيش والشعب والمقاومة”، وهو يدرك أن تلك الوحدة، في نطاق النظام القائم، مجرّد أوهام وتمنّيات. إن طرح وتخيّل “بنية فوقيّة” وهميّة لا تغيّر البنى التحتيّة للواقع اللبناني، لا تُبعد المخاطر عن المقاومة، بل تخفي المخاطر وتمنع المقاومة من رؤيتها بوضوح، وتمنع التخطيط لمواجهة هذه المخاطر. ربّما ظنّ حزب الله أنّه قادرٌ، من خلال مشاركته بالدّورة السياسيّة، على حماية أمنه والاحتفاظ بحريّة حركة المقاومة وبناء قواها العسكريّة. ربّما ظنّ، كما ظنّت المقاومة الفلسطينيّة في الأردن قبل “أيلول الأسود”، أنّه تخطّى مرحلة الخطر على وجوده عبر بناء قدراته الذّاتيّة وتحالفاته. “أمّا الزبد فيذهب هباءً، أمّا ما ينفع الناس فيبقى في الأرض”. إنّ المقاومة من الشعب ولأجله. يتمثّل الشعب بأكثريته الساحقة بالقوى العاملة. فمن يقاتل ويستشهد من أجل حرّية الوطن وسلامة أرضه هو من ينتزع لقمته من أرض الوطن. مصالح الشعب الحقيقيّة هي مصالح الوطن، وواجب المقاومة الدفاع عنها بالشعب العامل المنتج، وطرح كلّ القضايا الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي تخدم الشعب وتحقّق له الحياة الكريمة الآمنة على أرضه. الدفاع عن الوطن ومصالح الشعب يعني كلّ أبناء الطوائف والمناطق، ولا يقتصر على منطقة أو طائفة محدّدة. على المقاومة أن تمثّل جميع الطوائف وكلّ الأرض الوطنيّة وتدافع عن مصالح كلّ الشعب لتتمكّن في النهاية من تحقيق النصر. الوطن هو الأرض والشعب الذي يعيش فوق الأرض. الدفاع عن الوطن يعني الدفاع عن الأرض وعن حقوق ومصالح الجماهير في الوقت ذاته. المقاومة قويّة بجماهيرها قبل سلاحها. السلاح بيد الجماهير يصنع القوّة ويعطي الوطن حصانته. قيمة السلاح بمن يحمله ومن أجل ماذا ومن يقاتل.

لم يبذل حزب الله اهتماماً كافياً بالتغلغل الأميركي الواسع والعميق في بنية النظام اللبناني، وبتمسك أميركا بالجيش اللبناني وبتوجيهه، بقيادته وخلفيّته الفكريّة التي لا يزال حاضراً فيهما إرث الاستعمار الفرنسي. ربّما لا يستطيع الجيش أن يقاتل المقاومة دون أن يتفكّك. يمثّل الجيش قوّةً لحفظ النظام والطبقة الحاكمة، وليس لحماية الوطن. هذا دوره عبر كلّ تاريخه. لم يحقّق لبنان ثورة الاستقلال الحقيقي بعد، ليعيد بناء جيشه وتوجيهه فكريّاً وتنظيميّاّ وثقافيّاً ليكون في خدمة حماية الوطن.

***

تُمسك أميركا بالقرار المالي للبنان، بوزارة الماليّة عبر خبراء الإسكوا وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي فيها. تسيطر أميركا على مصرف لبنان وعلى جمعيّة المصارف، وبخاصّة بعد مؤتمر الطائف وعهد الحريريّة التي يستمرّ حكمها كخلفيّة فكريّة لمنظومة المصالح الحاكمة حتّى اليوم. تمسك أميركا بالمؤسّسات الدوليّة السياسيّة والماليّة المتحكّمة بالسوق المالي العالمي، ومن ضمنه سوق لبنان. لأميركا ثأراً على المقاومة لن تنساه.

إقرأ على موقع 180  أردوغان "يتوازن" إقليمياً.. بالورقة الإسرائيلية

تخوض أميركا اليوم معركة مصيرها وبقاء سيطرتها على النظام الرأسمالي العالمي. يشكّل العالم العربي ومحيطه الإسلامي منطقةً استراتيجيّة تزداد أهميّتها بالنسبة لأميركا مع خسارتها حرب أوكرانيا وابتعاد أوروبّا عنها، وربّما انهيار حلف الأطلسي. خسرت أميركا منطقة أميركا اللاتينيّة بشكل عام وخسرت أفريقيا القارة الواعدة، وها هي تسحب بعض قدراتها العسكريّة من جنوب شرق آسيا إلى الشرق الأوسط، كما تسحب بعض قدراتها من أوروبّا إلى الشرق الأوسط أيضاً، وتدفع بقدرات عسكريّة إضافية لها إلى الشرق الأوسط، وتخوض معركة الإبادة الراهنة وربّما تتطلّع إلى القضاء على الحوثيّين في اليمن كما النظام الإسلامي الإيراني، لتصبح منطقة الشرق الأوسط حديقة خلفيّة لأميركا، وبوكالة “إسرائيليّة”.

لا يشكل لبنان بالنسبة للمقاومة أرضاً محرّرة آمنة. ان عهد “الاستقلال” يُشكل امتداداً لعهد الاستعمار الفرنسي، لا نفياً له، على الصُعُد السياسية والاقتصاديّة والعسكريّة والثقافيّة. مثّلت المقاومة للاجتياح الأميركي-الصهيوني “نفياً” للنظام اللبناني الذي لم يقاوم الاجتياح، بل رحّب به. لم تستطع المقاومات اللبنانيّة، وعلى رأسها حزب الله، أن تُسقِط الطبقة الحاكمة في لبنان، والتي تشكّلت ونمت إبان عهود الاستعمار. كان مؤتمر الطائف تعبيراً عن إعادة إحياء الطبقة الحاكمة وإضافة الميليشيات الطائفية إليها. كان مؤتمر الطائف وتعديلاته الدستوريّة تعميقاً للبنى الطائفيّة للنظام وانتقاله من الطائفيّة إلى المذهبيّة. أصبح النظام أكثر معاداةً لمحيطه العربي المباشر، فلسطين وسوريا، وأكثر شوفينيّة، رغم الوجود العسكري السوري فيه، أو ربّما بسبب هذا الوجود.

***

يعتمد أمن المقاومة في بلد غير مستقلٍّ فعلاً على بنيتها السريّة، العسكريّة والسياسيّة، مع الإبقاء على واجهاتٍ علنيّةٍ له. كانت الأجواء اللبنانيّة دائماً مرتعاً لسلاح الجو الإسرائيلي، دون رادع. كلّ الأرض اللبنانيّة مكشوفة من قِبل وسائل الرصد والتصوير والتنصّت الأميركي-الصهيوني. الأرض اللبنانيّة مرتعاً وميداناً حراً لشبكات التجسّس العالميّة، وبخاصّة الأوروبية-الأميركيّة منها. تصبّ كلّ معلومات الرصد والمخابرات اللبنانيّة الرسميّة، بكافة أجهزتها، عند أميركا، أي عند العدو الصهيوني. بإمكان أجهزة المخابرات ووسائلها الحديثة المفروض بعضها من قِبل أميركا (مثل شرائح التتبّع التي فُرضت على لوحات السيّارات كافّة) تتبّع كلّ لبناني والتنصت على مكالماته. يستدعي هذا الواقع إجراءاتٍ أمنيّة معقّدة وعالية للحفاظ على سلامة بنية المقاومة وقياداتها. هذا ما فشلت المقاومة في تحقيقه، على ما يبدو. من اشترى أجهزة اتّصال للمقاومة من تايوان لم يفهم معنى العولمة في بنية وسائل الإنتاج الأكثر تقدّماً في العالم، وبخاصّة في إطار المعلوماتيّة. هناك أكثر من 1200 مؤسّسة إنتاجيّة في إطار المعلوماتيّة، تتكامل أفقيّاً، من أهمّها صناعة “المعلوماتيّة” الصهيونيّة-الأميركيّة. تمكّنت أجهزة المخابرات الأميركيّة من تزويد المقاومة الإسلاميّة بأجهزة “بيجرز” فخّخها العدو الصهيوني، وتمّ عبرها التنصّت إلى عددٍ كبير من كوادر المقاومة، ولأشهر طويلة، ثمّ تفجيرها وإنزال خسائر كبيرة في كادر المقاومة، قُدّرت بإصابة أكثر من 4000 من حملة هذه الأجهزة، واستشهد من بينهم العشرات.

***

إن شعار وحدة “الجيش والشعب والمقاومة” الجميل المضلّل، وإقامة التحالفات الفوقيّة مع قيادات طائفيّة، كبديل لتحالفات مع القواعد الشعبيّة وعبر طرح القضايا الاقتصاديّة-الاجتماعيّة وتبنّي قضايا الجماهير والدفاع عن مصالحها فعليّاً، ساهم في عزل المقاومة عن أوسع الجماهير وفي كشفها أمام القوى المعادية، الداخليّة والخارجيّة.

عبر خرق البنية السرية للمقاومة، فتوجيه ضربات قاسية جدّاً للمقاومة باغتيال العديد من كوادرها السياسيّة والعسكريّة وقياداتها المتميزة ورصد مواقعها ومخازن أسلحتها، تكبدت المقاومة خسائر فادحة لا تعوّض على المدى القصير على الأقل. تمكّن العدو المركّب للمقاومة من إضعاف قدرات حزب الله الاعتراضيّة في النظام السياسي اللبناني، وعزل المقاومة اللبنانيّة عن المقاومة الفلسطينيّة ميدانيّاً، كما تمكّن العدو من حصار المقاومة نسبيّاً على الصعيد الداخلي وإقفال العديد من طرق إمدادها.

***

أدّى الواقع المستجد إلى انتخاب قائد الجيش العماد جوزاف عون رئيساً للجمهوريّة (كخامس قائد جيش يتبوأ سدة الرئاسة منذ استقلال لبنان عام 1943) حتّى أصبح معروفاً من هو رئيس الجمهوريّة المقبل.

ويُمثّل قائد الجيش في لبنان رأس قوى حفظ النظام وأهله، أكثر منه حماية الوطن. سيستمر عمل السلطات اللبنانيّة، بعد دفع المقاومة إلى الانسحاب إلى ما وراء الليطاني، بالعمل على حصار حزب الله سياسيّاً واقتصاديّاً وعسكريّاً، لتجريده من سلاحه وتحويله إلى قوّةٍ سياسيّة محدودة الأثر في لبنان. فهل يتمكّن العدو الأميركي-الصهيوني من إنهاء المقاومة في لبنان؟

يعتمد الجواب على قدرة المقاومة على مراجعة تجربتها الماضية واستخلاص الدروس من معاركها الأخيرة. لم تكن قدرات جيش “بروسيا” العسكريّة المميّزة نابعةً من نوعيّة السلاح وكمّيته، كما يقول العديد من المؤرّخين الأوروبيين، بل بسبب دراسة كلّ المعارك التي خاضتها بروسيا لاستخلاص نقاط القوّة والضعف لديها، لتقوية الأولى وتلافي الأخيرة. هل تستطيع المقاومة الاسلاميّة في لبنان ممارسة النقد الذاتي المطلوب لتعود أقوى ممّا كانت وتعدّل نهجها السياسي والأمني، لتقف على أرضٍ محرّرة فعلاً، تنطلق منها للمساهمة في تحرير فلسطين؟

Print Friendly, PDF & Email
غالب أبو مصلح

خبير وباحث اقتصادي، لبنان

Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  أينك يا أنطونيو دي بيترو القضاء اللبناني؟