روسيا ولقاح “كورونا”.. “لحظة سبوتنيك”

لم يكن عبثاً أن اختارت روسيا تسمية “Sputnik-V” للقاح الأول ضد فيروس كورونا. هي بالفعل “لحظة سبوتنيك” علمية، توازي في أهميتها “لحظة سبوتنيك” الفضائية التي أصابت الأميركيين بذهول عام 1957، حين أرسل الاتحاد السوفياتي أول قمر اصطناعي إلى مدار الكرة الأرضية، كاسباً بذلك الجولة الأولى في السباق نحو الفضاء.

خيار التسمية مهّد له كيريل دميترييف، الرئيس التنفيذي لصندوق الثروة السيادية لروسيا حين قال الشهر الماضي الماضي: “نحن أمام لحظة سبوتنيك لكثير من الناس الذين لم يتوقعوا أن تكون روسيا هي الأولى” في تطوير اللقاح.

برغم من أن البعض يقارب موضوع “كورونا” من باب التوظيف السياسي، إلا أن ثمة بديهية لا يمكن لأحد تجاوزها، وهو أن ما بين أربعة وستة آلاف شخص يموتون يومياً بسبب الفيروس المستجد، في حين يعاني الكثير من الأشخاص الذين تعافوا سريرياً من عواقب مختلفة، علاوة على أن العدد الإجمالي لحالات المرض الملحوظة لا تشي بامكانية تكوين ما يعرف بـ”مناعة القطيع”.

لذا، كان العالم على عجلة من أمره للحصول على لقاح: عامل الوقت هو الأساس، ومن الواضح أن روسيا كسبت الجولة الأولى من السباق.

كيف يعمل اللقاح؟

وفقًا للخدمة الفيدرالية الروسية لمراقبة حماية حقوق المستهلك ورفاهية الإنسان، فقد تم تطوير 26 خياراً من لقاحات فيروس التاجي في 17 مؤسسة بحثية في روسيا. تم بالفعل اختبار أحد اللقاحات التي طورها مركز غاماليا، وهو لقاح Gam-COVID-Vac أو Sputnik-V

الحديث هنا يدور عن لقاح صناعي في صورة منصة تكنولوجية خاصة بناقل الفيروس الغدي، وهي تقنية تدرس منذ قرابة عشرين عاماً في روسيا، وتم تطوير العديد من اللقاحات الناجحة على أساسها، بما في ذلك اللقاح ضد فيروس “ايبولا” والفيروس المسبب لـ”متلازمة الشرق الأوسط التنفسية” (“ميرس”).

ويستخدم اللقاح نواقل فيروسات غدية بشرية تم إضعافها حتى لا تتكاثر في الجسم.

تكمن أهمية اللقاح الروسي الجديد، ليس في عامل سرعة التطوير فحسب، بل في كون غالبية اللقاحات التي يجري العمل على تطويرها اليوم في العالم مختلفة تماماً.

على سبيل المثال، تستخدم ثلاثة لقاحات صينية فيروس “ميتًا” أو “معطلاً”، بينما تستند اللقاحات الأميركية الجاري تطويرها على الحمض النووي الريبي الكامل لفيروس “كوفيد”. وأما اللقاحان الروسي والبريطاني فيستخدمان ما يسمى بالناقل الفيروسي غير المتكاثر، وهو الحمض النووي الريبي الفيروسي “المخصي” بشكل خاص والذي تمت إزالة جميع الأجزاء الخطرة منه عمداً وبشكل مقصود.

يعتبر النوع الثالث من اللقاحات الأكثر أمانًا ، حيث لا يدخل الفيروس نفسه أو الحمض النووي الريبي الكامل الخاص به إلى جسم الانسان، بل جزء تم اختياره خصيصاً من شفرته الجينية.

لذلك، غالباً ما تنتج عن مثل هذا اللقاحات آثار جانبية أقل بكثير، وهو أكثر استقراراً وأماناً، ويستهدف نوعاً معينًا من الخلايا.

لتبسيط الأمر، يمكن اعتماد اللغة العسكرية في شرح الآلية التي يعمل عليها هذا النوع من اللقاحات، فهو أشبه بـ”قصف مكثف”، يستند إلى احداثيات الحمض النووي الريبي، ومن خلال “صواريخ عالية الدقة” (الناقلات الفيروسية).

ومع ذلك، فإن استخدام النواقل الفيروسية في انتاج اللقاحات له أيضاً تحدياته الخاصة، إذ عادةً ما يكون اختبار هذه اللقاحات أكثر صعوبة، ويتطلب وقتاً أطول في مرحلة التجارب السريرية.

لذلك، فإن تطوير الفيروس الروسي يعتبر انجازاً علمياً هائلاً، ففي غضون نصف عام، ابتكر فريقان مستقلان من العلماء والأطباء لقاحات تعمل بشكل كامل على مثل هذا الأساس البحثي الصعب. على الرغم من أنه في الماضي، كان هذا العمل يستغرق عادة من سنتين إلى خمس سنوات.

تشكيك مردود عليه

تقابَل “لحظة سبوتنيك” الروسية الجديدة بتشكيك في الغرب، عبّر عنه مجدداً أنطوني فوسي، كبير الخبراء في مجال الأمراض المعدية في الولايات المتحدة، الذي علق على مسألة اللقاح الروسي قائلاً “إذا أردت المخاطرة وإيذاء الكثير من الناس، اعطهم شيئًا لا يساعدهم”، محاولاً تبرير تخلّف بلاده في السباق نحو اللقاح ضد “كورونا” بالقول “يمكننا البدء في القيام بذلك الأسبوع المقبل إذا أردنا”، مضيفاً “آمل أن يكون الروس مقتنعين حقًا بأن اللقاح آمن وفعال… لكنني أشك كثيراً في أنهم فعلوا ذلك”.

رغم “حالة الانكار” الأميركية التي عبّر عنها فوسي، ثمة أسباب كثيرة لدحض حملة التشكيك الغربية التي تتمحور حول “سرعة” تطوير اللقاح الروسي والآثار الجانبية التي يمكن أن يحملها.

أولاً، ثمة ما ينفي التشكيك الغربي في امكانية تطوير لقاح ضد “كورونا” في هذا الوقت القصير.

ثانياً: اللقاح الروسي هو نسخة معدلة من لقاح الذي تم إنشاؤه بالفعل لمكافحة أمراض أخرى.

ثالثاً: استناداً إلى الخبرات الروسية في مجال علم الأوبئة والأحياء الدقيقة، القائمة أساساً على ارث سوفياتي كبير، استطاعت مراكز الأبحاث الروسية، وأهمها على الإطلاق مركز “غاماليا”، وهو مركز وهو تابع لوزارة الصحة الروسية وبعض مختبراته تمول من وزارة الدفاع الروسية للابحاث الخاصة بالحروب البيولوجية، من تطوير منصتها التكنولوجية منذ عشرين عاماً، ونجحت بالفعل في تطوير عدد من اللقاحات ضد الفيروسات كما سلف.

إقرأ على موقع 180  ميدل إيست آي: فرنسا تتطلع لنفوذ إقليمي أوسع عبر بوابة العراق

رابعاً: يمكن القول إن العلماء الروس – والى حدّ ما البريطانيين –  كانوا محظوظين حين تمكنوا بسرعة كبيرة في إيجاد نقطة ضعف في الجينوم الفيروسي، ما يتسبب في استجابة مناعة واضحة لا لبس فيها.

خامساً: للمرة الأولى في تاريخ تطوير اللقاحات، لم يكن العلماء الروس مضطرين للسير في الظلام، في محاولتهم الحصول على فتات المعرفة الثمينة في قصاصات المعلومات من براءات اختراع اللقاحات، وفي المنشورات غير المكتملة للعلماء الذين غالباً ما  كانوا يوقعون اتفاقيات عدم مشاركة المعلومات لصالح شركات الأدوية الكبرى، فالجائحة الوبائية أوجدت جهداً علمياً مشتركاً كُرس للمهمة العاجلة المتمثلة في التصدي للانتشار العالمي لفيروس “كورونا”.

سادساً: التطوّر الكبير في مجال تطوير اللقاحات مخبرياً في روسيا يوازيه تقدّم مماثل على مستوى التجارب السريرية، فجامعة سيتشينوف على سبيل المثال شهدت خلال السنوات الماضية طفرة كبيرة في هذا المجال، حيث أمكنها خلال اقصر فترة زمنية ممكنة اجراء دراسات معقدة تراعي متطلبات وزارة الصحة الروسية والمنظمات الدولية.

بعيداً عن “حالة الانكار” الأميركية للانجاز العلمي الروسي، ثمة أسباب كثيرة لدحض حملة التشكيك التي تتمحور حول “سرعة” تطوير اللقاح وآثاره الجانبية

أما في ما يتعلق بالحديث عن المخاطر المتصلة بالآثار الجانبية، فمن المعروف أن ضوابط وزارة الصحة الروسية صارمة، حتى حين تقاس تقارن بضوابط الدول الأكثر تقدماً في العالم، علاوة على أن التجارب السريرية في مراحلها الثلاث الأولى حسمت هذا الأمر بشكل كبير، وحددت الفئات التي يمكن أن يولّد لديها اللقاح الجديد عدداً من المضاعفات، حيث سيكون ممنوعاً لمن يعانون من الحساسية والأشخاص المصابين بالتهاب المفاصل وأمراض مزمنة أخرى، في حين يتطلب تطعيم الأطفال إجراء أبحاث إضافية، ضمن مرحلة جديدة قررت السلطات الروسية اجراءها سريعاً، تنتهي خلال شهر أيلول/سبتمبر، تزامناً مع الاستعدادات لبدء حملة التطعيم المتدرجة.

ووفقاً لرئيسة جهاز الرقابة الصحية الروسي آنا بوبوفا “ليس هناك ادنى شك في أن اللقاح ضد الفيروس التاجي الجديد الذي سيصل إلى الناس سيكون آمنًا تمامًا وبالطبع فعال”، مشددة على أن “روسيا لم تشهد يوماً وجود لقاحات ذات أمان مشكوك فيه، فنحن حريصون جدا على جودة اللقاحات، ونمارس رقابة صارمة جدا على جودتها”.

السؤال المحوري الذي ستتناوله اختبارات المرحلة ما بعد الثالثة، والتي بدأت عملياً في الثالث من آب/اغسطس الحالي، يتمحور حول الفترة الزمنية التي يمكن أن تشملها مفاعيل اللقاح، لا سيما أن بعض التقارير أفادت بأنّ بعض حالات الإصابة بكورونا أظهرت غياب الأجسام المضادة للفيروس من جسم المصابين بعد فترة، ما يثير مخاوف من احتمال عدم استجابة الفيروس للقاح بعد فترة معيّنة.

في هذا السياق، تشير تقديرات الخبراء الروس إلى أن المناعة المكتسبة من اللقاح الجديد ستكون لقرابة عامين، وهو أمر مثير للطمأنينة، أخذاً في الحسبان استمرار العمل على مستوى العالم لفهم فيروس “كوفيد-19” أكثر والتعامل معه، إن على مستوى اللقاحات أو العلاجات الدوائية.

الأهم بالنسبة إلى مجتمع العلماء في روسيا أن الصراع مع فيروس “كوفيد-19” محوره الأساسي السباق مع الزمن، وهو ما دفع السلطات التنظيمية الروسية إلى التصرف في أقصر وقت ممكن واعتماد برنامج التجارب السريرية، ما أتاح الحصول على لقاح عملي واختباره في الوقت المناسب قبل وصول الموجة الخريفية الثانية من الوباء.

Print Friendly, PDF & Email
وسام متى

صحافي لبناني متخصص في الشؤون الدولية

Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  شظايا أوكرانيا تُصيب مفاوضات.. فيينا!