أشياء عاشت معنا ثم غابت.. وأشياء تستعد لتغيب

كان في مطبخ بيتنا الكائن بشارع سامي القريب من نواصي التقاء شارعي نوبار وخيرت دولاب سحري سمعتهم يطلقون عليه اسم «النملية». كنت طفلًا يبدأ فضوله بأسئلة مستحيلة فتأتيه إجابات مدهشة. أذكر صباح يوم خصصوه لتنظيف المطبخ، رأيته على اتساعه مزدحمًا بلفائف وصحون مكشوفة وأخرى مغطاة، ومعلبات كرتونية وزجاجية ونحاسية من كل حجم ونوع. أشياء عديدة وكأن أهل البيت اشتروا لتوهم محتويات محل جزارة ومحل بقالة ومحل حلوى ومحل عطارة وبهارات في آنٍ واحد. سألت السؤال المستحيل فكانت الإجابة بنعم.. كلامك صحيح، ونستعد الآن لحشرها جميعها في النملية.

سمعت في النملية شعرًا. قيل في الانبهار بها إنها إحدى عجائب فنون النجارة المصرية. شبابيكها الصغيرة تسمح بمرور الهواء اللازم لتهوية المأكولات، وتمنع دخول الحشرات إلا أصغرها حجمًا وأقلها ضررًا، وهو النمل، حتى إنها سميت باسمه. يقال إن لوجود النملية قطعة أساسية تأجل طويلًا تجهيز العرائس بثلاجات كهربية. جدير بالذكر أنني كنت أنا نفسي شاهدًا على اكتشاف لوح الثلج أو نصفه أو ربعه ينقله شاب في مثل عمري من عربة يقودها حمار، ويصعد به، أقصد بالثلج، إلى حيث كانت شقتنا في أعلى طابق.

***

كثيرًا ما فتحت الباب لمن راح يدق بإلحاح مؤدب لأجد أمامي السبّاك يطلب مني إبلاغ «الست هانم» أن السبّاك موجود بالعمارة اليوم لمن يحتاجه من السكان، وعادة ما كان يجد فعلًا من احتاجه. ففي كل بيت أكثر من وابور بريموس مواسيره محتاجة لنفخ، وأكثر من حنفية بلت جلدتها، التي هي سبب وجودها، فبدونها، صحيحة وثابتة في مكانها، لا تعمل الحنفية.

إن نسيت فلن أنسى رغبتي المتجددة دائمًا أن تطول إقامتي بالحمام ومعي الصوت الهادر الصادر عن البريموس. مرت سنوات قبل أن تصارحني أمي بأنها كانت ترسل من يدق على باب الحمام ولا يتوقف عن الدق حتى يسمع صوتي. كانت تعرف أن البريموس يصدر غازًا مخدرًا يرتاح إليه مستخدم الوابور ويستحسنه. لم تكن تتركني أرتاح مع هذا الغاز. تظل قريبة من الحمام تريد هي أو من تكلفه التأكد من سلامة أنفاسي وحواسي.

***

البريموس والكولينوس والتروماي والثورنيكروفت والكرافاتة والروبابيكيا، كلها ومئات من نوعها كانت كلمات نستخدمها في خطابنا اليومي العادي. تركت كل هذا ورائي في أول رحلة عمل لي بالخارج. كانت نيودلهي المحطة الأولى في هذه الرحلة. انتظرتني في الشقة المفروشة مفاجآت. وجدت مع المفروشات البسيطة ثلاثة رجال مكلفين بالخدمة، أحدهم يكنس ويمسح، ولا يفعل شيئًا آخر. الثاني يغسل ويكوي ويرتب الفراش ولا يفعل شيئًا آخر. الثالث يعد الخضراوات للطبخ ويطبخ ولا يفعل شيئًا آخر.

كان يومًا مثيرًا، التقيت مقشة الأرز، وهي التي لا يكنس بغيرها «السويبر»، أقصد الكنّاس. والتقيت الهون وإيده، وكلاهما من الوزن الثقيل. التقيت أيضًا الفرن، لكنه ليس كفرن أمي الذي كان يستضيف بداخله اثنين من البريموس، بل كفرن خالتي الواقع في حوش بيتها الواسع، وكان يعمل بالخشب ومنتجات إيفورية أخرى.

خرجت واخترت وسط المدينة ساحة تعارف. هناك شاهدت كل أنواع البشر. رجل يحملق في الشمس، سألت وجاءت الإجابة باردة وبالهدوء الممكن، نعم، يحملق في الشمس من الشروق وحتى الغروب. قابلت آخر من نفس ملته يمارس الصلاة نفسها على الرصيف الموصل إلى بيتي في الحي الذي أقيم فيه. قابلت رجالًا حالقي الشعر، كل الشعر، يرتدون أردية صفراء ويحملون أوعية فخارية يشحذون بها عملة معدنية أو لقمة عيش. التقيت وجهًا لوجه بمجموعة خارجة لتوها من قاعات العمل، سمعت شذرات من حديث دائر بين عدد منهم. توقفت أمامهم لأستمع إلى أحلى إلقاء بلغة إنجليزية رائعة، لم يخلِ طبعًا من لكنة هندية لا يلمحها إلا الباحث المدقق.

كان واجبًا أن أنضم مع زملاء إلى حفل استقبال كبير يقيمه في الهواء الطلق رجل أعمال معروف. شجعني الزملاء فذهبت. هناك، واليوم من أيام أواخر الصيف الهندي الشهير، رحت أشكو في الحفل الحر والعرق، سحبني زميل من يدي ومشينا معًا في اتجاه مروحة كهربية لم أقابل في حجمها مروحة أخرى في حياتي، تدور مصدرة صوتًا أشبه بصوت محركات الطائرات العملاقة، وأمامها على مائدة مرتفعة استلقى لوحان من الثلج، ومن حولهما اجتمع الضيوف في مجموعات صغيرة مستمتعين بذرات الثلج الخفيفة.

***

عدت إلى الهند بعد عشرين سنة عضوًا في مجموعة صحفية من “الأهرام” تمثل مركز الدراسات، ويقودنا محمد حسنين هيكل بصفته رئيسًا أعلى للمركز. دعتنا السيدة إنديرا غاندي للالتقاء بها على هامش مؤتمر شعبي تتحدث فيه إلى حوالي مليون مواطن. جلسنا مثلها وإلى جانبها على الأرض نستمع إلى خطاب انتخابي بلغة هجينة، أقصد الهندية مختلطة بالإنجليزية.

تسنى لي أن أسأل المرافق الهندي، وكان من أشهر الدبلوماسيين الهنود، عن التقدم الذي أحرزته حكومات “حزب المؤتمر” على صعيد وقف ممارسات التمييز الشرير بين الهنود على أساس الدور المقرر للمواطن في المجتمع قبل أن يولد. أجاب بأنهم يحاولون إجبار الوزير المنتمي بالمولد لطبقة «السويبيز»، أقصد “الكنّاسين”، على الجلوس مع بقية الوزراء، وبعضهم من طبقة «البراهمة»، وأكثر هؤلاء، بالمناسبة، هم من عائلات تمارس الطبخ كمهنة لا يمارسها إلا «المقدسون».

(*) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  التعليم عن بعد في جامعات لبنان.. فرصة لتمكين النساء
جميل مطر

دبلوماسي مصري سابق، كاتب متخصص في القضايا الدولية

Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  أيامي.. التونسية