قوّة لبنان في وحدته.. وليس في ضعفه!

بعد ساعات قليلة يُغلق العالم ولبنان صفحة العام 2025؛ عامٌ استحال فيه «وطن النجوم» حقلَ صيدٍ مستباحًا لآلة القتل الإسرائيلية، وكرمًا على درب المشاريع المتعددة التي مزّقت الوطن الصغير، ولم يعد يكترث «لِمَن أنا، ومَنْ أنا»، والجميع بين حيرة ودهشة، ينتظر ساعة موته المؤجَّل؛ فمن لم يمت برصاصة، سيقتله عجز أولي الأمر وأصحاب الكلمة والأوصاف الرنّانة. لم يعد في لبنان متّسع لوطن، وعدنا إلى منطق القبيلة ـ الدولة. هكذا يصبح الحال عندما تفقد الأوطان قدرتها على الردع؛ تُصبح عُرضة للاستباحة، ويجد أهلها أنفسهم وحدهم في وجه العواصف، ويصبح «ملوك الطوائف» أسياد النزال والتنازل.

لم تكن كارثة أيلول/سبتمبر العدوانية عام 2024 ـ التي حصدت آلاف الأرواح وأجبرت مئات الآلاف على النزوح ـ إلا نتيجة مباشرة لغياب الدولة عن منطقها، وغيابها لعقود عن التفكير الدفاعي الاستراتيجي، في بلد راهن على الحياد والوعود الدولية بدل أن يبني لنفسه قدرة وطنية تردع وتُحصّن الأرض والناس. رُبَّ قائل يسأل: كيف لدولة ذات سيادة أن تقبل بوجود جيشين وسلاحين فيها؟ إنّ ذلك ينافي السيادة. ورُبَّ آخر يجيب: صحيح، لا توجد دولة تقبل بوجود جيشين وسلاحين على أرضها، ولكن أين هي الدولة؟ أين هي السيادة والحماية والرعاية؟

اختار لبنان الرسمي الحياد قاعدةً لعلاقاته الإقليمية والدولية، ووضع نفسه خارج الصراع مع إسرائيل منذ هدنة 1949، فامتنع عن المشاركة في الحروب العربية اللاحقة. عزّز ذلك تموضعه ضمن الحلف الغربي ـ العربي، متّكئًا على شبكة علاقات اعتقد أنّها ستوفّر له الحماية. وقد لخّص بيار الجميّل هذا النهج بعبارة «قوّة لبنان في ضعفه»، التي باتت تعبيرًا عن استراتيجية مضادّة للفعل، قوامها تفادي الاستفزاز والاكتفاء بالدبلوماسية، بدلًا من امتلاك أدوات الردع الفعّال.

لبنان الهش أمام كل تحول إقليمي

لكن الواقع التاريخي أكّد أنّ إسرائيل، منذ الخمسينيات، لم تتوقّف عن خرق السيادة اللبنانية، من الإنزالات إلى الغارات، وحتى اجتياح مطار بيروت عام 1968 بتدمير طائرات شركة طيران الشرق الأوسط على أرضه. في المقابل، ظلّ ردّ الدولة شكليًا، مقتصرًا على بيانات الإدانة والمذكّرات الدولية والشكوى إلى مجلس الأمن. بقي الجنوب محرومًا من الحماية والرعاية، وسكّانه رهائن التجاذبات، بينما الدولة منشغلة بسدّ الذرائع؛ لا ببناء التحصينات أو صياغة خطط دفاعية ميدانية. وفي مقابل وضوح العقيدة القتالية الإسرائيلية، ظلّ لبنان يتأرجح بين المبادرة الفردية والتردّد الرسمي.

هذا الغياب المتراكم لمنظومة ردع متكاملة، ولعقيدة دفاعية متماسكة، جعل لبنان بلدًا هشًّا أمام كل تحوّل إقليمي. فمع كل أزمة أو صراع مجاور، كان لبنان يدفع الثمن، لأنّ الآخرين وجدوا فيه فراغًا يمكن ملؤه، أو ساحةً يمكن تصفية الحسابات فيها، من غير أن تكون له القدرة على الحسم أو الوقاية. وبدل أن يجنّبه الحياد الحروب، تحوّل ذلك الحياد إلى حالة من الضعف البنيوي والعجز المؤبّد.

هزّت هذا الحياد الهش تحوّلات كبرى؛ ثورة 1958 التي كشفت خطورة الارتهان لمحاور الخارج، حيث أدّى انحياز الرئيس شمعون إلى المحور الأميركي إلى انتفاضة داخلية عارمة تطلّبت تدخّلًا أميركيًا مباشرًا، في ظل انقسام داخلي مرير. وجاء اتفاق القاهرة 1969 ليزيد الطين بلّة، حين سُمح للمقاومة الفلسطينية بممارسة العمل العسكري انطلاقًا من الجنوب، تحت رعاية عربية وموافقة مضطربة ومتأرجحة من الدولة التي كانت تستبدل نهجًا بآخر. فبات لبنان ساحة مفتوحة لردود الفعل الإسرائيلية، وانقسم المجتمع اللبناني نفسه حول شرعية السلاح الفلسطيني، ودور لبنان في الصراع العربي ـ الإسرائيلي، والقسمة الداخلية بين الطوائف.

ثنائية الدولة والمقاومة

تُرك الجنوب مسرحًا مفتوحًا للعمليات، ولم تكن هناك خطة دفاعية أو بنية تحتية تؤمّن الحماية. انقسم اللبنانيون حول شرعية السلاح الفلسطيني، بين مؤيّدين للمقاومة من منطلق قومي، ورافضين لتحويل لبنان إلى جبهة مواجهة. وتحوّل الصراع تدريجيًا إلى مسألة طائفية وسياسية، مهّدت للحرب اللبنانية عام 1975. وبدل أن يُشكّل التهديد الخارجي حافزًا للتوحّد الداخلي، غدا الخلاف حول كيفية التعامل معه عاملًا إضافيًا للانفجار.

مع اجتياحي 1978 و1982، ازداد جرح السيادة عمقًا. دخلت إسرائيل بيروت، وخرجت منظمة التحرير الفلسطينية منها، لكنّها تركت فراغًا ملأته لاحقًا المقاومة اللبنانية المحلية. كانت مقاومة أهل الأرض، بكل ما يعنيه ذلك من شرعية وشعور وطني. مجموعات لبنانية إسلامية ويسارية بدأت عمليات مقاومة نوعية ضد الاحتلال، ففرضت وقائع جديدة على الأرض. هذه المقاومة بدت أكثر تجذّرًا من سابقتها، وأكثر حساسية للبيئة الوطنية. لكن الدولة لم تلتحق بهذا التحوّل؛ فعلى العكس، سعت إلى توقيع اتفاق 17 أيار/مايو مع إسرائيل، وهو اتفاق كان بمثابة محاولة لعزل المقاومة وشرعنة الاحتلال. لكن الاتفاق سقط تحت ضغط انتفاضة 6 شباط/فبراير 1984، وبرغم التخلّي عنه لاحقًا، فقد تعمّق الانقسام الداخلي، ومعه ترسّخت حالة الانفصال بين الدولة الرسمية وبين ما يجري على خطوط المواجهة.

برزت ثنائية الدولة والمقاومة، وتحولت إلى واقع دائم. لم تنجح الدولة في بناء قدرة دفاعية وطنية، ولم تستطع إدماج المقاومة ضمن منظومتها. فبقي الجيش ضعيف التسليح، بينما كانت المقاومة تتطوّر، لكنّها خارج مؤسسات الدولة. وعندما تحرّر الجنوب عام 2000، شكّل ذلك لحظة مفصلية: هل يتم إدماج المقاومة في استراتيجية وطنية شاملة؟ أم نعيد إنتاج الانقسام؟

للأسف، كانت الإجابة الثانية هي السائدة. غياب الرؤية الموحّدة، واغتيال الرئيس رفيق الحريري، ثم حرب تموز 2006، كلّها أضعفت إمكانيات بناء توافق دفاعي. فحتى بعد انتصار المقاومة في مواجهة العدوان، بقي الجدل: هل يُعدّ سلاحها عنصر قوّة أم عنصر فتنة؟ هل يُدمج أم يُحاصر؟ هل يمكن بناء استراتيجية دفاعية في ظل الانقسام السياسي والمذهبي المتزايد؟

إقرأ على موقع 180  وفي البدء كانت.. "جمّول"!

ارهاب واعتداءات.. وانهيار اقتصادي!

ازدادت تفريعات الانقسام اللبناني بعد اندلاع الحرب السورية عام 2011، وزاد عليها البعد المذهبي الإسلامي، ما استنزف أكثر أطر اللقاء والتقاطع بين اللبنانيين. ولم تنجح طاولة بعبدا الحوارية ولا رؤيتها حول الاستراتيجية الدفاعية في الحدّ من الخوف من الآخر واليوم التالي. وزاد ذلك بعد انخراط حزب الله في الحرب السورية عام 2012، وظهور تهديدات جديدة عند الحدود الشرقية للبنان، جرى التعامل معها بالتنسيق بين الجيش والمقاومة. وقد أظهرت معركة الجرود عام 2017 قدرة مشتركة فعّالة، لكنّها لم تؤدِّ إلى بلورة عقيدة دفاعية مشتركة، وظلّت الاستراتيجية رهينة المزايدات والانقسامات. وفي خضم هذه التباينات، انهار الاقتصاد اللبناني، واندلعت ثورة 17 تشرين/أكتوبر 2019، ثم جاءت تداعيات حرب غزة 2023 ومواجهات الجنوب، لتكشف مجدّدًا حجم التباعد في الرؤى، والانقسام بين نهجين لا يلتقيان.

وقد كشف عدوان أيلول/سبتمبر 2024 الخلل البنيوي الأكبر؛ عدوان استمرّ 66 يومًا، دمّر في الجنوب والبقاع والضاحية، وضرب في بيروت والجبل والشمال، وقتل وجرح الآلاف، وترك الدولة عاجزة. لم تكن هناك غرفة عمليات مشتركة، ولا استراتيجية متكاملة. المقاومة واجهت وحدها، والدولة رفعت الصوت بالشكوى. والمواطنون، كالعادة، كانوا في مرمى النيران، من دون ملاذ آمن أو خطة إجلاء أو حماية بنيوية. وهذا لا يعكس فقط ضعفًا في الوسائل، بل أيضًا في الرؤية والقرار.

قوة لبنان في وحدته

لقد حان وقت المراجعة الجدية. لا يمكن للبنان أن يبقى منقسمًا حول أمنه القومي. فالمطلوب هو بناء استراتيجية دفاعية وطنية، تُحصّن السيادة، وتمنع العدوان، وتحفظ التعدّد والتمايز ضمن وحدة القرار. مقاومة فاعلة بلا غطاء رسمي تفقد مشروعيتها، ودولة دون قدرة على الردع تفقد شرعيتها. فالتاريخ لم يرحم الدول التي أخفقت في بناء أمنها الذاتي.

ما نحتاجه اليوم هو تجاوز شعار «قوّة لبنان في ضعفه» نحو معادلة «قوّة لبنان في وحدته»: وحدة القوى المسلحة، ووحدة الرؤية، ووحدة القرار السياسي في السلم والحرب. لا يمكن أن تظل الدولة تتفرّج، والمقاومة تعمل وحدها، بينما الناس يدفعون الأثمان. إنّ إعادة الاعتبار لمفهوم الدولة لا تعني إقصاء من يحملون السلاح دفاعًا، ولا التعاطي معهم كمرتزقة؛ بل استيعابهم ضمن خطة وطنية جامعة لمواطن القوّة، ومانعة من الكسر والانكسار. هذا ليس نداءً عاطفيًا، بل خلاصة تجارب من عمر لبنان، تجاوزت سبعة عقود. فإنّ حماية لبنان لا تكون بالحياد السلبي، ولا بالارتهان إلى الخارج، بل ببناء توازن داخلي وطني يجعل من الدفاع عن الأرض والناس مسؤولية جامعة. هذا هو التحدّي، وهذه هي الفرصة الأخيرة، قبل أن يتحوّل العجز إلى قدر دائم، فلا نجد ساعتها ما نحميه ولا من نحميه لأجله.

المطلوب ليس فقط جمع البنادق، بل توحيد الرؤية. نحتاج إلى استراتيجية دفاعية تُبنى لا على الرغبة في إرضاء الخارج، بل على أساس أنّ المواطن في الجنوب والبقاع والضاحية، كغيره في كل المناطق الأخرى، له الحق في الحماية والرعاية، وإشعاره أنّه ينتمي إلى دولة لا إلى مزرعة، إلى نظام سياسي لا إلى شريعة غاب ومحترفي طائفية وضغينة. علينا ـ جميعًا ـ أن نستثمر في الجيش، وأن نفتح حوارًا شجاعًا حول سلاح المقاومة، وأن نخرج من منطق التخوين إلى منطق التفاهم. صحيح أنّ لبنان بلدٌ هشّ، لكن هذه الهشاشة ليست قدرًا. نحن نملك القوّة، ونملك الخبرة، ونملك الإرادة حين نُقرّر. نحتاج إلى قول واحد: انتهى زمن «قوّة لبنان في ضعفه»، وبدأ زمن «قوّة لبنان في وحدته».

Print Friendly, PDF & Email
طليع كمال حمدان

أستاذ جامعي، لبنان

Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  السلطة والهوية.. حزب الله أمام مأزق مزدوج!