رأى الكثيرون ضمن شعوبنا العربيّة والاسلاميّة تجدّد صورة الخلافة.. من خلال الأسماء العُلَمائِيّة الاصلاحيّة والتّجديديّة والمناهضة للاستعمار القديم، من مصر المتأثّرة بجمال الدّين الأفغانيّ ومحمّد عبده وغيرهما.. إلى الشّام، العراق، المغرب العربيّ، وصولاً حتّى إلى محطّات وأسماء اسلاميّة مهمّة ضمن اسلام آسيا الوسطى وآسيا الجنوبيّة-الشّرقيّة. نتحدّث هنا خصوصاً عن مرحلة ما قبل ظهور الحالة النّاصريّة-العروبيّة، مع التّبسيط.
ثمّ ظهرت صورة “النّاصر جمال” بعد الحرب العالميّة الثّانية، أي الزّعيم العربيّ الرّاحل جمال عبد النّاصر، لتُهيمن في مرحلةٍ ما على هذا الخيال أو المخيال الواعي-وخصوصاً اللّا-واعي. لوَهلةٍ تاريخيّةٍ ما، اعتقد الكثير من أهلنا، واعين أو لا-واعين، أنّ “الخليفة” قد عاد من خلال صورة هذا القائد القوميّ العربيّ ذي الاشعاع العابر للعالم النّاطق بلغة الضّادّ.
ثمّ، ومع ذهاب أنور السّادات إلى كامب دايفيد، ومع التّراجع الكبير للمشروع النّاصريّ، ومع انفجار الثّورة الاسلاميّة بقيادة الامام الخمينيّ في إيران.. بدأت الأنظار الواعية واللّا-واعية هذه تذهب في اتّجاه قيادات الجماعات الاسلاميّة التي تدور في فلك “الاخوان المسلمين” باختصار ومع التّبسيط. خرج قادة حركيّون اسلاميّون متعدّدون، رشّح وعينا ولا-وعينا الجماعيّ ربّما بعضهم لهذا المنصب النّموذجيّ المُثُليّ أو المُتَخيَّل.
غير أنّ القضيّة قد أصبحت أكثر “جدّيّة” مع تصاعد الحالة “الأردوغانيّة”، التي تُنادي عمليّاً بعودة البُعد العثمانيّ إلى تركيا وإلى مناطق النّفوذ التّاريخيّ للأتراك.. خصوصاً عندما قدّم الرّئيس التّركيّ نفسه على أنّه القائد الذي سينقذ الشّعب السّوريّ “السّنّيّ” من الحُكم “العَلَويّ” المُتحالف مع إيران “الشّيعيّة”، وعلى أنّه القائد الذي سيصلّي مع السّوريّين في المسجد الأمويّ وفي وسط دمشق، وعلى أنّه القائد الذي لن يترك قضيّة فلسطين وقضيّة المسجد الأقصى أبداً.
وفي مُقابل هذه الصّورة، أو في مقابل هذا التّصوّر الأردوغانيّ العثمانيّ الطّابع، ظهرت عند العرب صورة- أو محاولة- الأمير محمّد بن سلمان، القائد العربيّ-الاسلاميّ الشّابّ، الذي ينظر نحو المستقبل والحداثة، وصاحب المليارات والتريليونات التي لا تُعدّ، والتي من شأنها أن تنهض بمملكته بل وبالأمّة العربيّة جمعاء.. وربّما بالأمّة الاسلاميّة كلّها بحسب تصوّر البعض.
***
والواقع، عزيزي القارئ، أنّ أهمّ هذه المحاولات أو الصّور أو التّصوّرات “الخِلَافَتِيّة” إن جاز التّعبير- الواعية وخصوصاً اللّا-واعية إذن- ترتطم، في مضمون الأمور، بحقيقةٍ أساسيّةٍ لا شكّ فيها تقريباً، ألا وهي.. أنّ القرار الاسلاميّ الحقيقيّ والواقعيّ والفعليّ هو في الأغلب، ولم يزل إلى حدّ بعيد جدّاً.. في يد الاستعمار البريطانيّ-الأميركيّ تحديداً.
أقصد طبعاً، مع بعض الهوامش والخصوصيّات المتعلّقة ببعض الدّول والمناطق والبلاد: القرار الاسلاميّ السّياسيّ/الجيو-سياسيّ، الأمنيّ، العسكريّ، الاقتصاديّ، الماليّ، النّقديّ، والتّكنولوجيّ.. وصولاً حتّى إلى الاعلاميّ والثّقافيّ وما إلى ذلك. باختصار: لقد استطاع هذا الاستعمار تحديداً، بوجهَيه الأساسيَّين إذن، الإمساك بالقرار الاسلاميّ إلى حدّ بعيد جدّاً، وذلك بعد انهيار الخلافة أو السّلطنة العثمانيّة (بشكل خاصّ).. إلى اليوم.
***
هل يلزمنا الكثير من التّدقيق ومن البحث ومن التّحليل لكي نتأكّد من هذه الحقيقة.. حقيقة أنّ الخلافة الاسلاميّة “الحقيقيّة” إن جاز التّعبير، ليست في الغالب إلّا في يدِ ذلك الاستعمار.. أي إنّها، اليوم، ليست في الغالب إلّا في يد الأميركيّ وفي يد القوّة الأميركيّة؟
***
مهما حاولنا التّهرّب ومهما حاولنا تَجميل الواقع وتَحريف الوقائع، فهذه هي الحقيقة وفي الأعمّ الأغلب. وقد أمست القضيّة أكثر وضوحاً مع بداية الولاية الثّانية لدونالد ترامب، حيث تبيّن للجميع إلى أيّ حدّ.. يُمسك البيت الأبيض بالقرار الاسلاميّ- الحقيقيّ والفعليّ إذن- حول العالم.
واللّافت للانتباه مع الظّاهرة التّرامبيّة هي أنّها تُعطي نكهةً كاريكاتوريّة إضافيّة لكثيرٍ من الأحداث والوقائع. ولكي لا نُغرق أنفسنا كثيراً في النّقاش التّحليليّ والمفاهيميّ، فلنتوقّف سويّاً عند بعض المشاهد والمواقف الرّمزيّة لكن الأساسيّة جدّاً (التي يُحوّلها ترامب إلى كاريكاتوريّة إذن، وفي أحيان كثيرة):
المشهد الأوّل؛ يربح “الخليفة الفعليّ” إذن- كما سنرى- الانتخابات الرّئاسيّة في أميركا خلال خريف ٢٠٢٤. فيوحي إلى الرّئيس أردوغان، بالتّشارك مع إدارة جو بايدن وقتها كما بات واضحاً للجميع على ما أعتقد وبناءً على تصريحات وتسريبات أهمّ الجهات المعنيّة نفسها: يوحي ترامب لأردوغان، بمساعدة وموافقة ادارة بايدن.. بلزوم التّحرّك في سوريا. كان نتنياهو في حينها، كما بات مرجّحاً أو ربّما معلوماً، يطالب البيت الأبيض بصورة “نصرٍ” أكثر وضوحاً في مواجهته مع المقاومة اللبنانيّة. ومن الواضح أنّ “فتح” سوريا على يد الأتراك خصوصاً – بمساعدة أميركا و”إسرائيل”- كان المخرج الذي ارتآه “خلفاء” المسلمين الباطنيين والظّاهرين.
هكذا، تحرّكت إدارة أردوغان، وحرّكت للبيت الأبيض جحافل من مجاهدي الإسلام والمسلمين، بعد ثلاثة أيّام فقط من التوصل لوقف اطلاق النّار بين المقاومة اللّبنانيّة وبين الكيان الاسرائيليّ. نحن هنا أمام واقعة تاريخيّة حديثة جدّاً عزيزي القارئ، وهي مُعبّرة إلى أقصى حدود وبلا أدنى شكّ.
قبل زّيارة الشرع: وعودٌ بالفتح الكبير، وتحضيرٌ لهذا العرس التّاريخيّ. بعد الزّيارة: تكاد تشعر وكأنّنا قد فتحنا “قسطنطينيّة” جديدة. ما هذا العزّ، حقّاً؟ قادةٌ عرب ومسلمون يُمجّدون؛ دولٌ ترحّب؛ جماهير تفرح وتحتفل؛ مجاهدون يمتلؤون بأحاسيس العزّة والنّصر؛ مؤيّدون، داخل سوريا وخارجها، يعزفون ويكتبون المقال تلو الآخر. قُدّم الأمر لنا على أنّه نصرٌ سوريّ وعربيّ واسلاميّ مُبين. أُعطيت الزّيارة حجماً، من الواضح أنّ زيارة موسكو لم تأخذ حيّزاً ولو صغيراً منه.. وزيارة الصّين المحتملة لن تأخذ ربّما نصفه أو ربعه حتّى.. أو ما دون ذلك بكثير
ثمّ تذكّر معي إلى أيّ حدّ، وإلى أيّ درجة، يفرح كثير من مناصري أردوغان في بلادنا اليوم.. عندما يمتدحه ترامب، ويقول له “صديقي”، ويُثني على سياساته في المنطقة. لا يقتصر الأمر على أردوغان نفسه أبداً، ولا على أقرب معاونيه وشركائه.. بل يتخطّاهم إلى أوساط واسعة من الجماهير الاسلاميّة التي تفرح وتبتهج بامتداح ترامب- الرّئيس الأميركيّ- لزعيمهم أو لرمزهم!
***
المشهد الثّاني؛ يزور الرّئيس الأميركيّ الجديد/المتجدّد بعض الدّول العربيّة. ويُعلَن، خلال هذه الزّيارة، عن التزام أكثر هذه الدّول بدفع مبالغ طائلة لمصلحة الاقتصاد الأميركيّ (ولمصلحة إدارة ترامب، بالمعنى السّياسيّ أقلّه طبعاً). يلمّ ترامب، على ما أُعلن، التريليون وراء التريليون.. لمصلحة أكثر الاقتصادات تطوّراً وتقدّماً حول العالم.. ثمّ نحتفل، نحنُ، بذلك!
تذكّر معي المشهد العجيب: مظاهر الاعتزاز والاحتفال على وجوه عدد كبير من الصّحفيّين ومن الاعلاميّين ومن المؤيّدين لهذه الدّول الشّقيقة. بالله عليك، عزيزي القارئ: على ماذا فرحنا في ذلك اليوم؟ أو: ما المُفرح والمُعزّ في الأمر تحديداً.. هل هو دفع “ما علينا” للسّلطان الحقيقيّ والواقعيّ؟ نكتفي بهذا المقدار، خصوصاً وأنّ ترامب قد أكمل المسرحيّة هذه خلال الزّيارة الأخيرة لولي العهد السّعوديّ.
***
المشهد الثّالث؛ قد يكون من المهمِّ المُفيدِ ذكرُ واقعة قصف مدينة الدّوحة الحبيبة مؤخّراً (على يد نتنياهو الذي بدا بتهديده، بعد الضّربة مباشرةً، كالدّبّ الهائج المهتاج، والذي لا يُثنيه إلا تعطّف ترامب علينا كعرب)؛ أو واقعة “اتّفاق شرم الشّيخ” الأخير، والهادف إلى انهاء حرب قطاع غزّة (وطريقة التّمثيل التّرامبيّ علينا وعلى أهمّ قادتنا)؛ أو طريقة تملّق بعض قادتنا في لبنان للوفود الأميركيّة التي باتت تطالب أحياناً بما يُدنينا واقعاً من حربٍ أهليّة أو من فتن ٍحقيقيّة.
***
المشهد الرابع؛ ثمة صّورة بات من المستحيل تخطّيها هي بالتّأكيد: صورة القائد الجهاديّ الاسلاميّ، السّلفيّ التّوجّه “أبي محمّد الجولانيّ” أو رئيس السّلطة الانتقاليّة السّيّد “أحمد الشّرع”.. صورته في البيت الأبيض، إلى جانب دونالد ترامب. صورة ترقى إلى مقام الرّمز بامتياز، أو حتّى رمز الرّموز.
إنّها صورة أحمد الشّرع وراءَ ترامب، وأمامَه، وإلى جانبِه. ما هذا الفتح العظيم، حقّاً، أيّها القارئ العزيز؟ ما هذا الفتح العظيم، بل ما هذا الفتح العَظيم المُبين.. كما قدّمه لنا بعض الاعلام السّوريّ والعربيّ الرّسميّ؟
قبل الزّيارة: وعودٌ بالفتح الكبير، وتحضيرٌ لهذا العرس التّاريخيّ. بعد الزّيارة: تكاد تشعر وكأنّنا قد فتحنا “قسطنطينيّة” جديدة. ما هذا العزّ، حقّاً؟
قادةٌ عرب ومسلمون يُمجّدون؛ دولٌ ترحّب؛ جماهير تفرح وتحتفل؛ مجاهدون يمتلؤون بأحاسيس العزّة والنّصر؛ مؤيّدون للرّئيس الشّرع، داخل سوريا وخارجها، يعزفون ويكتبون المقال تلو الآخر..
قُدّم الأمر لنا على أنّه نصرٌ سوريّ وعربيّ واسلاميّ مُبين. لقد أُعطيت هذه الزّيارة حجماً، من الواضح أنّ زيارة موسكو لم تأخذ حيّزاً ولو صغيراً منه.. وأنّ زيارة الصّين المحتملة لن تأخذ ربّما نصفه أو ربعه حتّى.. أو ما دون ذلك بكثير.
لماذا، عزيزي القارئ، قُدّم المشهد.. وقُبض هذا المشهد من قبل الكثيرين أيضاً.. على أنّه “فتح” كبير؟
القضيّة ليست متعلّقة بأحمد الشّرع شخصيّاً بطبيعة الحال. القضيّة أعمق بكثير، وبكثير. هي مشكلة “عقلنا العربيّ-الاسلاميّ” ككلّ كما يُسميّه تلامذة محمد عابد الجابريّ ومحمد أركون.
نحن أمام مُشكلة صعبة جدّاً وعميقة، وهذا ما كنّا نعرفه جميعاً. ولكن، قد يكون أفظع تجلٍّ لهذه المشكلة يكمن في أنّنا اتّخذنا، فعليّاً وعمليّاً وواقعيّاً، عن وعي وعن لا-وعي..
لقد اتّخذ أغلبنا حاكم البيت الأبيض “خليفة” حقيقيّاً للمُسلمين!
