لا تكمن أهمية جيمس لوميجورير في خلفيته العسكرية – استخباراتية فحسب، ولكن بدوره الرئيسي في إنشاء ودعم وتمويل منظمة “الدفاع المدني السوري”، المعروفة إعلامياً بـ”الخوذ البيضاء”، والتي لعبت دوراً مهما لا يقتصر على عمليات الإنقاذ والاجلاء في مناطق الحرب السورية، بل توسع لاستثمار وتوظيف سياسي ودعائي لأطراف هذه الحرب.
ملابسات الحادث
بحسب وسائل إعلام تركية، فقد عُثر على جثة الضابط السابق في الاستخبارات العسكرية الخارجية البريطانية في شارع بيه أوغلو الواقع في الشطر الأوروبي من مدينة إسطنبول التركية، في محيط منزله، نتيجة حادثة تدافع وسقوط نتجت عنها إصابات متعددة أخطرها كسور في العمود الفقري والجمجمة، بحسب تقارير المعاينة الأولية.
ووفقاً لوكالة الأناضول التركية، فأن جهات التحقيق التركية تعاملت مع الحادث فور اكتشاف الجثة على هذا الأساس قبيل معرفة هوية القتيل والحيثيات الأمنية والسياسية المتعلقة به، والتي تشي باحتمالية القتل وليس الموت عرضاً أو انتحاراً، فيما ذكرت زوجة لوميجورير للوكالة التركية أن زوجها يتعاطى أدوية لعلاج اضطرابات النوم وأنه بحسب أقوالها ومعاينة الأمن التركي لكاميرات المراقبة فأن منزله لا يبدو أن أحداً غريباً قد دخله ليلة الحادث.
علامات استفهام
ترتبط علامات استفاهم بحيثيات وأهمية شخص لوميجورير، التي لا تتوقف فقط في عمله العسكري والاستخباراتي السابق، ولا في كونه أحد كبار ضباط قوات حفظ السلام في يوغوسلافيا في السابق. أبرز هذه الحيثيات هي مساهمته في رئاسته منظمة “مايداي رسكيو” التي تعد المنظمة الأم لـ”الخوذ البيضاء” المثيرة للجدل، وذلك من ناحية تضاد مواقف أطراف الحرب السورية من نشاطها.
فيما تعتبر روسيا -على سبيل المثال- “الخوذ البيضاء” الواجهة المدنية والدعائية لتنظيمات إرهابية متطرفة على رأسها “جبهة النُصرة”، تساند الولايات المتحدة وغيرها من الدول عملها في مناطق الحرب السورية، والذي بحسب موقع المنظمة ساهم في إنقاذ أكثر من 100 ألف مدني على مدار السنوات الماضية.
الدعم الأميركي والغربي لم يقتصر على تأمين تمويل سنوي بعشرات الملايين من الدولارات عبر لوميجورير والمنظمة التي كان يرأسها، ولكن امتد لدعم إعلامي ودبلوماسي وأمني خاصة بعد تقارير “الخوذ البيضاء” حول حوادث استخدام أسلحة كيميائية في مناطق النزاع في سوريا بين عامي 2015 و2018، والتي أتهمت من خلالها المنظمة كلاً من موسكو ودمشق باستهداف مدنيين بهذه الأسلحة التي من المفترض أن الجيش السوري لا يمتلكها بعد تفكيك ترسانته الكيميائية في العام 2014 بإشراف جمع بين موسكو وواشنطن والأمم المتحدة.
اتهامات وتصريحات وحقائق
من جهته، اعتبر رائد الصالح، رئيس منظمة “الخوذ البيضاء”، أن مقتل لوميجورير يأتي في إطار تنفيذ “التهديدات المستمرة وخصوصاً من روسيا” التي تستهدف داعمين من جنسيات مختلفة للمنظمة، وأن لوميجورير قد وصلته تهديدات روسية مباشرة في الشهور الأخيرة من حياته.
ووصف صالح تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، أوائل الشهر الماضي بأنها تأتي في إطار “تمهيد دبلوماسي” لتنفيذ التهديدات الروسية له ولمنظمته والتي أستهلت بحادثة مقتل لوميجورير.
وكان لافروف قد صرح في وقت سابق أن “الولايات المتحدة تواصل دعمها لمجموعة المحرضين (الخوذ البيضاء) في سوريا، لذا فإن الاستفزازات باستخدام الأسلحة الكيميائية يمكن أن تحدث في أي وقت”، حيث تتهم روسيا المنظمة بتلفيق غطاء دعائي وإعلامي على جرائم “جبهة النُصرة” وغيرها من التنظيمات الإرهابية ومن ضمنها استخدام الأسلحة الكيميائية، وإلصاق ذلك بالقوات الروسية والسورية.
وبينما وصف الصالح العلاقة بين لوميجورير و”الخوذ البيضاء” بالقول إنه “مدير منظمة وسيطة بين الدول المانحة والخوذ البيضاء، يمر عن طريقها إدارة التمويل الذي يُعنى بتدريب عناصر الدفاع المدني وشراء المعدات التي نستخدمها في العمل الميداني للبحث والإنقاذ في سوريا”، فإن المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، صرحت أوائل الشهر الجاري أن “الخوذ البيضاء إلى جانب الإرهابيين، يجهزون عمليات استفزازية بسوريا باستعمال أسلحة كيميائية”. وأشارت إلى “تواجد معلومات حول أنشطة الخوذ البيضاء”، وأنه “وفقاً لتقارير ترسلها الحكومة السورية بانتظام إلى الأمم المتحدة، يعد أفراد الخوذ البيضاء والإرهابيون استفزازات كيميائية جديدة في سوريا. وهدفهم واضح – تقويض عملية السلام في هذا البلد”.
بين لندن وموسكو
روسيا من جانبها شككت في تقارير “الخوذ البيضاء” وعرضت أدلة -بعضها لأطراف محايدة- على تلفيق وفبركة شواهد وصور ومقاطع فيديو استند إليها تقرير المنظمة في تحميل موسكو مسؤولية استخدام السلاح الكيميايي ضد مدنيين.
وتعتبر الحكومة الروسية أن “الخوذ البيضاء” واجهة مدنية للتنظيمات الإرهابية، وأن دورها لا يقتصر على عمليات الإنقاذ والإسعاف في مناطق سيطرة هذه التنظيمات وتحديداً محافظة إدلب السورية، ولكن يمتد إلى تنفيذ أهداف دعائية وسياسية وعسكرية ميدانية، وهو ما يتناقض مع المبادئ الأساسية لمختلف منظمات الإغاثة والدفاع المدني الدولية وذلك كون العديد من أفراد المنظمة ينتمون إلى التنظيمات المسلحة في سوريا وعلى رأسها “جبهة النُصرة”.
قضية لوميجورير قد تضاف إلى عدد من الحوادث التي تصاعدت بسببها حدة التوتر بين لندن وموسكو في السنوات القليلة الماضية
رتباط شخص لوميجورير ذو الخلفية العسكرية والاستخباراتية بـ”الخوذ البيضاء” ودوره رأته موسكو “تلفيقاً وفبركة” لتقارير تدين دورها في سوريا بما يصل إلى مستوى جرائم الحرب. وكون الضابط الاستخباراتي القتيل يحظى بدعم رسمي من بلاده من خلال تكريمه من قِبل ملكة بريطانيا في 2017، وتوفير الحكومات البريطاني غطاءاً إعلامياً ودبلوماسياً لنشاطه، فإن حادثة وفاته بهذا الشكل الغامض في هذا التوقيت قد تضاف إلى عدد من الحوادث التي تصاعدت بسببها حدة التوتر بين لندن وموسكو في السنوات القليلة الماضية، أبرزها محاولة اغتيال العميل المنشق سيرغي سكريبال، بغاز “نوفوتشوك” أوائل العام الماضي، والتي تتهم فيها بريطانيا الاستخبارات الروسية بالوقوف وراءها.
كمحصلة عامة، من الصعب اعتبار موت لوميجورير حادثاً عرضياً، حتى وإن كانت الدلائل الأولية للحادث تذهب في هذا الاتجاه، فحيثيات شخص مثله سواء كونه واجهة التمويل الرئيسية لـ”الخوذ البيضاء” بالإضافة إلى خلفيته العسكرية والاستخباراتية، تجعل وجود شُبه جنائية -إذا أكدتها أجهزة الأمن التركي- في ملابسات وفاته فرصة لتوظيف واستثمار متزايد في الكبّاش ما بين لندن وموسكو من جهة، وما بين أطراف الحرب في سوريا على مستوى محلي وإقليمي ودولي، خاصة مع التطورات السياسية والدبلوماسية والعسكرية الأخيرة بين هذه الأطراف، والتي بموازاتها اتخذت إجراءات فك الارتباط وقطع العلاقات من جانب بعض الدول بالتنظيمات الإرهابية المسلحة وروافدها، وعلى رأسها “جبهة النُصرة” المصنفة بحسب قرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة كمنظمة إرهابية.