سلامٌ يروّجونه، صراعٌ يجهلونه.. وجنوبٌ يختزلونه

في زمنٍ صار فيه الوطن مسرحًا للجهل السياسي وللاقتراحات المستوردة على شكل "رؤى" و"مبادرات"، يخرج علينا البعض ليُخبرنا أنّ الحل بسيط: سلّموا سلاح المقاومة وانتهى الأمر. وكأنّ لبنان دولة بقدرات سويسرا، وحدوده خطوط طباشير، وخصمه كيان مسالم لا ينام إلا على وسادة القانون الدولي. يتعاملون مع الملفّ وكأنّه "طلبية" تُرسل إلى عنوان واضح، أو فاتورة تُسدّد دفعة واحدة. الحقيقة أبعد بكثير، وأكثر تعقيدًا من هذه السذاجة التي تُباع على الشاشات ومواقع التواصل.

هل المقصود هو سلاح حزب الله فقط؟ أم كل من يحمل فكرة المقاومة؟

حين يُقال إنّ على لبنان “تسليم سلاح المقاومة”، تُطرح الجملة وكأنّ المقاومة تختصر بحزب الله وحده. لكن الواقع أنّ المشهد المقاوم تاريخيًا وعمليًا لا يقتصر على حزب واحد، بل هناك: حركة أمل، الحزب السوري القومي الإجتماعي، الحزب الشيوعي اللبناني، الجماعة الإسلامية (قوات الفجر) وفصائل وقوى محلية أخرى انخرطت في خط المقاومة منذ الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 إلى اليوم.

إذًا، السؤال البديهي الذي يتجاهله أصحاب الشعار الجاهز:

عندما تطالبون الدولة بتسليم “سلاح المقاومة”، عن أي مقاومة تتحدثون تحديدًا؟ ومن سيقرر من هو مشمول ومن هو مستثنى؟

هل سيُطلب من الجميع تسليم السلاح؟ أم من طرف واحد فقط؟ وإن كان الجواب الثاني، فكيف يصبح هذا “حلاً وطنيًا” وليس استهدافًا سياسيًا بغطاء دولي؟

والأدهى من ذلك أنّ الاعتراض في لبنان لا يطال سلاح المقاومة فقط، بل يصل أحيانًا إلى حدّ الاعتراض حتى على حق الجيش اللبناني نفسه في التصدي لأي عدوان إسرائيلي. ففي اللحظة التي أعلن فيها الجيش وهو المؤسسة الدستورية الرسمية والوحيدة المخوّلة بالدفاع عن الأرض، أنه سيتصدّى لأي اعتداء، انهالت عليه المواقف الرافضة والمستغربة، وكأن بعض الأصوات اعتادت على مشهد جيشٍ منزوع الإرادة قبل أن يكون منزوع السلاح. وصل الأمر إلى حدّ إلغاء زيارة قائد الجيش إلى واشنطن تحت وطأة تلك الاعتراضات، في مشهد يكشف بوضوح أنّ المشكلة لدى البعض ليست مع “سلاح طرف معيّن”، بل مع أي قوة دفاعية، أي قدرة ردع، أي مؤسسة قد تُعيد للبنان حدًّا أدنى من توازن القوى.

هل لدى إسرائيل أو “الميكانيزم” أو الجيش اللبناني جردة سلاح؟

هنا ندخل في قلب المعضلة.

لا إسرائيل، ولا اللجنة المنبثقة عن القرار 1701، ولا حتى الجيش اللبناني، يمتلكون أي جردة رسمية أو دقيقة أو قريبة من الدقة عن حجم السلاح الذي يجب أن يُسلّم، ذلك أن عمل المقاومة هو بطبيعته عمل سرّي.

وإذا لم يكن في يد أية جهة تعدادٌ بالسلاح المطلوب “نزعه”، فكيف سيُحكم بأن الحزب سلّم سلاحه؟

وبأي معيار ستُعلن “النهاية”؟

ثم، لنسأل السؤال الأخطر:

إذا كان من المستحيل التأكد من تسليم السلاح كاملاً، فمن سيمنع إسرائيل من إبقاء هذه الذريعة مفتوحة؟

بمعنى آخر:

حتى لو سلّم الحزب نصف السلاح، ثلاثة أرباعه، أو 99% منه…

سيبقى الـ 1% “الغامض” شماعة جاهزة للاغتيال، للغارة، للعدوان، وللتجسس… بحجة أنّ “الحزب لا يزال مسلحًا”.

وهنا يصبح المطلوب ليس نزع السلاح… بل نزع القدرة على المقاومة بالكامل.

المفاوضات وهواجس التطبيع

تعيين المفاوض اللبناني سيمون كرم ضمن لجنة “الميكانيزم” أثار مخاوف من ذهاب لبنان إلى تطبيع أو اتفاق سلام مقنّع.

لكن لنفترض، جدلًا، أنّ اتفاقًا ما سيُترجم على الأرض، أين سيتم تطبيقه؟ الجواب طبعًا في الجنوب.

وهنا نصل إلى السؤال الذي لا يجرؤ أحد من أصحاب “السلام السهل” على طرحه:

كيف ستُقنع أهل الجنوب، حيث لا توجد عائلة إلا ولديها شهيد واحد على الأقل، بأن يطبّقوا سلامًا وتطبيعًا مع من قتل أبناءهم واغتال آباءهم ودكّ بيوتهم؟

من سيشرح لأمٍّ فقدت ثلاثة أولاد أنّ “المرحلة تتطلب واقعية سياسية”؟

ومن سيُقنع شابًا عاش طفولته في الملاجئ بأن الجندي الذي قتل جاره سيصبح “شريكًا في سلام الحدود”؟

وحتى لو مرّ الاتفاق على الورق، فهل يمرّ في القلوب؟

وهل يمكن لاتفاق أن يُفرض بالقوة على مجتمع دفع ثمن الاحتلال دمًا وتهجيرًا؟

الشعارات أكبر من العقول

في النهاية، لا كل ما يُكتب يمكن تطبيقه، ولا كل ما يُقال على الشاشات يقترب حتى من منطق الواقع، ولا كل ما تمتلئ به مواقع التواصل هو خطة قابلة للحياة.

هناك من يظن أن السياسة تُدار كما تُدار صفحات السوشال ميديا: تغريدة… منشور… مطالبة… والسلام.

لكن الأرض غير الورق، والجنوب غير الاستديو، والدم غير الحبر.

وإسرائيل؟

ستظل تجد “ذريعة” حتى لو سلّم لبنان الهواء نفسه.

والأخطر أنّ بعض “محلّلي الصالونات” يصرّون على تقديم أنفسهم كأنهم مكتشفو الحلول الفورية، متجاهلين تاريخ بلد كامل، ودماء أجيال، وموازين قوى لا يفهمون منها إلا ما يصلهم عبر نشرات الأخبار.

يكتبون وكأن الشعب لعبة، والحدود توصية، والمقاومة قرار يُوقَّع في آخر النهار.

يختزلون الجنوب بخطٍ أزرق على الورق، لا كأرضٍ حملت في كل شبرٍ منها حكايةً من نار وتراتيل وداع.

يريدون فرض الواقع على الناس… لأنهم لم يعيشوا الواقع أصلًا.

والحقيقة؟

في لبنان، هنالك دائمًا من يظنّ نفسه قادرًا على إعادة تشكيل البلاد بعمود رأي… بينما هو لا يستطيع أصلًا إعادة تشكيل جملة مفيدة.

إقرأ على موقع 180  "من شارع الهرم إلى.." تبرئة الخليج العربي!

وهكذا ببساطة:

هناك فارق شاسع بين ما يُكتب… وما يُعاش، وبين من يفهم الواقع… ومن يعيش وهمًا أكبر منه.

Print Friendly, PDF & Email
جوسلين معلوف

مستشارة قانونية حائزة على إجازة في الحقوق، إلى جانب دبلوم دراسات عليا في القانون العام، وماجستير في الدبلوماسية والمفاوضات الاستراتيجية؛ لبنان.

Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  تعقيدات أزمة المدرس الفرنسي