أوراق قوة لبنان: الشاطىء المتوسطي، المقاومة والغاز

شكلت بلاد الشام وبلاد ما بين النهرين عبر التاريخ بيئة حضارية متكاملة، مبنية على حيوية التنوع الثقافي والسياسي، مما جعلها في موقع للتنافس والصراع منذ ما يقارب الخمسة آلاف عام بين قوىً إمبراطورية كبرى في العالم القديم، بحكم حساسية الموقع الجيوسياسي لهاتين المنطقتين، ما رسّخ قاعدة أساسية تحتكم إليها كل من الهضبة الإيرانية وهضبة الأناضول ووادي النيل لتحديد الإمبراطورية المهيمنة على الساحة الدولية للعالم القديم.

على الرغم من البيئة الصراعية على بلاد الشام وبلاد ما بين النهرين، فما تشكّل تاريخياً إنّما هو شكلٌ من أشكال التكامل الحضاري، ومنعٌ من تشكل حدود قومية فاصلة وحدّية بين شعوبها، وجعلها شديدة التأثر البيني في ما بينها، إيجاباً أو سلباً، ولَم تختلف هذه الظاهرة بعد ظهور إمبراطوريات طرفية في كل من فرنسا وبريطانيا وروسيا، وبعد ذلك الولايات المتحدة، ولكنها على العكس من التجارب السابقة، فقد كانت مدفوعة بهواجس القلق العميق من عودة تشكل إمبراطوريات جديدة ذات تجربة تاريخية متجذرة في الوعي التاريخي لشعوبها، وهذا ما دفعها لعملية تدمير بلاد الشام وبلاد ما بين النهرين باعتبارهما المحددين المانعين لظهور قوة صاعدة جديدة في المشرق، كما أنهما يشكلان تهديداً حقيقياً إذا ما استطاعا التكامل مع بعضهما البعض لتشكيل بيئة جيوسياسية واحدة تمتلك قدرات ديمغرافية واقتصادية وتاريخية، وتسيطر على أخطر منطقة جيوسياسية في العالم، وتشكل صلة الوصل بين قارات العالم القديم العائد إلى صدارة المشهد السياسي والاقتصادي العالمي.

استندت عملية التدمير الممنهجة لوسائل عدة، وتبعاً لكل مرحلة، وقد استندت بدايةً إلى عزل الهضبة الإيرانية وهضبة الأناضول ووادي النيل عن منطقة الهلال الخصيب برسم حدود فاصلة ومانعة، وترافقت مع تفكيكها للمنطقة إلى مجموعة من الدول، تمثلت في العراق وسوريا ولبنان والأردن وفلسطين، ثم أتبعت ذلك بتأسيس قاعدة عسكرية متقدمة وضخمة في فلسطين بعنوان دولة إسرائيل، وفي الوقت نفسه، عملت على إيجاد نظم سياسية مختلفة في ما بينها لا تتيح إمكانية التقائها على مشروع جامع لهذه الدول، بالإضافة إلى ربط هذه الدول بالمنظومة الاقتصادية الغربية، وما تتمتع به من خصائص نوعية كالاقتصاد غير الحقيقي الذي ينتهج الشكل الاستهلاكي غير المنتج، ويتيح لمنظومات الفساد التحكم به، وربطه بمنظومات النهب العالمي.

يمتلك لبنان ثلاث أوراق قوة رئيسية، الأولى، هي الإطلالة الكبيرة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط  الشرقي وبمسافة تقارب الـ188 كلم، مما يجعله ذو أهمية كبرى للعراق وإيران والصين، بالإضافة لسوريا التي تعتبره الرئة التي تتنفس منها، والتهديد المستمر كخاصرة رخوة لها

أين موقع لبنان في منظومة الدول المستحدثة؟

كلنا يعلم أن هذا البلد الجميل لا يحمل مقومات دولة، مثله مثل الأردن، وبالكاد أن تحمل سوريا والعراق هذه المقومات، وهو بالأساس كان أصغر من ذلك. وقد أتبع لبنان بعدد من الأقضية حتى أصبح بعنوان دولة لبنان الكبير في الأول من أيلول عام 1920، وقد روعي في عملية التأسيس والتشكيل أن يؤدي دوراً اختبارياً لمجمل السياسات التي تُرسم لكامل المنطقة – كونه يمتلك نسيجاً اجتماعياً مشابهاً للعراق وسوريا – ومقياساً لمدى نجاح هذه السياسات، وفيه تطل مشاريع المحاور على بعضها البعض عن قرب، وقد قضى المؤسس الغربي له أن يُحَمَّل بذاته مشروعاً بعدد كبير من الألغام المتفجرة، من خلال نظام سياسي لا مركزي يعتمد على المحاصصة الطائفية، مما يدفع لهشاشة بنية الدولة، وضعف قراراتها التي تعتمد على التوافق الكامل بين الممثلين السياسيين للطوائف، وأن يكون من جملة الدول التي من المفترض أن تشكل حزاماً آمناً للكيان الإسرائيلي.

وعلى الرغم من هذه التركيبة السياسية الوظيفية الهشة التي صُممت بما يخدم استمرار الهيمنة الغربية على كامل الإقليم، فإنها كانت نقطة الضعف الكبرى، ما أتاح الفرصة لتشكل مجموعة من التيارات العروبية واليسارية المناهضة لهذا الدور الوظيفي، ترافقت مع المد الناصري وصعود الاتحاد السوڤييتي، وأُتبعت بعدد من المقاومات المتتابعة في وسط لبنان وجنوبه، بدأت مع المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، لتصل إلى حزب الله، ونتيجةً لذلك، انقسم المجتمع اللبناني كتعبير عن طبيعة التوازنات الدولية والإقليمية، وإرباك المشروع الغربي، إذا لم نقل فشله، إلى حد ما.

وعلى الرغم من نجاح التيارات المناهضة للغرب في تحقيق إنجازات عسكرية ميدانية كبيرة في مواجهة الولايات المتحدة عام 1983 وفي مواجهة إسرائيل على مدى أكثر من ثلاثة عقود، فإنها لم تستطع أن تستثمر هذه الإنجازات، وتصرفها بتغيير النظام السياسي اللبناني، والذي ما زال الغرب يمتلك مفاصله في الاقتصاد والثقافة والاجتماع، مما يدفع للمزيد من الإنهاك الاقتصادي لأفراد المجتمع اللبناني، وخلق أعباء لا حصر لها، وتهديدات مستمرة لأنماط الحياة ومستوياتها، وهذا ما تجلَّى في الحراك المجتمعي الكبير الذي ما يزال مستمراً حتى الآن، برغم الاختراق الكبير له من قبل المحور الغربي، وهو مؤهل للاستمرار بدافعين متناقضين، بين الراغبين بإسقاط النظام السياسي وكل ما ترتب عليه من سياسات اقتصادية فاسدة، وبين من يرتبطون بأجندات غربية ممن يعملون على حسم معركة تموضع لبنان الجيوسياسي بين الشرق والغرب باتجاه الانتماء النهائي للبنية الإقليمية للمحور الغربي.

يمتلك لبنان ثلاث أوراق قوة رئيسية، الأولى، هي الإطلالة الكبيرة على شاطىء البحر الأبيض المتوسط  الشرقي وبمسافة تقارب الـ188 كلم، مما يجعله ذو أهمية كبرى للعراق وإيران والصين، بالإضافة لسوريا التي تعتبره الرئة التي تتنفس منها، والتهديد المستمر كخاصرة رخوة لها، والثانية، هي امتلاكه لورقة المقاومة ومن يؤازرها في الداخل على الحدود الفلسطينية، مما حول لبنان إلى قوة إقليمية بمقاومته، تجاوزت ما رسم له من دور وظيفي ليصل إلى سوريا والعراق واليمن، وعنصراً ضاغطاً على القوى الدولية والإقليمية، وليصبح شريكاً في تحالف دولي غير معلن، يمتد من الصين إلى روسيا وإيران والعراق وسوريا واليمن، والورقة الثالثة هي مكامن النفط والغاز الهائلة القابعة في مياهه الإقليمية، التي يمكنها أن تحل كل مشاكله الناجمة عن طبيعة النظام السياسي اللبناني. وعلى الرغم من كل ذلك، فإن السؤال الذي يطرح نفسه، هل تستطيع حركة الاحتجاجات المستمرة والراغبة بالتغيير الجذري أن تحقق ما تصبو إليه؟

كل ما يحصل وما سيحصل إذا لم يتم التعامل معه من منطلق وحدة المشاكل بين دول الإقليم، فإنه سيصب في خدمة المشروع الغربي المستمر بأوجه متعددة ومتنوعة

الأمر يحتاج لإدراك طبيعة الدولة اللبنانية في سياقها التاريخي والجيوسياسي، فهذه الدولة تتشابك مشاكلها مع الدولة الأم ومجمل الدول الأخرى – وخاصةً في العراق بذات الخصائص والمشتركات وإن بشكل فاقع فيها – وقد فرض التكوين التاريخي والحضاري المشترك للمنطقة، والوحدة الجيوسياسية بأهميتها التبادلية في ما بينها قوانينَه على كل الدول التي شُكلت حديثاً، وجعلها مترابطة من حيث نوعية المشاكل الداخلية، وآثارها على دول الجوار، وأوجد قانوناً لازماً بعدم إمكانية حل أية مشكلة بمعزل عن دول الإقليم، والتي لا تنفصل مشاكلها عما يريده الغرب المؤسس لها، والمُستهدِف الدائم لها، وهي بالتالي لا يمكنها حل مشاكلها الداخلية على المستوى الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي إلا من خلال مشروع عابر لهذه الدول، وبشراكة شعوبه ونخبه في معركة المواجهة مع المشروع الغربي الذي يعيش مرحلة التراجع والتفكك باعتراف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الشهير، الذي أعلن بأننا نعيش مرحلة نهاية الهيمنة الغربية على العالم.

إقرأ على موقع 180  كذبة السيادة.. وأولاد الجرائم المتبادلة!

وكل ما يحصل وما سيحصل إذا لم يتم التعامل معه من منطلق وحدة المشاكل بين دول الإقليم، فإنه سيصب في خدمة المشروع الغربي المستمر بأوجه متعددة ومتنوعة، وهذا يقتضي الانطلاق نحو عملية التغيير الجذري العميق وفقاً لثلاثة مستويات:

المستوى الأول، أن يكون على المستوى اللبناني الداخلي، ويتم من خلال العمل على تأسيس الأرضية الضرورية للمستويين الثاني والثالث، وتحصيل ما يمكن تحصيله من إصلاحات اقتصادية بالدرجة الأولى، وسياسية بالدرجة الثانية.

المستوى الثاني، يتطلب أن يترافق مع عملية تغير جذري عميق وهادئ على المستوى السوري والعراقي وتَشارك النخب والقوى السياسية الفاعلة في هذه البلدان الثلاث بالتنسيق في ما بينها لقيادة التغيير داخلياً وعلى مستوى الدول الثلاث، والتي ترتبط مع بعضها البعض بالنتائج من حيث النجاح أو الفشل.

المستوى الثالث لا ينفصل عن المستويين السابقين، وهو المستوى الآسيوي الذي تتقاطع فيه ثلاثة مشاريع، وهي المشروع الصيني والمشروع الروسي والمشروع الإيراني، وتلتقي على نقطة أساسية وهي ضرورة إخراج الأميركي من كل قارة آسيا، وإيجاد سوقٍ إقتصادية مشتركة بين كل دولها، وقد خطت خطوات كبيرة بهذا الاتجاه، وتمتلك مؤشرات كبيرة للنجاح بما تسعى إليه، وهي تنتظر أيضاً المشروع التركي الذي ينوس بين الشرق والغرب، بين الهيمنة والتعاون.

ما الذي يمكن أن نقوم به الآن؟

كخطوة أولى لا بد من تحرك أساسي يميز بين القوى التي تسعى لإخراج لبنان من دائرة الوظيفة التي من أجلها تم تشكيله، وبين القوى التي تعمل على بقائه ضمن المنظومة الغربية، والخطوة الثانية هي دراسة واقع هذه القوى، ومدى إمكانية سيطرتها على مسار الحراك بما يخدم أهدافها القريبة والبعيدة، والخطوة الثالثة تكون برسم برنامج عمل يستطيع أن يحقق ما يمكن تحقيقه على المدى القريب، وخاصةً ما يتعلق باسترداد الأموال المنهوبة، وتحسين مستوى حياة اللبنانيين، وحفظ المقاومة التي أعطت للبنان بعده الإقليمي كلاعب أساسي، ريثما تنجلي المعركة الدولية والإقليمية في لبنان وسوريا والعراق واليمن عن صورة الرابحين والخاسرين، والتي تشير معطياتها الأولية حتى الآن إلى إنكفاء مشروع الهيمنة الغربية في هذا المشرق بشكل أساسي، وفِي مناطق واسعة من العالم، وكل غير ذلك فإنه سيصب في خدمة مشروع استمرار الهيمنة الغربية وإسرائيل، فهل نحن قادرون على ذلك؟

(*) طبيب، كاتب وباحث سوري

Print Friendly, PDF & Email
أحمد الدرزي

كاتب وباحث سوري

Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  كيسنجر.. "المجرم" الذي نال نوبل للسلام!