الجيش.. حارس الحدود والهوية والمجتمع

حين تتقدّم الجيوش في المجتمعات المعاصرة، تتقدّم معها فكرة الانتماء بوصفها وعدًا كبيرًا، يُقدّم للجندي معنى، وغطاءً هوياتيًا، ومساحة رمزية يعيش فيها الفرد حالة اكتمال. يزدهر هذا الوعد كلما كانت الأرض الاجتماعية شديدة الخشونة، وكلما أحاطت بالفرد ضغوط اقتصادية خانقة. هكذا تتقدم المؤسّسة العسكرية كجسر يحمل الأفراد من ضفة الشقاء اليومي إلى ضفة الاعتبار الاجتماعي، فيتحول الوعد إلى انتماء، ويتحول الانتماء إلى عقيدة.

الجندي يصعد سلّم الولاء عبر ثلاث قوى: الإيديولوجيا، الخطاب الرمزي، والحافز المادي. ولادة هذا الولاء تولد في موقع شديد الحساسية، حيث تتقاطع الحقيقة مع الوهم. الإيديولوجيا تصبح غلالة شفافة تغطي الدافع المادي، والدافع المادي يلبس ثوبًا أخلاقيًا عبر شعار الوطن. كل شيء يجري داخل معمل نفسيّ فائق الحدة، معمل تُشغّله الدولة عبر التجنيد الإجباري أو الجيش المهني.

يحتضن الجيش شرائح واسعة من الفقراء، لأن الفقر يفتح أبوابًا واسعة أمام هذا المعمل. الجندي القادم من بيئة محدودة الدخل يدخل الجيش بصفته باحثًا عن حياة أكثر انتظامًا، وراتب ثابت، ورعاية اجتماعية. الرتبة العسكرية تمنحه ما يشبه القيمة الرمزية التي يفتقدها في محيطه الاجتماعي. هكذا يصبح الجيش مساحة ترميم للذات؛ ترميم للمكانة، وترميم للكرامة. كل هذا يُنتج نوعًا من الولاء الهادئ؛ ولاءٌ يذوب في شعارات الانضباط، ويتحوّل إلى تصديق كامل لكل ما يقدّمه له الخطاب العسكري.

الجيش في كثير من دول العالم يفتح أبواب الترقّي الاجتماعي عبر الامتيازات التعليمية والسكنية والصحية، فيتحول الجندي إلى صاحب هوية جديدة تتجاوز طبقته الأصلية. هذه الهوية تمنحه ما يشبه الاعتراف الداخلي، اعتراف بأن وجوده يحمل قيمة، وأن تاريخه الشخصي يملك مكانًا داخل تاريخ الوطن

في هذا السياق، يظهر التجنيد الإجباري كأداة ذات طابع مزدوج. فالدولة تستخدمه لبناء ما يشبه “المواطنة المؤسّسية”. الجسد يدخل المعسكر، والروح تدخل ماكينة تشكيل الهوية. الجندي يعتاد الإيقاع، النشيد، العلم، الطابور، التحية. كل صباح يحمل معه إعادة صياغة للجماعة. الجندي يخرج من بيئته الفردية، ويتحول إلى وحدة داخل بناء جماعي واسع. هذا البناء ينسج فوقه شبكة من الانضباط، تُصنع عبرها هوية وطنية متماسكة، لا عبر التربية المدنية وحدها، بل عبر منظومة يومية تتكرر عبر الحركة، الإيقاع، الطاعة والأوامر.

التجنيد الإجباري يُقدّم للدولة شيئًا آخر بالغ الأهمية: توزيع الانتماء على كامل المجتمع. حين يدخل ابن القرية وابن المدينة وابن العائلة الميسورة وابن العائلة الفقيرة إلى الثكنة ذاتها، يتشكل ما يشبه “الأخوّة المصطنعة”. الدولة تدرك قيمة هذا التفاعل، وتستخدمه لترسيخ ولاء جماعي يتجاوز الفوارق الطبقية. مع ذلك، تظل البيئة الفقيرة الخزان الأكبر للعسكر المتفرغين، لأنهم يجدون في المؤسسة العسكرية امتيازًا استثنائيًا لا يجدونه في سوق العمل الضيّق.

في ألمانيا، بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، أعادت الدولة بناء جيشها بطريقة تجعل المؤسسة العسكرية جزءًا من المجتمع وليس سلطة فوقه. التجنيد الإجباري صنع هذا الترابط. الشاب الألماني يدخل الجيش لفترة قصيرة، فيتعرّف إلى “الدولة الملموسة” عبر حياة يومية منظمة. الجيش ينفتح على المجتمع، والمجتمع ينفتح على الجيش. وبرغم تقليص التجنيد لاحقًا، حافظت ألمانيا على فلسفة تجعل الجيش امتدادًا للقيم المدنية لا نقيضًا لها. الجندي الألماني يعيش علاقة صحية مع المواطنة، لأن التدريب العسكري يرتكز على فكرة الدفاع عن المجتمع، لا الدفاع عن النظام السياسي الحاكم.

أما اليابان، فقد استخدمت التجنيد الإجباري في أواخر القرن التاسع عشر لإعادة تشكيل الأمة. فلاحون من الريف، عمّال من المرافئ، أبناء المدن، جميعهم دخلوا المؤسسة العسكرية لحمل مشروع “الدولة الإمبراطورية الحديثة”. الجندي الياباني عاش داخل ماكينة نفسية هائلة القدرة، ماكينة تربطه بفكرة الأمة عبر الانضباط الصارم، الاحترام الجمعي، والعقيدة الوطنية. الجيش الياباني تحوّل إلى مدرسة لإنتاج المواطن، وليس مجرد مؤسسة قتالية. هكذا اندفعت اليابان نحو بناء قوة عسكرية تشكّل أساس صعودها الصناعي والاقتصادي.

في الحالتين، يظهر الجيش كمنصّة لبناء “الهوية الوطنية الفاعلة”، وهوية الجندي داخل هذا البناء تصبح جزءًا من عقل أكبر، عقل الدولة. الإيديولوجيا تُستخدم كقالب، والتدريب كأداة، والرتب العسكرية كسلم اجتماعي لا يتوفر في السوق المدني.

عبر هذا الفهم، يتحوّل الجيش إلى مطهر نفسي واجتماعي. التدريب المكثف يعمل على تفريغ الفرد من فوضى حياته السابقة، ويعيد ترتيب الإيقاع الداخلي للجسد والعقل. النشيد يربط مشاعر الجندي بنغمة وطنية موحّدة. العلم يربط عينه برمز بصريّ كامل. القسم العسكري يربط صوته بسلطة معنوية عليا. هكذا يُخلق الانتماء، هكذا يتشكل الولاء، وهكذا تتجذر العقيدة.

الجيش في كثير من دول العالم يفتح أبواب الترقّي الاجتماعي عبر الامتيازات التعليمية والسكنية والصحية، فيتحول الجندي إلى صاحب هوية جديدة تتجاوز طبقته الأصلية. هذه الهوية تمنحه ما يشبه الاعتراف الداخلي، اعتراف بأن وجوده يحمل قيمة، وأن تاريخه الشخصي يملك مكانًا داخل تاريخ الوطن.

عند هذه النقطة، تتضح مفارقة كبرى: المؤسسة العسكرية تتقدم كجسر للعدالة الاجتماعية، مع أنها تستمد قوتها من قساوة الفروق الطبقية. الشرائح الميسورة تستخدم العلم والجامعة للعمل المدني، بينما الشرائح الفقيرة تتقدم نحو الثكنات لتشييد هويتها ومكانتها. الفارق يخلق توازنًا غريبًا: الجيش يمنح الفقراء قيمة، والدولة تحصل عبرهم على قوة بشرية منتظمة ومرتبة.

إقرأ على موقع 180  نظام عالمي ثنائي القطبية.. بعد الحرب العالمية الثانية (9)

هكذا يولد الولاء العسكري عبر معادلة مركبة: راتب يوفّر الطمأنينة، خطاب يضفي القداسة، تدريب يصنع الانضباط، وعلم يخلق شعورًا ببيت رمزي واسع. الجندي يعيش عبر هذه المعادلة حالة اكتمال، ولاء يتجاوز المنطق الفردي، وانتماء يتجذّر داخل منظومة أكبر منه.

هذه المنظومة هي الدولة؛ والدولة تستثمر في هذا الانتماء لتعيد تنظيم مجتمع بكامله حول مركز واحد: الجيش بوصفه حارس الحدود، وحارس الهوية، وحارس توازن القوى داخل المجتمع.

Print Friendly, PDF & Email
عبد الحليم حمود

رئيس تحرير مجلة "بوليتيكا"؛ روائي وفنان تشكيلي لبناني

Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
online free course
إقرأ على موقع 180  الثأر لـ"السيد".. باستعادة الألق