الثورة اللبنانية و”مرشدها” الجديد

بعد أسبوع على إنطلاق الثورة في لبنان، غرّد نسيم طالب، المتخصص في علم الإحتمال والرياضيات، راسمًا هيكلية الحراك على شكل شبكة (مثل شبكة صيد)، معتبرًا أن بإستطاعة الفوضى خلق هيكلية ومنظومة عمل مرنة من الصعب ضربها. أما بعد إستقالة أول حكومة للعهد تحت ضغط الشارع، فهل بإمكان هيكلة "الشبكة" تلبية المتطلبات الجديدة للثورة؟   

تصاعدت الثورة سريعًا عقب إنطلاقتها وإتسعت رقعة إنتشارها وعدد المشاركين فيها لتسجل سابقة في تاريخ لبنان. بدا الإجماع نادراً تحت سقف لافتة “كلن يعني كلن” في كل لبنان. عادة ما تستهدف المظاهرات المطلبية رئيس الحكومة كونه رئيس السلطة الإجرائية ونظرًا لدور “الحريرية” في رسم سياسات لبنان الإقتصادية والمالية. هذه المرة، إستهدفت صرخات المتظاهرين الجميع من دون إستثناءات، أي أن المظاهرات التي ولّدها دافع إجتماعي وقلق من إنهيار إقتصادي ـ مالي، لم تكن مظاهرات مطلبية وحسب، بل إنتفاضة تطالب اولا بالمحاسبة (محاسبة المسؤولين الكبار وإسترداد الأموال المنهوبة) ورفض “نظام المحاصصة” الذي يحكم لبنان منذ عقود تحت شعار “الوفاق الوطني”، صارخين بوجه الجميع: “لا ثقة”.

لهذا كله، نحن أمام ثورة، بمعنى تغيير السلطة القائمة وفلسفة وجودها. لم تتوحد هذه الأهداف والشعارات من خلال صيغة تنظيمية محددة أو مؤامرة حاكتها أيد خفية. وحده الألم الذي يصيب اللبنانيين جميعًا، ومعه الإدراك بمن هم الأكثر فسادًا، وحّد الجمهور الغاضب ونسق شعاراته.

شبكة الثورة هي عبارة عن مجموعات واتس آب مكونة من أفراد وأصدقاء ونشطاء، راحت تتوالد الآلاف منها في أيام معدودة، لترتبط ببعضها البعض من خلال أفراد مشتركين. على سبيل المثال، إستطاعت إمرأتان تنظيم سلسلة بشرية من الشمال إلى الجنوب. اتت الفكرة قبل أيام معدودة من يوم الأحد في 27 تشرين الأول/ أكتوبر. إنتشرت الدعوة على الواتس آب وعمل كثر لا يعرفون بعضهم البعض على الترويج لها. نجحت المبادرة وإصطف اللبنانيون على إمتداد عشرات الكيلومترات من دون قيادة، أو هيئة تنسيق، أو متصدر لعملهم.  هذا مثال على كيفية عمل هذه الثورة من دون قيادة أو لجان تنسيق.

هل نقبل بتولي الحريري رئاسة الحكومة وإن كان جميع وزرائها من الأكفاء؟ من هم الوزراء المقبولون من الناس؟ كيف تظل الثورة وفية لمطالبها؟

بالتوازي، عملت المجموعات السياسية على ترجمة مطالب المتظاهرين إلى خطوات تلبي تطلعاتهم. أولى الخطوات ـ المطالب هي إستقالة الحكومة، ومن ثم تأليف حكومة مصغرة من خارج الطبقة السياسية مع صلاحيات إستثنائية وأخيرًا إجراء إنتخابات نيابية مبكرة تفضي إلى إنتقال سلمي للسطة وفق آليات دستورية. تدريجيا، أثبتت هيكلية الشبكة قدرتها وحيرت السلطة وأهلها.

إستقال الحريري بعد 13 يومًا على إنطلاق الثورة. أصبح اللبنانيون أمام خيارات متعددة، لا يوجد إجماع عليها بين المتظاهرين. هل نقبل بتولي الحريري رئاسة الحكومة وإن كان جميع وزرائها من الأكفاء؟ من هم الوزراء المقبولون من الناس؟ كيف تظل الثورة وفية لمطالبها؟

في المرحلة الأولى، كانت الأهداف واضحة فيما كان الإنتصار حلمًا ممزوجًا بالقمع والتعب. في المرحلة الثانية، أي بعد إسقاط الحكومة في الشارع وسقوط التفاهمات السياسية التي كانت في صلب تكوينها، بدأت مرحلة تأليف الحكومة الجديدة، في ظل إغراءات قد تغذي الخلافات بين “المتسلقين”، ومحاولات تشويه قد تغذي النعرات الطائفية في بعض ساحات الثورة.

مع سقوط الحكومة، أصبحت الطريق مفتوحة. السؤال هو من سيرشد الثورة في خطواتها المقبلة. لم تعد هيكلة شبكة المرحلة الأولى كافية. التحدي الأكبر يكمن في تمكن الثوار من خلق كيان معارض يضغط لتحقيق الخطوات اللاحقة ويراقب حسن تنفيذها..

من الواضح أننا أصبحنا أمام تحديات عديدة تستوجب منا التعامل معها بنضوج فكري وعملي وإعلاء العمل الجماعي بعيدًا عن الفردية، وذلك من أجل خلق كيان أو كيانات وبأسرع وقت حماية للثورة من أي تعثر في أولى خطوات مرحلتها الثانية، وهذا من شأنه تثبيت الحضور في الشارع ورفع منسوب الطمأنينة والثقة بين اللبنانيين المشاركين في الثورة وإعادة تزخيم الحضور في الساحات والميادين، تبعا لمتطلبات المراحل المقبلة.

    (*) ناشط سياسي

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  لبنان بعيون عربية 
طارق عمّار

مدير شركة آراء للبحوث والاستشارات، لبنان

Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  رداً على ناصيف حتّي.. دولة ديموقراطية واحدة على كامل أراضي فلسطين