سنةٌ في المنفى القريب.. ذاكرة الجنوبيّين بعد «حرب الإسناد» (2/1)

بعد سنةٍ على خروج آلاف الجنوبيّين اللّبنانيّين من منازلهم فيما سُمِّيَ «حرب الإسناد»، تبدو الذّاكرة أشبه بحقلٍ مفتوحٍ لا يزال التّشكُّل جارياً فيه، لا أرشيفاً مغلقاً يمكن العودة إليه بثقة. في الجنوب اللبناني، لا تُقَاسُ السّنوات بالتّقويم فحسب، بل بتواريخ الحروب التي تحوّلت إلى علامات طريقٍ في سيرة النّاس، اجتياحٌ، عدوانٌ، انسحابٌ، حربٌ جديدة، هدنةٌ موقّتة. في هذا التّراكم تصبح «السّنة الواحدة» زمناً كثيفاً بطبقاتٍ متراكبةٍ من الخسارات والتكيّف وإعادة الحكي، وتغدو تجربة النّزوح الأخير حلقةً تُعَادُ قراءتها على ضوء ما سبقها وما قد يأتي بعدها.

عندما يروي الجنوبيّون لحظة خروجهم من قراهم في تلك الأيّام الأولى، لا يتحدّثون عن «الحرب» بوصفها مجرّد حدثٍ كبير، بل يستدعون مشاهد صغيرةً حادّة التّفاصيل. يتذكّر أحدهم رنّة الهاتف في آخر اللّيل وصوت القريب أو المختار وهو يقول على عجلٍ إنّ القصف يقترب وإنّ على الجميع أنْ يخرجوا فورًا. تتذكّر امرأةٌ رائحة البيت حين أغلقت الباب وراءها، وهي تحاول أنْ تقرّر في دقائق ما إذا كانت ستأخذ معها ألبوم الصّور القديمة أم المفاتيح أم القليل من الذّهب المخبّأ في الخزانة. يصرّ شخصٌ آخر على ذكر حالة الطّقس في ذلك الصّباح، والغيمة التي مرّت فوق السّاحة قبل أنْ يصعد إلى السّيارة المزدحمة. في هذه التّفاصيل المجهرية يظهر أنّ النّاس لا يحتفظون بذاكرة الحرب في شكل معركةٍ وعناوين سياسيّةٍ فحسب، بل في شكل صورٍ حسّيّةٍ دقيقة، في جملةٍ قالها جارٌ عند الباب، في نظرة طفلٍ لم يفهم تماماً ما يحدث، في ارتباك اختيار غرضٍ من بين أشياء البيت الكثيرة. بعد سنة، تُرْوَى هذه اللّحظة مرّةً تلو المرّة؛ لا تعود كما هي، بل تتبدّل في كلّ رواية، في ترتيب العناصر وفي تفسير قرار الرّحيل وفي تبرير السّرعة أو البطء. هكذا تتحوّل الذّاكرة إلى فعلٍ مستمرٍّ لإعادة بناء معنى ما جرى أكثر مما هي مجرّد استعادةٍ له.

غربةٌٌ على بُعْدِ ساعة

النّزوح هذه المرّة ليس عبورًا إلى بلدٍ آخر، بل خروجاً إلى «منفًى داخليٍّ» قريبٍ جغرافيّاً وبعيدٍ معنويّاً في آنٍ واحد. كثيرون انتقلوا إلى صور والنبطية وصيدا وبيروت، وإلى بلداتٍ في العمق الجنوبيّ نفسه تبدو للوهلة الأولى أكثر أمناً. المسافة بين القرية ومكان النّزوح قد لا تتجاوز ساعةً أو أكثر قليلا، لكنّ المسافة التي يحسّها النّاس في أجسادهم وحياتهم اليوميّة أوسع بكثير. يجد الجنوبيّ نفسه في مدينةٍ لا يمرّ فيها البائع المتجوّل الذي يعرفه منذ سنوات، ولا يسمع فيها في الصّباح أصوات الجيران أنفسهم الذين اعتاد عليهم، ولا يلتقي فيها بأصدقاء الطفولة على الطّرقات. هو ليس «لاجئاً» بمعناه القانونيّ، لكنّه غريب في مدينةٍ هي نظريّاٍ جزءٌ من بلده. يعود البيت الأصليّ ليطلّ يومياً في مكالمات الهاتف وفي رسائل تطبيقات التّواصل، يسأل عمّا إذا كان أحدٌ قد عاد إلى الحيّ، أو عمّا إذا كانت قذيفةٌ جديدةٌ قد سقطت في حاكورة البيت، أو عمّا إذا كان السّقف ما زال واقفا. في كلّ إشاعةٍ عن وقفٍ لإطلاق النّار تتسارع مخيّلة العودة: متى سنرجع، بأيّ سيّارة، وأيّ طريقٍ سنسلك، وبأيّ حالٍ سنجد المكان الذي تركناه على عجل؟

في مراكز الإيواء التي فُتِحَتْ في المدارس والنّوادي، وفي البيوت المستأجرة المؤقّتة، يتجاور غرباء صاروا مضطرّين إلى مشاركة المكان والذّاكرة اليوميّة. غرفةٌ واحدةٌ تضمّ عائلتين أو ثلاثاً تتحوّل إلى حلقةٍ تُعَادُ فيها رواية حروبٍ قديمةٍ وحديثة. كبار السّنّ يقصّون على مسامع من حولهم كيف كانت القرية يوم كان الاحتلال يفرض حواجزه، وكيف كان النّاس يمرّون من بين الجنود إلى الحقول والمدارس، وكيف كانوا يسمعون الأخبار من مذياعٍ صغيرٍ أو من فم عائدٍ من المدينة. من هم في منتصف العمر يقارنون بين هذا النّزوح وما عاشوه في حروبٍ واجتياحات سابقة، يحضر في كلامهم ملجأ المدرسة في تّسعينيّات القرن الماضي، والأيّام الطّويلة في حرب تمّوز (2006)، والخروج إلى سوريا أو البقاء في الدّاخل. الأطفال والمراهقون يجلسون في الزّوايا يحملون هواتفهم، يمرّرون بأصابعهم صور بيوتهم التي تُرْسَلُ إليهم من بعيد، أو مقاطع فيديو تُظْهِرُ القصف والدّخان، فيختلط في وعيهم ما عاشوه مباشرةً بما شاهدوه على الشّاشة.

أشياءٌ معلّقةٌٌ بين بيتين

وسط هذا كله، تمتلىء الذّاكرة بأشياء كثيرة. المفتاح الذي خرج مع العائلة من البيت لا يُعَامَلُ بوصفه مجرّد أداةٍ لفتح باب، بل بوصفه أوّل خيطٍ مادّيٍّ يربط الحاضر المؤقّت بالماضي المحتمل أنْ يعود. صورة البيت المعلّقة على جدار بيت الإيجار تجعل الجدار نفسه شقًّا في المسافة، نافذةً على مكانٍ آخر يحضر ولا يُمسّ. السجّادة القديمة القادمة من القرية، الأيقونة أو السّبحة المعلّقة عند باب الغرفة، زجاجة ماءٍ جُلِبَتْ من نبعٍ هناك، كلّها تتكثّف في الوعي بوصفها شظايا من «البيت الأصليّ» مزروعةً في فضاء الغربة القريبة. عندما تعود العائلة لتقصّ ما حدث، تُرَاجع خياراتها في ما أخذته معها وما تركته خلفها، قرار حمل الوثائق الرّسمية وترك ألبومات الصّور، أو العكس، يتحوّل إلى مادّةٍ للتأمّل في معنى ما اعْتُبِرَ قابلًا للنّقل وما اعْتُبِرَ قابلًا للتّضحية. في هذا المستوى الدّقيق يكشف السّرد اليوميّ عن أبعادٍ أخلاقيّةٍ وعاطفيّةٍ لا تظهر في الخطابات السّياسيّة عن الحرب.

إقرأ على موقع 180  روسيا ولقاح "كورونا".. "لحظة سبوتنيك"

الجنوب.. خبرٌ، ذكرى وجبهةٌ

يتحوّل الجنوب نفسه، بعد سنةٍ من الخروج، إلى خريطةٍ متصدّعةٍ في الذّاكرة. هناك جنوبٌ يُرَى على شريط الأخبار، مع عباراتٍ تقنيّةٍ عن محاور وقطاعات واشتباكات، يبدو كأنّه ساحةً واحدةً ممتدّة. وهناك جنوبٌ حميمٌ لا يظهر في الكاميرات، يعيش بين الكلمات التي يتبادلها المهجَّرون مساء، طريق الزّيتون إلى المدرسة، رائحة التّبغ المجفّف على السّطوح في أواخر الصّيف، صوت المؤذّن في قريةٍ صغيرة، جرس الكنيسة في ساحة ضيعة، الهواء البارد عند أطراف الجبل في مساءات الشّتاء. وبين هذين، يلوح جنوبٌ ثالثٌ مسيَّسٌ وثقيل، هو الجنوب الذي يتحوّل في الخطاب العام إلى «جبهةٍ» و«ساحة إسنادٍ» و«خطّ تماسٍ» في صراعاتٍ تتجاوز حدوده. تسمية الحرب نفسها، «حرب الإسناد»، تسمح بتأطير ما جرى ضمن سرديّةٍ أوسع عن دعم غزّة أو الدّفاع عن البلد أو الانخراط في معركةٍ إقليمية. داخل المجالس العائليّة أو في حلقات النّقاش الصّغيرة بين الأصدقاء، لا تتوحّد الرواية، هناك من يربط ما حدث بسلسلةٍ تاريخيّةٍ من المقاومة في الجنوب، ويراه استمرارًا لمسارٍ طويل، وهناك من يشعر بأنّه دُفِعَ ثمن حربٍ لم يُسْتَشَرْ في قرار خوضها، وهناك من يتأرجح بين الموقفين بحسب موقعه ومُخَاطَبيه وما يراه ممكناً أو آمناً قوله.

ثلاثة أجيال.. وسيرة واحدة

في بيوت النزوح المؤقّتة تتجاور ثلاثة أجيال، يحمل كلٌّ منها شكلًا مختلفًا من ذاكرة الحرب. الجدّ أو الجدّة يرويان حروبًا أقدم، بعضها بلا أسماء متداولة في الإعلام، لكنها محفورة في الجسد والسيرة: أيّامٌ كان عبور الطريق إلى المدينة مغامرة، وأيّامٌ كان صوت المدفع يأتي من مسافاتٍ أبعد، وأيّامٌ كان النزوح يعني قطع مئات الكيلومترات إلى بلادٍ أخرى. في نظر هذا الجيل، ما يجري الآن هو استمرارٌ لما عاشوه. فصلٌ جديد في قصةٍ لم تنتهِ. الآباء والأمّهات الذين هم في الأربعينيات أو الخمسينيات استكملوا طفولتهم وشبابهم بين تواريخ حروبٍ متعدّدة (عملية الليطاني 1978، سلامة الجليل 1982، تصفية الحساب 1993، عناقيد الغضب 1996، حرب تموز 2006، حرب الإسناد 2023)، فصاروا يقارنون ما يجري بكلّ ما سبق: يصفون الفروقات في نوع القصف، في طول أمد الحرب، في تنظيم الإغاثة، في استجابة الدولة والجهات السياسية. القول المتكرّر إنّ «هذه الحرب غير تلك» ليس مجرّد انطباعٍ عابر، بل طريقة في تركيب الذاكرة وترتيب تجارب العنف في سلسلةٍ مفهومة. الأطفال والمراهقون، من جهتهم، يحملون ذاكرة ملوَّنة بالشاشات: يرون قراهم من الأعلى عبر تصوير الطائرات المُسيَّرة، ويستقبلون صورًا حيّة عن الدمار قبل أن تُتاح لهم فرصة شمّ رائحة الغبار في المكان نفسه. تتشكّل علاقتهم بالجنوب على هيئة ازدواج غريب: بيت النزوح الذي يفرض حضوره اليومي، والبيت الأصلي الذي يحضر بوصفه صورةً متجدّدة أو مقطع فيديو يُرسَل إليهم عند كلّ زيارةٍ خاطفة يقوم بها قريبٌ أو جار.

(*) غداً (السبت) الجزء الثاني والأخير بعنوان: ذاكرة الجنوب المعلَّقة.. الجسد والعودة والخيال بعد «حرب الإسناد»

Print Friendly, PDF & Email
سعيد عيسى

دكتوراه في الأنتروبولوجيا الاقتصادية؛ كاتب وباحث في شؤون العمال والحماية الاجتماعية؛ خبير في الحوار الاجتماعي والحوكمة والتدريب.

Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  "فورين أفيرز": في أية حرب إقليمية.. إسرائيل ستقاتل في 8 جبهات!