بين 17 تشرين الاول/أكتوبر، و17 كانون الاول/ديسمبر، راكمت تجربة الحراك الشعبي اللبناني، إنجازات، لم تستطع أي تجربة مماثلة تحقيقها في هذا الزمن القياسي. صحيح أن مناحي التباين متعددة بين أهل الحراك بدءاً من تسمية هذه التجربة؛ أهي هبة؟ حراك؟ إنتفاضة؟ ثورة؟ لكن ما تحقق، رمى صخرة كبيرة في مياه النظام الطائفي اللبناني الراكدة، منذ لحظة إنشاء دولة لبنان الكبير، ورسوخ دعائمه. دعائم لم تقوَ عليها قلاقل وحروب وإجتياحات و”أمم”. كانت في كل مرة تعيد إنتاج وتثبيت نفسها. وهذا ما تسعى اليه اليوم. فكيف يواجه اللبنانيون المنتفضون الإئتلاف الموضوعي لأهل سلطتهم؟
لعل التحدي الأبرز الذي يواجه الحراك – الإنتفاضة هو مسألة القيادة. عندما إنطلقت شرارة الهبة الشعبية في 17 تشرين الاول/أكتوبر، كان عنوان قوتها وسر ألقها أن لا قيادة تحكمها. خرج عشرات لا بل مئات آلاف اللبنانيين في الأيام الاولى الى الشوارع والساحات في كل مناطق لبنان، من مشارب سياسية وطائفية وطبقية متعددة، مدفوعين بوجع القلّة والغبن وبعض حساسيات السياسة وحساباتها. يومها، كانت هيئات قليلة تواكب عبر وسائل التواصل الإجتماعي إطلاق الشرارة الأولى لهذه الهبة وتطورها شعبياً. إنضمت لاحقاً هيئات المجتمع المدني، وأحزاب سياسية راسخة (الشيوعي، الكتلة الوطنية، التنظيم الشعبي الناصري، حركة الشعب) وأخرى مستحدثة (حزب سبعة، مواطنون ومواطنات في دولة…)، وقطاعات مهن حرة (محامون، مهندسون، أطباء، ممرضون، أساتذة) ونقابات، فضلاً عن طلاب المدارس والجامعات الذين شكّلوا، في لحظة خفوت معينة، وقوداً لزخم أكبر في الشارع. (قدّر عدد هيئات المجتمع المدني المنضوية في الحراك بنحو 110، عدا المجموعات الصغيرة التي إنبثقت عنه بعد إنطلاقه).
سؤال القيادة
مع مرور الأسابيع، إستوعبت السلطة اللبنانية بمختلف تلاوينها صدمة الحراك الشعبي. بدأت هجمة مرتدة لتسجيل النقاط. وبدا “سؤال قيادة الحراك” أكثر إلحاحاً. لكنه سؤال تتناقض الإجابات حوله، فهل هي أزمة حراك أم أزمة مجتمع؟
“من صنع الثورة هم الناس لا المجموعات السياسية، بما فيها هيئات المجتمع المدني. وبالتالي، هذه المجموعات لا تمثيل حقيقيا لها. بل إدعاء تمثيل. تنصيب. هذا واقع لا يستقيم الا بآلية إنتخابية محددة”
“دُجن اللبناني في تركيبة تُوجب عليه أن يكون خاضعاً لقائد وتابعاً له، تبعية تصل الى حد العبودية”، يقول أحمد حلواني، الناشط في مجموعة “طرابلس تنتفض للبنان”، إحدى المجموعات الأساسية في ساحة عبد الحميد كرامي في عاصمة الشمال. يرى حلواني أن القيادة ليست الأساس بل التوجيه. “الناس مُسيسة بطبيعتها برغم تركيبتها المدجّنة. الأجدى هو الإطار التنسيقي لا التنظيمي، ضمن مسار إستراتيجي دستوري وقانوني صحيح، لوضع خطة مدنية تُخرج البلد من “سلبطة” السلطة.. هذه الأخيرة متمرسة وتنظيمها أقوى. عمره 50 سنة. عندها تركيبات عسكرية واقتصادية ومالية واجتماعية في صلب الدولة، أما نحن فلا قدرات لدينا سوى تلك الشعبية”.
رؤية القيادة التي يلخصها حلواني لموقع 180 بوست، لا يجاريه فيها ماهر أبو شقرا، الناشط في مجموعة “لحقي”، إحدى المنظمات القاعدية في الشوف والجبل. يقدم أبو شقرا طرحاً أكثر جذريةً. ينطلق من قاعدة مفادها أن من صنع الثورة هم الناس لا المجموعات السياسية (بما فيها هيئات المجتمع المدني). وبالتالي، هذه المجموعات لا تمثيل حقيقياً لها. بل “إدعاء تمثيل”. “تنصيب”. هذا واقع لا يستقيم الا بآلية إنتخابية محددة. “لماذا لا تُدعى المجموعات والقطاعات في المناطق لإنتخاب ممثليها؟ الناشطون الأطباء، المهندسون، المحامون، الأساتذة، العمال؟ يُنتخبون بشكل دوري. هكذا تنتج قيادات دورية ذات طبيعة تمثيلية، تلتقط نبض الناس، ثم يقوم التنسيق على مساحة الوطن”. الدافع الى هذا الخيار، وفق ماهر ابو شقرا، هو أن “العفوية كانت في المرحلة الاولى ممتازة. أما الآن، فالنظام يلعب أوراقه. هو يُخطّط. ونحنُ يجب أن نُخطّط”.
“حان الوقت لإنبثاق تمثيل افقي للثورة وليس عامودياً. تمثيل وليس قيادة. هذا لا يعني أن هيئة واحدة قادرة على تمثيل الجميع. فالتعارض في هيئات الحراك طبيعي وهو يعكس طبيعة الموزاييك اللبناني”
الموزاييك اللبناني
إشكالية التمثيل لا القيادة تحضر في خيم ساحة العلم في صور. تكابد هذه الخيم القليلة للبقاء (عدد الثابتة الاساسية منها 3 فقط). تستضيف من يُعينَها على بلورة مفاهيم تلقى قبولاً في المحيط الشعبي الذي تتصارعه نزعات شتى؛ لقمة العيش؛ التحرر من الموروثات؛ التمسك بثوابت يعتبرونها وطنية. هي حالة من التشظي شهدتها ساحات الحراك الجنوبي بعد الخطاب الثاني للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله… “حان الوقت لإنبثاق تمثيل أفقي للثورة وليس عامودياً. تمثيل وليس قيادة”، يقول نمير شاهين، الناشط في مجموعة “لهون وبس” في الجنوب. تمثيل، يأمل شاهين، أن يتخطى ما يرصده من حالات “تناتش” تظهر لدى بعض “شخصيات” الحراك التي تتقدم الصفوف نتيجة تراكم لوجستي وإداري في التجربة، لكن من دون حسن تمثيل. هذا لا يعني أن هيئة واحدة قادرة على تمثيل الجميع. “فالتعارض في هيئات الحراك طبيعي، وهو يعكس طبيعة الموزاييك اللبناني. الساحات تخوض تجربة فريدة من نوعها. والشيطان يكمن في التفاصيل. وكما يقول المثل العامي اللبناني؛ الخان ضيق والحمار لبّاط”.
“غير صحيح أن الهيئات المشاركة في الحراك لم تستطع التقاط نبض الشارع. كثر حاولوا تصدر واجهة الحراك وأخفقوا. لماذا؟ لأنهم لم يتحدثوا بصوت الحراك”
لئن كانت الأطراف (المناطق) خزان كل حركة شعبية. هكذا علمنا التاريخ. هناك تتسع هوامش التهميش والحرمان، وهي في لبنان كثيرة. وإليها يرنو المنتفضون لإكتمال دائرة التمثيل، قبل إكتمال شروط الثورة. أما بيروت، فقيادة حراكها أكثر تشعباً. في ساحتيها (رياض الصلح والشهداء) وما بينهما، تتوزع خيم عشرات هيئات المجتمع المدني، وقطاعات المهن الحرة، والاحزاب. لا تبدو تعبيرات التحرك واحدة، ولا أجنداته. جرت محاولات تنسيقية، لكنها لم ترق إلى مستوى حركية الناس. أطل البعض من فنادق العاصمة وصالوناتها ليقدم أوراقاً بإسم الحراك، لكنها لم تلتقط نبض الناس.
“ما يجري هو نوع من قيادة غير مركزية”، يقول طارق عمار، الناشط في مجموعة “بيروت مدينتي”. هي بالأحرى “إدارة مشتركة لتوحيد الجهود، وإطلاق المبادرات التي تشارك فيها المجموعات، لبلورة موقف موحد تجاه القضايا المطروحة (إقفال الطرق. صياغة ورقة إقتصادية…)”. يرى عمار أنه “ليس سهلاً تنظيم الحراك على مستوى البلد. هذا تحدٍ كبير. والسؤال الأهم هو كيف نخلق مشروعية لأنفسنا؟”. لكن هذا لا يمنعه من تسجيل إعتراض على الرأي القائل إن الهيئات المشاركة في الحراك لم تستطع التقاط نبض الشارع. “هذا غير صحيح. كثر حاولوا تصدر واجهة الحراك وأخفقوا. لماذا؟ لأنهم لم يتحدثوا بصوت الحراك”.
تحدي المطالب
ينقلنا الحديث عن مآلات القيادة إلى تحدي المطالب. هل إستطاعت هيئات الحراك بكافة تلاوينها صياغة خطة عمل مطلبية محددة تواجه بها إئتلاف السلطة؟
ومثل المشارب الكثيرة التي خرج منها المنتفضون، تعددت الشعارات والمطالب التي رفعت قبل شهرين من الآن. من أصغر المشاغل الحياتية والمعيشية، إلى أكبر مسائل السياسة؛ شكل النظام وسبل تغييره. صيغت منها أوراق ومشاريع عمل متفرقة، لكنها لم ترق بعد إلى البرنامج الموحد.
تبدو شروط الإستمرارية مرتبطة بنفس المنتفضين الطويل، وبتراكم ما أنجزه الحراك، وبالرهان على تآكل رصيد السلطة نفسها
قد تُجمع كل الهيئات على أولوية معالجة الأزمة الإقتصادية والمالية. وبعدها تتدرج بقية المطالب. بالنسبة لمجموعة “بيروت مدينتي” مثلاً، “يأتي تمكين السلطة القضائية في المرتبة الثانية، بالتوازي مع إقرار قانون مكافحة الفساد، وفي الدرجة الثالثة، وضع قانون إنتخاب جديد تجرى على أساسه إنتخابات نيابية مبكرة” يقول طارق عمار. “لحقي” كانت أولويتها إسقاط الحكومة. “خطوة لن تستكمل الا بتشكيل حكومة مستقلة من إختصاصيين”، يوضح ماهر أبو شقرا، مؤيداً ثاني وثالث الاولويات؛ أي ترسيخ إستقلالية القضاء، وتنظيم إنتخابات مبكرة. لكن “طربلس تنتفض للبنان” تضع أولويات مختلفة؛ “تحقيق العدالة الإجتماعية، تطبيق الأنظمة والقوانين والدستور وأهمها إتفاق الطائف، ووضع سياسات إقتصادية إنتاجية لا ريعية”، وفق ما يحددها أحمد حلواني.
إشكالية إستمرارية حراك الناس تتقدم مع بروز التحديات المذكورة. إستمرارية لا تنفك عن وسائل الضغط المعتمدة، وتطورها. تبدو شروط الإستمرارية مرتبطة بنفس المنتفضين الطويل، وبتراكم ما أنجزه الحراك، وبالرهان على تآكل رصيد السلطة نفسها. المنتفضون الذين ستزداد معاناتهم وأعدادهم؛ العاطلون عن العمل؛ المصروفون من المؤسسات الخاصة المتعثرة؛ الموظفون العاجزون عن تقاضي رواتبهم المحتجزة في المصارف؛ العمال المتوقفة أشغالهم؛ التجار المستحيل عليهم الإستيراد؛ التصنيف الإئتماني المتوقع تدرجه نزولاً وصولا الى الدرجة (D) وهي مرحلة توقف القلب في الجسد… بيد أن هناك من يبدي تخوفاً على ديمومة الإنتفاضة. أن تنطفىء بإبرة مخدر. بدعم خارجي مفاجىء لا يحل جذور الأزمة. يؤجل الوعي الجمعي وهو وليد جديد.
في 18 تشرين الاول/اكتوبر الماضي، عندما تلاقى المساران الشعبي والسياسي للمرة الاولى في التعبير عن الخطاب المطلبي – المعيشي من ناحية، والنخبوي السياسي (قانون انتخاب، سياسات اقتصادية..) من ناحية أخرى، تكوّنت بوصلة الشارع اللبناني، يقول ماهر أبو شقرا. يتوقع أن يتراجع زخم الحراك إذا تشكلت الحكومة. “عندها سنتجه لبناء الذات كي نكون أكثر قدرة على المواجهة عندما تسوء الأمور. يصبح ملحاً العمل على إستعادة الأموال المنهوبة، وتغيير السياسة النقدية لمصرف لبنان. أما إذا لم تتشكل الحكومة فنحن أمام مصيبة. الإنفجار الإجتماعي حتمي. القلاقل أيضاً. السيناريو ضبابي. لكن المبادرة بيد الناس، لا سيما في الأطراف حيث يتعين التركيز على العمل القاعدي”.
أهل الحراك وإذ يطوون صفحة الشهرين من عمر تجربتهم، يواكبون بارومتر الملف الحكومي بكثير من التوجس. هو بالنسبة اليهم مسعى من أهل السلطة لإعادة إنتاج نفسها. مسعى من خارج المنطق الدستوري، فكيف لهم أن يؤيدوه أو أن يسمحوا بمروره! لا يعنيهم طرح أسماء أو بدائل عن تلك المطروحة. هذه ليست مهمتنا. المهم المواصفات. الاستقلالية والطبيعة الانتقالية للحكومة القادرة على ترجمة ما يطلقه الناس من شعارات ومطالب. أما الاحزاب السياسية الحاضرة في الساحات، فلها أن تشكل إطاراً تنسيقياً داعماً لكل الهيئات والمجموعات. فهل تنجح؟ العمل بهذا الإتجاه جار، لكن فصول نجاحه.. متروكة للآتي من الأيام.