لبنان: سيناريوهات الفراغ والتأليف والأمن والإنهيار

في التاسع والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر 209، سلم رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري إلى الرئيس اللبناني ميشال عون، كتاب إستقالته رسمياً، وأبلغه "كنت إلى جانبك طوال ثلاث سنوات من موقعي رئيسا للحكومة، والآن سأبقى إلى جانبك، سواء أكنت رئيس حكومة أم مواطناً عادياً". العبارة الأخيرة أثارت نقزة عون، ولكنه لم يعلق عليها. بعد عشرة أيام، يعود الحريري إلى القصر الجمهوري، ويخرج بتصريح مقتضب جداً. ما لم يعلنه أمام الصحافيين، قاله لرئيس الجمهورية "أنا لا أريد أن أكون رئيسا للحكومة. إبحثوا عن غيري".

أبلغ سعد الحريري كل مكونات حكومته المستقيلة قرارا واضحا لا لبس فيه: لا رغبة عندي بالعودة إلى رئاسة الحكومة. حزب الله تبلغ بلسان المعاون السياسي لأمينه العام الحاج حسين الخليل قرار الحريري في لقاء مباشر ومطول، وكرره على مسامعه أكثر من مرة. ما تبلغه الخليل، هو ما صار معروفاً عند رئيس المجلس النيابي نبيه بري؛ رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل؛ رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي وليد جنبلاط؛ ورئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع.

حتى الآن، ثمة إنطباع عند أغلب هؤلاء أن الحريري يناور. وبإستثناء “القوات”، تبلغ الحريري من الرباعي عون وبري وحزب الله وجنبلاط أن لا أحد غيره سيكلف برئاسة الحكومة. يعني ذلك، أن رئاسة الجمهورية اللبنانية لن تدعو في المستقبل القريب إلى الإستشارات النيابية الملزمة في القصر الجمهوري، طالما لم تحسم هوية من سيكلف برئاسة الحكومة سلفا، خصوصا وأن قرار التسمية رهن الأكثرية النيابية التي تملكها قوى الثامن من آذار/ مارس، متحالفة مع التيار الوطني الحر. 

ماذا يمكن أن يستخلص من هذا التطور؟

أولا، ليست المرة الأولى التي تتأخر فيها تسمية رئيس حكومة لبنان، ففي العام 2013، سُميّ تمام سلام رئيسا للحكومة بعد خمسة عشر يوما من إستقالة نجيب ميقاتي، وإقتضى الأمر مشاورات دولية وإقليمية، شارك فيها الحريري من مقر إقامته في السعودية، وأفضت إلى تزكية السعودية تكليف سلام، بمباركة مباشرة من رئيس المخابرات السعودية الأمير بندر بن سلطان. 

يقود ذلك للإستنتاج أن الدعوة للإستشارات مؤجلة، وأن التسمية تحتاج إلى إنضاج أكثر، داخليا وخارجيا، وبالتالي، ثمة عناصر غير محددة المعالم حتى الآن، ستحدد هوية من سيكون رئيسا للحكومة، سواء أكان الحريري أم من يسميه هو شخصيا.

ثانيا، هناك قرار سياسي كبير عند عون وحزب الله وبري بأن لا يُسَمَى أحد غير الحريري لرئاسة حكومة تكنوسياسية، في هذه المرحلة الخطيرة، سياسيا وإقتصاديا وماليا. ما يسري على وليد جنبلاط وسمير جعجع عندما تم تحذيرهما، قبل أقل من شهر، من الإستقالة من الحكومة، على قاعدة سعيهما إلى النجاة قبل أن يغرق المركب، يسري أيضا على الحريري ولو بلغة أكثر لطافة ودماثة. “فالزمن الحالي، ليس زمن بطولات بل تحمل مسؤوليات”. يعني ذلك تحديداً أن الحريرية السياسية تتحمل مثل غيرها، وربما أكثر بقليل، مسؤولية ما آلت إليه أوضاع لبنان الإقتصادية والمالية.

ثالثا، أيا كان سيناريو ما بعد إستقالة الحريري، سواء بالنسبة إلى الرجل شخصيا في ضوء ما حققه من مكاسب سياسية في شارعه تحديدا، أو بالنسبة إلى الجهات الدولية أو الإقليمية التي تدعمه، فإن القرار لن يكون بيد جهة واحدة حتما، ما يعني أن المشاورات الدولية والإقليمية هي الممر الإلزامي للتسمية. وهذا أمر يدلل إلى حد كبير على نقطتين ربما تغيبان عن بال كثيرين: الأولى، الأهمية السياسية للأكثرية النيابية التي حصدتها قوى 8 آذار/مارس في العام 2018، وخصوصا أن كتلة التيار الوطني الحر برئاسة باسيل، تشكل حجر زاويتها بأصواتها الثلاثينية. الثانية، الأهمية السياسية لموقع رئاسة الجمهورية، برغم ما أصاب صلاحياته من وهنٍ بعد الطائف، فمن يملك، اليوم، مفتاح الدعوة إلى الإستشارات النيابية الملزمة، هو رئيس الجمهورية، وهو لن يقدم على تحديد الموعد (غير ملزم بوقت محدد دستوريا)، إلا بالتشاور مع حليفه حزب الله.

رابعا، إذا كان الإنطباع السائد عند أغلبية القوى السياسية، ولا سيما عون وحزب الله، أن الحريري “يتدلع”، فما هي الشروط الحقيقية التي يمكن أن تجعل رئيس الوزراء المستقيل يغادر مربع “الغنج السياسي”؟

قيل لعون: أنت ستؤكل بعد باسيل ومن ثم سيأتي من يطلب رأس حزب الله

على الأرجح، هناك أمران لا ثالث لهما:

الأمر الأول، أن يكون الحريري صادقا في ما يقوله بأنه يشترط لتكليفه مجددا برئاسة الحكومة، إبعاد الوزير جبران باسيل عن الحكومة المقبلة. عندها، ماذا يضير أن يقبل بالتكليف إذا تبلغ من حزب الله وحلفائه أن باسيل وافق على عدم العودة إلى الوزارة. هل تلبية هذا الشرط ستكون كافية، أم للحريري دفتر شروط غير معلن حتى الآن، وماذا يتضمن؟

الأمر الثاني، أن يكون الحريري مجرد مناور سياسي فاشل، عندما يكشف ورقته المستورة كأن ينادي بحكومة تكنوقراط غير مطعمة بسياسيين. هنا لا يصبح الهدف جبران باسيل، بل حزب الله، إذ أن الكل يعلم أن لا مشكلة عند الأميركيين وغيرهم في أن يتمثل نبيه بري أو التيار الحر أو سليمان فرنجية أو سمير جعجع أو وليد جنبلاط في أية حكومة، لكن الأمر يصبح مختلفا مع حزب الله، بدليل ما شاب عملية تشكيل الحكومة المستقيلة من مناورات هدفت بالدرجة الأولى إلى تشليح حزب الله وزارة الصحة، وصولا إلى إبعاده عن أية وزارة خدماتية.

قد يقول البعض أن من مصلحة حزب الله ولبنان أن لا يتمثل الحزب في أية حكومة في هذه المرحلة. غير أن المسألة تبدو مختلفة بالنسبة إلى تنظيم ينتهج سياسة الهجوم من خلال الدفاع الشرس على قاعدة “أُكلتُ يوم أُكل الثور الأبيض”. هي حكاية ثلاثة ثيران (أبيض وأحمر وأسود) في الغابة، وكان معهم أسد، لا يقدر عليهم مجتمعين، فقال للأسود والأحمر إنه لا يدل علينا في موضعنا هذا إلا الثور الأبيض، فإن لونه مشهور ولوني على لونكما، فلو تركتماني آكله لصفا لنا العيش بعد ذلك، وكُتم أمرنا، فقالا: دونك فكله، فأكله. ثم قال للثور الأحمر: لوني على لونك فدعني آكل الأسود، فيصفو لنا العيش بعد ذلك، فقال له: دونك فكله، فأكله، بعد أيام، قال الأسد للثور الأحمر: إني آكلك لا محالة، فقال: له دعني أنادي أولًا، فأذنَ له، فنادى بأعلى صوته: ألا إني أُكلتُ يوم أُكل الثور الأبيض.

عندما وافق ميشال عون مرتين على التضحية بباسيل، لم يتراجع بسبب موقف الأخير، بل بسبب هذه المقولة، كما أخبره إياها أحد زاروه الدائمين. قيل لعون: أنت ستؤكل بعد باسيل ومن ثم سيأتي من يطلب رأس حزب الله.

حتى أن سعد الحريري، عندما صارح باسيل بأنه لا يستطيع تحمل وجوده في أية حكومة جديدة برئاسته، لإعتبارات كثيرة شرحها ولم تقنع باسيل، لم يعط أية إشارة في ما خص تمثيل حزب الله، علما أن الأخير، أبدى إستعداده للإتيان بوزراء حزبيين من فئة التكنوقراط، لتسهيل مهمة الحريري، إذا وافق على التكليف، ولو أن الحزب يدرك ضمنا أن الحريري تبلغ من الأميركيين أنه لن يكون مسموحا أن يتمثل حزب الله في الحكومة سواء بوزراء حزبيين أو من فئة الكنوقراط.

ما هي السيناريوهات المطروحة اليوم:

إقرأ على موقع 180  أيام لبنانية صعبة: خوف من الفتنة والإغتيال.. وحرب الدولار

أولا، أن يتمسك الحريري بإبعاد باسيل على قاعدة الإتيان بحكومة تكنوقراط 100%، وفصل النيابة عن الوزارة، وعندها سيكون رئيس تيار المستقبل ملزما بخطوة أساسية تتمثل في تقديم تقديم إستقالته من مجلس النواب فورا، قبل أن يتوجه إلى بعبدا لإبلاغ قراره بالقبول بتسميته رئيسا للحكومة، وفي هذه الحالة، سيضطر عون وحزب الله (بالإحراج والإكراه) إلى نقاش من نوع هل نقبل بالتضحية بباسيل وهل حدود مطالب الحريري تتوقف عند الإطاحة برئيس التيار الوطني الحر؟.

ثانيا، أن يتمسك الحريري بتسمية غيره لرئاسة الحكومة، وعندها ستكون الأزمة مفتوحة، طالما أن الأبواب في بعبدا غير مفتوحة لمثل هذا الخيار، وبالتالي، لا أحد يملك إسما بديلا وجديا حتى الآن.

ماذا إذا إستجد عامل أمني داخلي من خارج جدول الأعمال السياسي ــ الأمني الراهن؟

ثالثا، أن يقبل الحريري بتوزير باسيل (وزير دولة) من ضمن حكومة أقطاب وإنقاذ، يشارك فيها سمير جعجع وسليمان فرنجية وسامي الجميل مسيحيا ووليد جنبلاط وحسين خليل وعلي حسن خليل ونجيب ميقاتي وتمام سلام (وزراء دولة كلهم) وتسند الحقائب كلها إلى وزراء من فئة التكنوقراط، وتأخذ على عاتقها وضع خارطة طريق للإنقاذ الإقتصادي والمالي. هذا خيار محلي لا يمكن أن يقبل به  ما يسمى “المجتمع الدولي” الذي يربط بين حكومة التكنوقراط وبين عدم الإتيان بحزب الله إلى الحكومة تحت أي مسمى كان.

رابعا، إستمرار الفراغ، سواء ببقاء الوضع على ما هو عليه، أي بلا إستشارات أو تكليف أو تأليف.

لا يشي الوضع الراهن، برغم إستمرار الحراك الشعبي، وإنضمام المجموعات الطلابية بزخم إليه في معظم جامعات ومدارس لبنان، بأن لبنان على عتبة مرحلة إيجابية جديدة. عامل الوقت لا يضغط حتى الآن على الطبقة السياسية، وكذلك يعتبر أهل الحراك أن الوقت لصالحهم، مهما طال الزمن. في الوقت نفسه، يزداد الوضع الإقتصادي والمالي دراماتيكية. ثمة سقف لبقاء المصارف واقفة على قدميها، وإذا إهتز هذا القطاع، سيهتز كل وضع لبنان، وعندها يصبح المجهول معلوماً، أي أن الإنهيار الحاصل يصبح حقيقة لا مفر منها. 

ماذا يمكن أن يكسر هذه السيناريوهات؟

تاريخيا، لا تكسرها إلا مفاجآت سياسية أو إقتصادية أو مالية إيجابية، كأن تقرر دولة ما إرسال وديعة مالية كبيرة، لكن طالما أن الزمن ليس زمن عجائب، يصبح سؤال الأمن هو الأخطر. ماذا ينتظر لبنان في الأيام أو الأسابيع المقبلة؟

لنراقب الجبهتين الداخلية والجنوبية. حزب الله قرر منذ فترة إسقاط المسيرات الحربية الإسرائيلية، فهل يمكن أن تهضم إسرائيل مثلا إسقاط طائرة إستطلاع إسرائيلية جديدة بالصاروخ ذاته الذي أطلقته المقاومة قبل ثمانية أيام، وقال الأمين العام لحزب الله إن العدو كان يفترض ان المقاومة لن تجرؤ على إستخدام هكذا سلاح نوعي ولكنها إستخدمته؟ ماذا إذا تطور ملف الخلاف الحدودي البحري بطريقة غير مألوفة؟ ماذا إذا إستجد عامل أمني داخلي من خارج جدول الأعمال السياسي ــ الأمني الراهن؟

العين على المصارف وعلى الأمن ولا شريك لهما.  

Print Friendly, PDF & Email
حسين أيوب

صحافي لبناني

Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  شيرين أبو عاقلة.. "راك كاه" هكذا وحسب