حين تُصبح الجغرافيا عاصمة للقرار.. تُكتب السياسة باقتدار

لم يكن البحر ساكنًا في منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي، لا لأنه هائج، بل لأن شيئًا في الجوّ كان يتحرّك سياسيًا بقوة التريليونات وطاقات دول ذات ثقل عالمي.

استقبلت منطقة الشرق الأوسط الرئيس الأميركي دونالد ترامب في جولة خارجية أولى في بداية ولايته الثانية، وصفها البعض بالتاريخية، وآخرون بالصفقة الكبرى، والبعض القليل اعتبرها إعلانًا غير رسمي عن ميلاد توازن إقليمي جديد، لتطوف الإدارة الترامبية بعواصم الخليج الكبرى: (الرياض، أبوظبي، والدوحة)، حاملاً حقائب فارغة يأمل أن يعود بها ملأى، وكأنها أجندة تضاهي وزارات لا حقيبة دبلوماسية. برنامج نووي، صفقة دفاعية، استثمارات بمئات المليارات، مفاوضات مع إيران، وخطوط جديدة لمسار القضية الفلسطينية.

لكن الأهم أنه لم يكن وحده.. إذ تحضر معه كتيبة من رؤساء كبرى شركات التكنولوجيا والدفاع الأميركية. إيلون ماسك (المستقيل بعد عودته إلى بلاده من فريق ترامب) ظهر كأيقونة الجولة، ليس فقط بصفته رئيس “تسلا” و”سبيس إكس”، بل كصوت يمثل الذكاء الاصطناعي المستقبلي الذي تسعى دول الخليج لاحتضانه. إلى جانبه، رؤساء “ميتا”، “أوبن إيه آي”، “ألفابت”، “بوينغ”، و”سيتي غروب”؛ لوحة مكتملة لشكل القوة الناعمة الأميركية الجديدة: الاقتصاد المعرفي والهيمنة الرقمية.

تتجاوز جولة ترامب الطابع البروتوكولي بحجم القضايا المطروحة، وفي مقدمتها المشروع النووي السلمي السعودي فحين يُصاغ النووي بلغة الرمال، نلاحظ تردد واشنطن لعقود في فتح باب التفاوض حول هذا الملف، لكن مع اكتشاف المملكة احتياطات من اليورانيوم في صحاريها، أصبح المشروع أكثر واقعية، وأقرب إلى التنفيذ، بجانب عرض خيالي قدّمته المملكة ويصعب تجاهله في علاقة تجارية واستثمارية بقيمة 600 مليون دولار يأمل ترامب أن تصل إلى تريليون دولار على مدى عشر سنوات، تُستثمر في قطاعات الطاقة، التكنولوجيا، والبنية التحتية، وهي أرقام ليست إلا لخدمة جزء من مشروع رؤية 2030 التي تحوّل المملكة إلى قوة اقتصادية بين أكبر 20 اقتصادًا عالميًا.

العالم يتغير، والخرائط تعيد تشكيل نفسها. الخليج لم يعد مستهلكًا للأمن الأميركي فقط، بل بات صانعًا للقرار، شريكًا في التقنية، وممولًا في الاقتصاد، ووسيطًا في السياسة.. فالترامبيون زاروا المنطقة وهُم يحملون دفاتر الصفقات، لكنهم غادروها وكُلّهم يقين أن الشرق الأوسط ليس حقل ألغام كما يُروى، بل حقل فُرص من ذهب

بالطبع يدرك السعوديون أن “اتفاق كوينسي”، الذي وُقّع مع روزفلت قبل نحو 80 عامًا، قد انتهى. الآن، تسعى واشنطن إلى كتابة اتفاقية استراتيجية جديدة مع الرياض القوية، تُراعي التحولات الجيوسياسية، فأميركا لم تعد بحاجة لنفط الخليج كما في السابق، والصين والهند أصبحا سوقين ضخمين للرياض، وبالتالي ترغب المملكة في علاقة قائمة على المصالح المتبادلة، لا الحماية الأبوية.

أما أبوظبي، فلا تَطرح ملفات الدفاع أولًا، بل الذكاء الاصطناعي لأنها تعي أن التحولات الكبرى القادمة لن تكتبها الدبابات، بل الأكواد والبيانات. لذلك أعلنت في آذار/مارس عن خطة استثمارية ضخمة بقيمة 1.4 تريليون دولار خلال 10 سنوات في الولايات المتحدة، تتركز على قطاعات الذكاء الاصطناعي، أشباه الموصلات والتقنيات المتقدمة. تضاف هذه الاستثمارات إلى تريليون دولار أميركي قائمة أصلًا، غير أن (الرياح تجري بما لا تشتهيه السُفن)، فقد تعثر الطموح الإماراتي مؤخرًا أمام جدار واشنطن البيروقراطي، بعد أن فرضت إدارة جو بايدن السابقة، قيودًا على تصدير الرقائق والتقنيات الحسّاسة إلى دول منها الإمارات. أملة أن يُعيد ترامب فتح هذا الباب، مقابل تدفقات استثمارية لا يمكن الاستغناء عنها.. أما دولة قطر، فهي بالفعل شريك بلا أرقام ولكن قد يكون ثقل المفاوضات، فهي تملك ما هو أثقل في ميزان واشنطن ألا وهي قاعدة العديد الجوية، عنوان أكبر وجود عسكري أميركي في المنطقة، فضلاً عن دور قطر الحيوي في وساطات الشرق الأوسط، من أفغانستان إلى غزة، ومن سوريا إلى التفاهمات الأمنية المعقدة في المنطقة، بخلاف دورها الدبلوماسي غير المباشر في ملف الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وثمة تسريبات من دوائر مقربة من الإدارة الأميركية كشفت أن ترامب يدرس الإعلان عن هذا الاعتراف، استنادًا إلى مبادرة السلام العربية التي طُرحت أول مرة في فاس عام 1982، وأُعيد إطلاقها في بيروت عام 2002. إذا تم ذلك، فستكون الخطوة الأهم في السياسة الأميركية تجاه فلسطين منذ عقود، وربما التراجع الأول لليمين الإسرائيلي منذ اغتيال اسحاق رابين في العام 1995.

إنها الخليج العربي يا سادة، ذلك الاسم الذي عاد إلى الخارطة، فلم تتوقف عند السياسات أو الصفقات، بل وصلت إلى الجغرافيا. حيثُ غيّر تطبيق “غوغل” تسمية “الخليج الفارسي” إلى “الخليج العربي” قبيل الزيارة، في خطوة أعادت الجدل حول التسمية القديمة الجديدة، وفتحت الباب أمام حديث عن توجه أميركي لاعتماد “الخليج العربي” رسميًا في مؤسسات الدولة.. وبرغم ما في الأمر من رمزية، فإن دلالته السياسية لا تخطئ. فهو يعكس تموضعًا أميركيًا جديدًا في مواجهة الخطاب القومي الإيراني، واصطفافًا أوضح مع الموقف الخليجي. لتظهر اللغة بأنها ليست محايدة، والجغرافيا لم تكن يومًا بريئة.

إقرأ على موقع 180  مستقبل تركيا غامض.. حتى لو فاز اردوغان!

إن العالم يتغير، والخرائط تعيد تشكيل نفسها. الخليج لم يعد مستهلكًا للأمن الأميركي فقط، بل بات صانعًا للقرار، شريكًا في التقنية، وممولًا في الاقتصاد، ووسيطًا في السياسة.. فالترامبيون زاروا المنطقة وهُم يحملون دفاتر الصفقات، لكنهم غادروها وكُلّهم يقين أن الشرق الأوسط ليس حقل ألغام كما يُروى، بل حقل فُرص من ذهب بشرط أن تُحسن الإدارة الأميركية اللعب مع العواصم التي تكتب اليوم مُستقبل اللعبة بأوراقها القوية.. ولا سيما مصر.

(@drIbrahimgalal)

Print Friendly, PDF & Email
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  ضابط إسرائيلي: لسنا مستعدين لحرب غزة البرية ولا للحرب الإقليمية!