نظريًا، تشير الأدبيات السياسية إلى أن غياب القيادة المركزية في مجتمع ما، لا يُنتج فراغًا محايدًا، بل يفتح المجال أمام فاعلين غير منظمين أو غير شرعيين لملء هذا الفراغ مؤقتًا، مستفيدين من ضعف المعايير وتراجع دور المؤسسات. هذا ما يتقاطع مع تحليل عالم الاجتماع السياسي (Max Weber) لمفهوم الشرعية السياسية، حيث يُميّز بين الشرعية القانونية–العقلانية، والشرعية التقليدية، والشرعية الكاريزمية. وفي حالات الانهيار المؤسسي، غالبًا ما تُستبدل الشرعية القانونية بأشكال كاريزمية هشة أو ادعائية (وهمية فعليًا)، لا تستند إلى مؤسسات أو قواعد مساءلة أو محاسبة.
بحسب (Antonio Gramsci) فإنه في ظل الفراغ “تظهر الوحوش”.. وفي حالتنا اللبنانية “تظهر اللصوص”، وبالتالي ليس مفاجئًا أن نكتشف فجأة ظاهرة “أبو عمر” التي عمرها سنوات، ولن يكون غريبًا أن تولد ظاهرة جديدة، سواء في البيئة السنية نفسها أو في أي بيئة لبنانية تواجه فراغًا على مستوى قيادتها
تاريخيًا، شكّل وجود قيادة مركزية ممثلة بالرئيس الشهيد رفيق الحريري، ومن بعده الرئيس سعد الحريري، عنصرًا حاسمًا في إنتاج نوع من الشرعية السياسية داخل الساحة السنية، سواء عبر التمثيل الشعبي (بلديات ومخاتير) أو الرسمي (حكومةً ومجلسًا نيابيًا) كما عبر شبكة العلاقات الإقليمية والدولية. هذا الإطار لم يكن فقط سياسيًا، بل تنظيميًا أيضًا، حيث ساهم في ضبط سلوك النخب السياسية ومنع الانفلات في ادعاءات النفوذ أو التمثيل. وإلى جانب ذلك، أدّت هذه القيادة دورًا أساسيًا في تثبيت الحضور السني ضمن معادلة التوازن الوطني اللبناني، إذ إن انتظام التمثيل داخل أي مكوّن رئيسي لا ينعكس على ساحته الداخلية فحسب، بل يسهم في الحفاظ على توازن سياسي دقيق يقوم عليه النظام اللبناني برمّته، بوصفه نظامًا ديموقراطيًا وطائفيًا وتوافقيًا وتعدديًا.
عمليًا؛ أدى اعتكاف الرئيس سعد الحريري عن العمل السياسي إلى إحداث ما يُمكن توصيفه نظريًا بـالفراغ القيادي البنيوي، وهو فراغ لا يُملأ تلقائيًا ببدائل متكافئة. ففي بلد يقوم نظامه السياسي على توازنات طائفية وسياسية شديدة الحساسية، لا يُعتبر غياب أو انكفاء القيادة مسألة داخلية تخص مكوّنًا بعينه، بل يتحول إلى عامل خلل في المعادلة الوطنية الأوسع. فغياب القيادة الشرعية داخل الساحة السنية أضعف القدرة على إنتاج موقف موحّد، وأفسح المجال أمام تشتت التمثيل، بما انعكس ارتباكًا في الحضور السياسي وأثّر سلبًا على التوازن العام بين المكونات اللبنانية.
ووفقًا لنظريات النخب السياسية، كما طوّرها كل من (Vilfredo Pareto) و(Gaetano Mosca)، فإن النخب تحافظ على تماسك النظام السياسي طالما أنها منظمة، متماسكة، وقادرة على فرض معاييرها الداخلية. وعندما تتفكك النخبة أو تفقد مركز ثقلها، تظهر نخب هامشية أو ظرفية، غالبًا من دون كفاءة أو شرعية حقيقية. في هذا السياق، يمكن فهم بروز شخصيات أو حالات تضليل سياسي بوصفها نتيجة طبيعية لاختلال توازن النخب، لا مجرد أخطاء فردية.
ويُعزّز هذا التحليل ما أشار إليه (Robert Michels) في “القانون الحديدي للأوليغارشية”، بقوله إن التنظيم السياسي، عند ضعفه، يصبح عرضة للانحراف وفقدان السيطرة الداخلية، ما يسمح بتمدد فاعلين خارج الأطر المنضبطة.
كما تطرح هذه الحالة تساؤلات حول دور النواب السنّة في المرحلة الراهنة، من زاوية الأداء الجماعي لا المسؤولية الفردية. فغياب القيادة الجامعة جعل التمثيل النيابي أقرب إلى وحدات سياسية منفصلة، تفتقر إلى رؤية موحدة أو خطاب جامع، وهو ما يحدّ من قدرتها على إنتاج شرعية سياسية متماسكة أو ممارسة دور رقابي وتنظيمي فعّال، ويضعف في الوقت نفسه مساهمتها في حفظ التوازن الوطني الدقيق.
ومن منظور أوسع، يُمكن قراءة هذه الظاهرة في ضوء مفهوم الهيمنة السياسية كما طوّره (Antonio Gramsci)، حيث لا تقتصر الهيمنة على السيطرة المباشرة، بل تقوم على إنتاج المعنى والمعايير والقبول العام. ومع انهيار هذه الهيمنة داخل الساحة السنية، غابت القدرة على ضبط الخطاب السياسي، وبرزت أشكال من “النفوذ الرمزي الزائف” غير المرتكز إلى قاعدة اجتماعية أو مؤسساتية.
في المحصلة، كلُّ فراغ لا يمكن أن يستمر ولا بد أن يملأه أحدٌ ما وكل مجتمع يقوم على المؤسسات لا على الأشخاص يستطيع أن يملأ الفراغ.
في حالتنا اللبنانية، لم نبلغ سن الرشد المؤسساتي، وما زال تأثير الفرد، أكان زعيمًا حقيقيًا أو مُفبركًا من جهات خارجية هو الأساس.. من هذه الزاوية، وبحسب (Antonio Gramsci) فإنه في ظل الفراغ “تظهر الوحوش”.. وفي حالتنا اللبنانية “تظهر اللصوص”، وبالتالي ليس مفاجئًا أن نكتشف فجأة ظاهرة “أبو عمر” التي عمرها سنوات، ولن يكون غريبًا أن تولد ظاهرة جديدة، سواء في البيئة السنية نفسها أو في أي بيئة لبنانية تواجه فراغًا على مستوى قيادتها.
