إن الأنا المتضخمة ليست مجرد صفة عابرة بل هي تعبير عن اضطراب في الشخصية، يتجلى في التمركز المطلق حول الذات، وإصدار الأحكام من منظور المصلحة الشخصية البحتة، مع إهمال تام لمشاعر وحقوق الآخرين. وهناك فرق بين الأنا كتركيب نفسي (إيجو) والنرجسية المرضية. ومن المسلم به، أن الأنا لها أصل يرتبط بحب الامتلاك عند البشر. وتأتي التربية داخل الأسرة والأعراف الاجتماعية، للضبط والتعليم: لا يكفي أن نرغب في شيء لكي نحصل عليه؛ فنضوج شخصية الإنسان يتم بفعل سلسلة من التوازنات تنشأ بين الدوافع الغريزية وما تتقبله الأخلاق الاجتماعية.
و”المصاب» بهذا الداء هو شخص نرجسيّ يعيش تحت وطأة أوهام العظمة، ويشعر غالبًا بنقص في التقدير من حوله، مما يدفع به إلى الغرور؛ إلى تصرفات مبالغ فيها. إنه يعشق ذاته، ويُدقّق في أدق تفاصيل مظهره لإثارة الإعجاب، ولا يطيق سماع إلّا كلمات المدح والثناء، وغالبًا ما يتسم بالانتهازية لتحقيق غاياته بأي ثمن.
أسباب الاختلال ومسارات العلاج
وتعود أسباب تضخم الأنا وفقدان الإحساس بالواقع إلى خلل في نظام العقاب والمكافأة، والشعور بتجاهل الآخرين له، والتدليل الزائد للطفل بمنحه كل ما يريد بسهولة… بالإضافة إلى عامل اجتماعي مهم وهو الوجود الطاغي لنماذج حول الفرد تُعلي من شأن الأنانية والتعالي. عنيتُ نماذج يُمثّلها زعماء ووجهاء ومشاهير.
أما المفتاح الأول لعلاج السلوك الأناني فيتمثل في غرس قيم العطاء والتعاطف مع الآخرين. يبدأ ذلك بتعليم الفرد أن يضع نفسه مكان الآخر، ليشعر بآلامه واحتياجاته. ومن الأهمية بمكان ألا نتسامح مع الأفعال الأنانية؛ مثلاً، معاقبة الطفل الذي يستولي على لعبة غيره بحزم هو ضرورة قصوى، وإلا سيعتاد أن العقاب ليس أمرًا جديًا. يجب أن نُعلّمه معنى الشعور بآلام الآخرين، وأن نكافئ الأعمال الخالية من الأنانية، مُبرزين أثرها الإيجابي على الفرد والمجتمع.
الأنا المجتمعية المتضخمة
قد نتبيّن أسباب الأنانية المفرطة على المستوى الفردي ونبتكر سُبل علاجها، لكن كيف تكون الحال إذا ما تضخّمت الأنا على مستوى الجماعة أو الطائفة أو الوطني القومي؟
النرجسية القومية الجماعية هي عنصرية بامتياز. يُعبّر عنها خير تعبير المشروع الصهيوني الذي يحاول إقامة دولة يهودية خالصة وطرد كل الفلسطينيين. ويعتقد اليهود الصهاينة أنهم شعب الله المختار وأن كل الشعوب والمجتمعات خلقها الإله في الأرض لخدمتهم، وبالتالي لا داعي للاكتراث بحقوق الآخرين.
والجماعات الطائفية تتبدى أحياناً، كيانات نرجسية تغرق بعصبيتها الطائفية. كما يمكن أن نراها في سلوكيات بعض المتعصبين المسيحيين الذين يتعاملون مع تاريخهم كتاريخ تفوق ثقافي مسيحي أرفع من مرتبة العرب. غير أن التعصب الأعمى ليس حكراً على طائفة بعينها.
وقادة الطوائف غالبًا ما يكونوا نرجسيين لا يعنيهم سوى مصالحهم ومكاسبهم الشخصية أو الفئوية، إنّهم سياسيون يفتقرون للتربية الصحيحة بمعاير المصلحة الوطنية الحقيقية، ولا يُمثلون القدوة الصالحة. وتؤثر سماتهم الشخصية على اتخاذ القرارات، وفي تصعيد الصراعات ومنع حلها.
نمط حياتي يحب الظهور
في واقع المجتمع الطائفي تسود عقلانيات زائفة على نمط الحياة اللبنانية، كثقافة حب الظهور والإهتمام بالمظاهر الخارجية على نحو صارخ. الإصرار مثلاً على ارتداء ثياب الموضة الأخيرة الدارجة، ناهيك عن الإسراف في الاستهلاك المفرط للكماليات وفي تبديل أجهزة الهاتف الخلوي.
وفي الواقع الطائفي، تُفهم بعض القيَّم بالمقلوب فيتحول الوقح الذي يفرض نفسه عنوةً، صاحب «شخصية قوية». والانتهازي الفاسد نقول عنه «شاطر» وحربوق ويعلم من أين تُؤكل الكتف».
وعي جماعي ومحاسبة
إن معضلة الأنا المتضخمة، سواء على المستوى الفردي أو المجتمعي، ليست مجرد قضية نفسية فردية، بل هي مرض اجتماعي عميق يعصف بالبنيان الأخلاقي والسياسي للوطن، ويُعيق أي تقدم حقيقي. لذا ندعو إلى تطوير معرفتنا بعلم نفس مجتمعاتنا، وأن يقترن الوعي الجماعي بمحاسبة صارمة وفعّالة. محاسبة كل من يتغلب على عقله غرور الأنا، وكل من يرى مصالحه فوق مصلحة الوطن العليا. يجب ألا يتساهل المجتمع مع تلك الأنانية المتضخمة التي تلتهم مقدراته وتُدمّر مستقبله. لن يتغير واقعنا ما لم نبدأ بمحاسبة الأنا المتضخمة، أينما وُجدت، في ذواتنا، وفي محيطنا، وفي قياداتنا. فعلى قدر جرأتنا يكون أملنا في بناء مجتمع متوازن وقادر على النهوض من جديد.
