المُنطلَق

طالع الرَّجلُ شاشةَ مَحموله لحظات تلقى خلالها بعض الأخبار، ولم يلبث أن افتتح نقاشًا مع جلسائه حول الإجراءات العقابية المُتخذة تجاه بلوجر شهير، ثم اتسع الكلام ليطال الضوابطَ الرقابية الحاكمة لدراما شهر رمضان.

مِن مُنطلَق الخوف على أجيال قادمة؛ جاء رأيٌ داعمٌ لتقييدَ الأعمال الفنية ومُؤاخذة صناع المُحتوى غير المُلتزمين، ثم عارضه آخر مُدافعًا عن الحريَّات، مُندِّدًا بتحجيمها، ساخرًا من ربط الفن بمفردات مثل النظافة ومُنتقِدًا استخدام الأخلاق العامة كسلاح ضدَّ المبدعين؛ وبخاصة وقد بدَت المعايير المُفعَّلة في الفترات الماضية واسعة مطاطة، تُعطّل الخيالَ، ولا تأتي في الوقت ذاته بمردود إيجابيّ، والظنُّ أن حصارَ الجماهير في أطر مَرسومة لم يعد مُمكنًا ولا منطقيًا، فالوقائع التي تعرضها الحياةُ الحقيقية فجَّة صارخة، تتخطى ما يطرأ بالبال، وقد تعدَّت وسائلُ التواصُل المُتقدمة وأدوات النشر والبثّ الحديثة؛ الحدودَ كافة.

***

المُنطلَق اسمُ مكان من الفعل انطلَق، الفاعل مُنطلِق بكسر حرف اللام والمصدر انطلاق. يُقال أطلقَ له؛ بمعنى أفسَح له، وأطلقَ عليه؛ أي في تجاهه، وأطلقَ مِنه؛ إشارة لمكان حدوث الفعل؛ كأن يُطلِق كاتبٌ دعوةً للقرَّاء من منبَره في صحيفة ما، أو يطلقُ مُحاور فكرةً جديدة مِن برنامج يقدمه، أو يُطلق صاحبُ رؤية مغايرة حملةً من مُؤسَّسته، وإذا قيل إن عملَه جاءَ من مُنطلق رغبته في تحقيق النجاح؛ فإشارة للدافع الكامن وراءها.

***

إذا انطلقَت المُناظرةُ فقد بدأ السّجالُ اللفظيُّ بين الأطرافِ المُتنافِسة، يُحاول كلُّ أن يهزمَ الآخرَ باستخدام الحُجَّة لا اليد، والعقلِ لا السلاح. الإنصاتُ للمتناظرين في مُعظم الأحوال مُتعةٌ؛ لكن كثيرَ السّجالاتِ التي تابعناها في الفترة الماضية تحوَّل إلى معارك؛ أغلبها سوداويٌّ مُضحِك، وفي المُقدمة تلك التي انخرط فيها الرئيسُ الأمريكي؛ ضاربًا بقواعد الحوار وبمنطق الحِجاج عرضَ الحائط.

***

“على مَن نُطلِق الرصاص“ واحدٌ من أهم مائة فيلم في تاريخ السينما المصرية؛ السيناريو لرأفت الميهي والإخراج لكمال الشيخ، أما البطولة فلسعاد حسني ومحمود ياسين، وقد أنتج في سبعينيات القرن العشرين. يقدّم الفيلم حقبةً من الفساد المتفشي التي يُفترَض أن تمثلَ صَدمةً حقيقيةً للمُتفرجين؛ لكن الواقعَ المُؤلِم في يومنا هذا يؤكد أنها باتت ضِمن الكلاسيكيات السَّاذجة؛ لا تُسَبب ولو دهشةً عابرة. تجاوزها الحاضِر وأنتجَ ما يَفوقها ويَجُبُّ تفاصيلَها، وتحوَّلت مُشاهدتُها إلى فُرصَة للترحُّم على الماضي وأهلِه الطيبين.

***

بعضُ الأحيان يتَّخذ المرءُ قراراته من مُنطلَق حساباتِ المَكسب والخسارة، وفي مرَّات أخرى من مُنطلَق المَشاعر التي تملي عليه أمرًا قد لا يُقرّه العقلُ منفردًا، وفي أحيان أقلّ من مُنطلَق الضَمير السَّليم؛ لا تهمُّ النتيجة آنذاك كثيرًا. لا مَفَرَّ مِن وُجود دافع سواء أدركه الواحد بوضوح أو بقي متواريًا في قَرارة نفسِه، مُنطَلق يُحرك الفرد منا ويُحدد اتجاهاته، والحِكمَة في فهمه واستبصَارِ الطريق.

***

أمست مُحاولاتُ الخروج إلى الهواءِ الطَّلق مِن المُحَال. ضاقت الأمكنةُ برغم توسِعَة الشوارع، وتقلصَت الفراغاتُ برغم المساحاتِ المُضافة. نمَت جدرانٌ عريضة في الصُّدور، وصنعت سجونًا افتراضية، يمُر بها الهواءُ مُكبلًا بأدخِنةٍ وأضواءٍ وألوانٍ وضَجيج؛ لا يعين المرء على التقاط أنفاسه؛ إنما يكتمها.

***

يَصِفُ المسؤولون الأوضاع، فيؤكدون وجودَ انطلاقةٍ كبرى وانفراجةٍ وشيكة. يستمع الناسُ ويُمصمِصون الشفاه ويتعجَّبون للقول؛ إذ يَرون نقيضَه ويلمَسون ما يجافيه. الصّدقُ والمصارحة بحقيقة الأوضاع من أعمدةِ الثقة التي يُفترَض أن تنموَ بمرور الوقت؛ لا أن تتآكل، وأن تكون أيضًا متبادلة، فإن وَهنت أوغابت؛ ضَعفَ البناءُ وتهاوى.

***

انطلقت صافرةُ الحكمِ تُعلِن انتهاءَ المُباراة على أرضِ المَلعب، وبداية أخرى في وسائل الإعلام؛ يتنافس في إطارها المُعلقون والمُذيعون وربما ضيوفهم، وبخاصة حين تقود الأحداثُ السَّاخنة التي تحتضنها الملاعب بعض المرات، إلى تراشُقاتٍ أبعد من اللعبة وما تحقَّق خلالها من أهداف وما ضاع. وقعت مشادات عنيفة مع جماهير الجزائر في السابق والمغرب في القريب؛ لكن أواصر الود لا تنقطع بين الأشقاء، وقد رفع المغربيون في لحظة عرفان وتضامن لافتة تُحيّي لاعبًا مِصريًا مُعتزلًا؛ من مُنطَلق الاحترامِ والإعجابِ اللذين تركتهما مواقفُه النبيلة في وجدان الملايين.

***

شبَّ كثيرنا على العبارة الشهيرة: “انطلق الآن مدفع الإفطار؛ آذان المغرب بصوت الشيخ محمد رفعت”، وإذا بصَوتٍ عَذبٍ نادر الوجُود، يَنساب هادئًا مُريحًا لأغلب السَّامعين. في أصواتِ بعض من يتولون النداء لصلاة الفَجر في زمننا هذا نشازٌ مُفجِع؛ لكن في برنامج التلاوة الذي التفَّ المشاهدون مؤخرًا حوله مُنبهِرين؛ أصواتٌ تشفي الأسماعَ المَعطوبة وتؤكد عدم نُضوب المَعين.

***

الطَّلقُ ما اشتدَّ وحَمي وطيسُه؛ إنذارٌ بولادة وشيكة. انقباضاتٌ متتابعة شِبه مُنتظمة، تحاكي في قوَّتها انطلاقةَ الرصاصة. الألمُ في هذه الحال هائلٌ مُريع؛ فإن خرج الرَّضيع وسُمِعَ صوت بكائه؛ زالت الأوجاعَ وحلَّت محلَّها الضحكاتُ والمُباركات.

***

أُطلِقَ على فؤاد المهندس لقبُ “الأستاذ” والظنُّ أن قامةً أخرى لم تُضاهِ قامتَه على مرّ العقود، وأُطلِق علي أم كلثوم لقبُ “صَوت مِصر” ولم يوجد إلى يومنا هذا صوتٌ يناهز صَوتها نضجًا وإحساسًا؛ لكن اللقبين لم يُمنحا في الوقت ذاته للصوت أو الأداء وحَسب؛ بل هما مُحصّلة حياةٍ حافلة، عامرة بالشجاعة والعطاء، مُكلَّلة بالمواقف الحاسمة؛ حتى في لحظات الضَّعف وتخاذُل الآخرين.

إقرأ على موقع 180  المَهبَط 

***

قد يعدو الواحد في سرعة عظيمة فيغدو كالطلقة، وقد يفقد أعصابَه فيأتي بالمثل حديثُه: طلقة نارية دويها عالٍ والإصابة التي تحدثها خطيرة. كذلك قد يلقي خطابًا منمقًا وجذابًا؛ فيصفه السَّامعون بطلاقة الِّلسان وحُسن البيان، وقد يُطلِق لخياله العَنان؛ فيتخطى بعقله الحواجِزَ ويطوف عوالمَ غير تقليدية.

***

ربما يقوم أحدهم بفعل يمسُّ آخرَين بضرَر؛ ثم يِبرِّره بأنه من مُنطلَق الحِرص على مصلحتهم. القائم على تحديد “المصلحة” قد يكون مسئولًا بحكُم مَنصبه، أو قيِّمًا بحكم درجة قرابته، أو مجرد شخص بلا صفة تخوله اتخاذ القرار. بعضِ الأحوال يكون الحِرصُ على المَصلحةِ عَلكةٌ تمضُغُها أفواه السَّادة الحاكمين، الراغبين في كسب الوقت وإخماد الغضب؛ يعلنون بها أحقيتهم في التقرير دون أن يصدقها العملُ، يصوغونها كوعد آجل بالأفضل الذي لا يتحقَّق، ودفاعًا عن خطأ تحقَّق.

(*) بالتزامن مع “الشروق” 

Print Friendly, PDF & Email
بسمة عبد العزيز

طبيبة وكاتبة مصرية

Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  "نيويورك تايمز": لا يمكن إحياء جثة إتفاق نووي ميت!