خمسون عامًا على اغتيال المناضل المغربي بن جلّون.. عُمر الذي لا يغيب

"يستطيع ابن جلّون أن يتهجّى الزمان الجديد/ وأن يتجلّى لنا في الزمان الآخر/ يتذكّر عمر خارطةً للوطن العربي/ مرصّعةً باللؤلؤ والياقوت/ مزيّنةً بالأعلام العشرين/ مطعّمةً بالفضة والذهب/ تتفجّر فيها واحات خضر/ يتهادى فيها الطاووس/ ويرعى فيها البقر الوحشي عناقيد العنب/ وأرى عمر الآن يمزّق تلك الخارطة الوهم/ ويبكي من غضب/ أعلامٌ هي أم خِرَقٌ من عار/ خنتم كلمات المهدي/ ودنّستم نسبي" (من مرثية الشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي للشهيد المغربي عمر بن جلّون)

في ديسمبر تخبو الشوارعُ.
تضيء مُدْيةُ القاتل في الهواء الرطب.
في ديسمبر، تخلو الدروب. تنزوي الحركة في صقيع الوجع، وحدها خطوة القاتل تُشِعّ بالغدر. تلمع في الممشى المختنق بخنجر حقدٍ «متأسلم».
ظنّوا أنهم يطفئون الشمس، وما علموا أنهم يفتحون باب الخلود.
ومن ثقب جراح الروح.. يبدأ الزمن سيلانه. تتمدّد شعلة النزيف لتضيء عتمة العقود.. فالجرح الذي خلّفه غياب عمر بن جلّون لم يكن يومًا علامة انكسار، بل كان شعلةً تتوارثها الأرواح، ونارًا لا تعرف الخمود.

***

«عِمْ مساءً.. عُمر»؛
يا رفيق المهدي بن بركة، ويا توأمه في النضال وفي المسار، وشبيهه في النهاية التي اختارت للأحرار موتًا بطعم الخلود.
يا صاحب النظرات الحادة الشديدة السواد، تلك التي كانت تُسكن الرعب في قلوبهم الواجفة، وتفضح ببريقها زيفهم.. وكلما أرادوا مواراتها، أطلت عليهم من عيون الفقراء الذين انحزتَ إليهم دائمًا.
خمسون عامًا مضت على تغييب الجسد.. لكن الأعمار بلا صوتك الرافض لا تستحق مسمّى «العمر».
فأنت اليوم نبضٌ في عقل كل حر، وثورةٌ متّقدة لا يطالها النسيان، بينما هم.. غبارٌ تذروه رياح الحقيقة، وأنت «عُمرُنا» الباقي.

***

يحدث أن يخفق القلب خارج نبضه، ويستكمل دقّاته داخل النزيف.. وكأن الوجع هو الإيقاع الوحيد الذي تضبط الروح عليه ساعتها المتوقفة.
هناك، حيث تتقاطع الدروب بين الذاكرة والنسيان، يغدو الألم لغةً بديلة، وتتحوّل الندوب إلى خرائط تدلّنا على وطنٍ ضاع منا في زحام الطرقات.
خمسون عامًا أُغلقت قوسها ونحن نبكي الشهيد.. ونتلعثم في لازمة النشيد.
خمسون عامًا ولا نعرف أين تسربت خطى نزيف دمه الذي سال فوق إسفلت الدار البيضاء، ليرسم خارطة وجعٍ لا تُمحى.
لقد جفّ الدم على الطريق، لكنه لم يجفّ في القلوب.. فكلّ رصيفٍ صار شاهدًا، وكلّ حجرٍ صار حكاية.

***

خمسون عامًا والموكب تفرّق وتاه، والقوس الذي أُغلق لم يحصر خلفه إلا الأسئلة المعلّقة.
في هذا التيه.. باحت الدار البيضاء لفقرائها بسرّ الدم الذي سال ودلّهم على مجرى النهر.
هناك، حيث تلتقي الأجساد المنهكة بملوحة الأرض، كفّت مدن البلاد عن الصمت.. فصار السعال الحاد في المناجم والمصانع هو النشيد البديل.. وصار عرق الوجوه الشاحبة فوق أرصفة الموانئ هو الحبر الذي يكتب التاريخ الحقيقي.
أدرك الفقراء أن الدم الذي سُفك لم يذهب سدى، بل تسلّل تحت الأرصفة ليتحوّل إلى تيار وعي يسري في عروق المظلومين، ويصبّ في بحر الكرامة..
والمدن نزعت قناعها وانحازت لبؤس عمّالها.. وبقدر ما تاه الموكب الرسمي في متاهات المصالح، كان الموكب الشعبي يجد طريقه عبر رائحة الدم القديم.

***

نصف قرنٍ ومعدن عمر بن جلّون يأبى الصدأ، وناره تأبى الانطفاء.. فالمديّة التي طالت جسده ارتدّت خائبةً أمام صلابة الفكرة التي لا تُذبح.
قايض عمر غيابه العابر بخلودٍ أبدي حين جعل من صدره درعًا للفقراء.. فغاب الجسد ليبقى الموقف شظيةً من نور لا تكفّ عن الاشتعال.
هذا النزيف المستمر عبر العقود ليس علامة جرح، بل هو دليل حياتنا، والبرهان الساطع على أن تحت رماد الخيبات روحًا لا تقبل الترويض.. تعاند العتمة وتخطّ بدمائها ملاحم الرجاء المستحيل.. كأنها البرق الذي يشقّ صمت الليل الطويل.
لم يرحل عمر، بل أعاد صياغة وجوده، فأصبح هو المجرى الذي يسلكه النهر، والصوت الذي يملأ الطريق، والروح التي تتنفس من خلالها البلاد.

***

“عِمْ مساءً.. عمر”؛

يا رفيق المهدي بن بركة وتوأمه في النضال وفي المسار، وشبيهه في النهاية.
أنت الذي تتهجّى الآن «الزمان الجديد» وتتجلّى لنا في «الزمان الآخر».. لتمزّق بيدك خارطة الوهم المرصّعة بالأكاذيب.
ونراك تبكي من غضب وأنت ترى الأعلام التي تحوّلت إلى خِرَقٍ من عار.. بعدما خانوا كلمات المهدي ودنّسوا ذاك النسب النبيل.

***

نصف قرنٍ ومعدن عمر بن جلّون يأبى الصدأ.
غاب الجسد ليبقى الموقف شظيةً من نور، والبرهان الساطع على أن تحت رماد الخيبات روحًا ترفض الاستسلام، وتصرّ على كتابة آخر سطر بمدادٍ من أمل شاحب، يلمع كبرق بعيد في ليل طويل لا ينتهي.
فالشهيد لم يمت، بل صار هو النهر. هو الطريق.. وهو المدينة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

                                                           عمر بن جلّون (1936 – 1975):
-مهندس ومحامٍ وصحفي، أحد أبرز قادة الحركة الاتحادية الأصيلة واليسار المغربي.
-«عقل» الاتحاد الاشتراكي ومنظّره، كرّس حياته للدفاع عن الطبقة العاملة، وبرز كصوت رافض وشرس ضد الاستبداد والفساد.
-اغتيل غدرًا في 18 كانون الأول/ديسمبر 1975، ليظل رمزًا للمثقف العضوي المنحاز لآلام الشعب المغربي.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  الفدرالية "الجيو ـ ثقافية".. صوناً لوحدة لبنان
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  عندما يدفع إقتصاد لبنان ثمن خيارات عون السياسية