1ـ الخطيئة الاولى
منذ مئة عام، كان الناس يموتون جوعا في لبنان. الحق على الحرب الكونية. العالم لم ينج من مجاعات متنقلة. الجوع منتشر في بلاد منكوبة. كل سبع ثوان، يموت طفل جوعا. الخوف راهنا على لبنان. إنه يحارب الجوع بالإنتحار، أو بالتهديد به… من كان يتصور، منذ عام فقط، أن يصبح 33% من اللبنانيين من طبقة المعدمين؟
عندما قرع بعض الخبراء اللبنانيين جرس الإنذار، أتُهِمَ الموجوعون بالمبالغة، والراؤون بالعمى. قيل: أزمة عابرة. لم يكن الأمر كذلك. سريعاً بلغ لبنان القاع. دخل جحيم الإفلاس. ومعروف بوضوح، أن لبنان لن يخرج من الأسفل من دون ضحايا: الفقراء سيدفعون الثمن. الطبقة الوسطى ستتجه الى السفلى. ها هم يعيشون في قلق الغد، مسكناً، عملاً، أقساطاً، مدارسَ، طبابةً، دواءً، غذاءً، هجرةً، وهلم جراً. لبنان، ولأول مرة، منذ المجاعة في الحرب الكونية، تتهدده الندرة النادرة، والمجاعة الزاحفة، والعوز المذل. عدّاد المنتحرين شغال. ما زلنا في البداية، وقد يكون الاَتي أعظم.
لبنان ليس وحيداً. من قبل، عرفت دول كثيرة نكبة الإفلاس. أوجه الشبه كثيرة بين “نكبة” لبنان الراهنة، ومآسي الدول التي، بين ليلة كالحة وضحاها الأسود، فقدت سيولتها، فأقفلت مصارفها، وأغلقت معاملها وكسدت صناعاتها وبارت زراعاتها وأفرغت مخازنها وتدنت عملتها الوطنية وفقدت عملتها الصعبة الى درجة ان عملتها لم تعد تساوي “نكلة”. أما الودائع فوداعاً. لا وسيلة للخلاص غير التسول الدولي.
لبنان، ولأول مرة، منذ المجاعة في الحرب الكونية، تتهدده الندرة النادرة، والمجاعة الزاحفة، والعوز المذل. عدّاد المنتحرين شغال. ما زلنا في البداية، وقد يكون الاَتي أعظم
لسنا وحيدين. هناك من نتشبّه به ويشبهنا. الذين أُصيبوا بداء العولمة واجتياحات النيوليبرالية وتحكم الرأسمال المصرفي الربوي، وتسهيلات الإستدانة من الخارج، ومداواة العجز بمزيد من الإستدانة بشروط مغرية، بكلفة ظالمة تمس السيادة الوطنية وتجعل من الإستقلال الاقتصادي أٌكذوبة، لإستحالة بلوغها، هؤلاء جميعا، غرقوا، ونالوا حصتهم من الإفلاس والتبعية. في ظل سلطات تتمتع بحصانة الفساد المشترك، وغياب تام للسلطة القضائية. أكثر من أربعين دولة سبقتنا إلى الهاوية والإفلاس، ودفعت شعوبها الفقيرة حياتها ثمناً لهذه الدورة الجهنمية بقطبيها: المال والموت.
لبنان، بعد نهاية حروبه، لم يتأخر عن دخول نادي الدول المدينة، وبالعملة الصعبة. تحالف زعماء الميلشيات ورأس المال المصرفي، والحماية السورية الآمرة، سهّل إنزلاق لبنان إلى وهم الفردوس المالي، لإصحاب رؤوس الأموال التي أغراها الربح السهل الذي توفره الفوائد والعائدات. جزء من هذه الأموال، كان مسجلاً في دفتر الدائنين الذين تسدد مع فوائدهم بديون جديدة. أي إطفاء الدين الأول بالإقتراض الدائم، ما جعل لبنان ينتقل، من دون نقاش، من دولة بلا ديون، إلى دولة مدينة، وبالعملة الصعبة، أي بالدولار. وللتاريخ، شهد مجلس النواب في التسعينيات نقاشا حاداً بين أقلية استفظعت الإستدانة بالدولار، وأكثرية من نواب منتظمين بالسياق الذي فرضته “ترويكا” التحكم المالي: رفيق الحريري، زعماء الميليشيات، النظام السوري. ولقد قيل، وقتذاك، أن لبنان مرشح لينافس دبي. سقط لبنان في المنافسة. إنه ليس دولة خليجية. جلّ ما تأهل فيه أنه كان يعكز على فوائض دول خليجية، واليوم هو بلا عكازات.
قيل، وقتذاك، أن لبنان مرشح لينافس دبي. سقط لبنان في المنافسة. إنه ليس دولة خليجية. جلّ ما تأهل فيه أنه كان يعكز على فوائض دول خليجية، واليوم هو بلا عكازات
2ـ لسنا وحدنا في العجز
فلنسافر إلى الأرقام. فلنقترب من المؤسسات المالية الدولية، وتحديداً صندوق النقل الدولي، الذي يطوف طيفه حول لبنان راهناً، بهدف إنقاذه، عبر إغراق فقرائه وطبقته الوسطى في البؤس واليأس. فتاريخ هذا الصندوق الأسود أدى إلى حصد الكوارث لأعوام عديدة، في دول عديدة.
أميركا اللاتينية مختبرٌ ناطق. ماذا جرى فيها؟
في ستينيات القرن الماضي كان مجموع ديون أميركا اللاتينية كلها، يبلغ ستين مليار دولار تقريبا. ديون موزعة على عدد من الدول. بعد عشرين عاماً، قفز الدين، بعد “مساعدات” صندوق النقد الدولي إلى 206 مليارات. القفزة هذه إحتاجت عشرين عاماً من المعاناة والإنزلاق إلى الأسفل. ثم بعد عشر سنوات بلغ الدين ضعفين. وصل إلى حافة 443 مليار دولار. وفي نهاية القرن، قفز الدين إلى 750 مليار دولار، ولم يتوقف بعد ذلك أبداً.
الأموال، ليست هبات أبداً. رأس المال لا يحب إلا الربح. يمقت الخسارة. مستعد لإرتكاب الجرائم، بشرط تأمين أرباح خيالية. هذا هو الرأسمال وفق تعريف جورج برناردشو له.
كيف حاولت الدولة المدينة إطفاء ديونها؟ بدأت بتحويل 25 مليار دولار سنوياً لمصلحة الدائنين على مدى ثلاثين عاما. الدائن جزار. المدين رقبته تحت المقصلة. ومنذ ثلاثين عاماً، إلتزمت دول أميركا اللاتينية بتخصيص 30 إلى 35 % من قيمة صادراتها لإطفاء الدين. وبحساب مقسط على الأفراد، كان على كل فرد في أميركا اللاتينية، أن يدفع 2550 دولاراً للدائنين من بلاد الشمال الغنية. (من محاضرة موريس لوموان، معاون رئيس تحرير لوموند ديبلوماتيك عام 2011).
يطلق اقتصاديون كثر على سياسات البنوك الدولية وصناديقها لقب “مشعلي الحرائق”. وأبلغ نموذج الدول التالية:
كانت اقتصاديات الأرجنتين مزدهرة. إستدانت وأثقلت إقتصادها بالديون الخارجية. تعبت من الفوائد الباهظة. أقدمت على خصخصة القطاع العام، وحررت الأسواق المالية. فشلت، طبعاً، في سداد ما عليها. وقعت ثمرة ناضجة في قبضة صندوق النقد الدولي. صندوق النقد يملي سياساته ولا يتفاوض بشأنها. نظامه دكتاتوري مطلق. 1+1=10. وليس أقل من ذلك أبداً. أملى صندوق النقد على الأرجنتين سياسة إقتصادية ومالية تخدم بالدرجة الأولى (الشركات الكبرى العابرة للقارات) وهي في معظمها أجنبية، وتحديدا أميركية. إنهارت العملة الوطنية، فكان ما كان من فقر وبؤس ومجاعات وعنف وأحزمة بؤس وتخلف إقتصادي وإنتفاخ مالي للمصارف والشركات الأجنبية.
في العام 2001، بلغ الدين الخارجي للأرجنتين 146 مليار دولار (لبنان نقطة جغرافية في بحر الأرجنتين مساحة، ومع ذلك بلغت ديونه أكثر من 85 مليار دولار).
إضطرت القيادة السياسية في الأرجنتين إلى إتخاذ قرار بتجميد الودائع المصرفية الخاصة، فإنتشر الهلع بين الناس، وانهار الإقتصاد الوطني وارتفعت نسبة البطالة وتتابعت إفلاسات المؤسسات المنتجة. المصيبة، أنه عندما تقع البقرة يكثر سلاخوها. رفض صندوق النقد الدولي، صاحب الإملاءات المدمرة، تقديم أي قروض جديدة، الأمر الذي أدى إلى تفاقم التوتر الذي تحول إلى تمرد شعبي أطاح بـأربعة رؤساء جمهورية وفوضى لا سابق لعنفها. (اللبنانيون، ينتظرهم الأسوأ. والسلطة ينتظرها الأشد سوءاً. لقد بدأ اللبنانيون يدركون أن مسيرتهم الحياتية ستقودهم إلى الجحيم. ولكنهم، لن يذهبوا وحدهم. سيجرفون السلطة معهم، مهما كانت الكلفة. دماء اللبنانيين عندها في خطر النزف والعنف).
من أصل خمسة أرجنتينيين، يعيش إثنان على حافة الجوع والموت. هذا في الأرجنتين الكبرى، فماذا عن البرازيل الأكبر؟ كانت البرازيل تعاني إقتصادياً من وصفات صندوق النقد الدولي. خضعت لما أُملى على الأرجنتين، مع فارق أساسي جداً، أن السلطة في البرازيل كانت تشبه السلطات اللبنانية في فسادها وإفسادها. تعاقب على السلطة فاسد، ثم الاكثر فساداً، ثم الأفدح فساداً. تماما كما عندنا. سلالات فاسدة لا ترعوي عن الإرتكاب العلني. تشرع الموبقات لنفسها. هكذا كان التشريع لسوق الدعارة في شارع المتنبي. إنهم لا يخجلون ولا يختبئون ولا يمارسون عادات النهب بسرية. إنهم يعلنون على الملأ، أنهم فاسدون. هذا في لبنان.
اللبنانيون، ينتظرهم الأسوأ. والسلطة ينتظرها الأشد سوءاً. لقد بدأ اللبنانيون يدركون أن مسيرتهم الحياتية ستقودهم إلى الجحيم. ولكنهم، لن يذهبوا وحدهم. سيجرفون السلطة معهم، مهما كانت الكلفة. دماء اللبنانيين عندها في خطر النزف والعنف
“أُنعم” على البرازيل حكم رشيد ونظيف جداً. أسماء لامعة جداً لا غبار عليها. خريجو جامعات عالمية. معروفون بالعلم والإستقامة والخبرة. وزير خارجيتها فيلسوف ليس كما عندنا أبداً. هو تلميذ نجيب للفيلسوفة حنة ارندت. وزير العدل، مارس الرفض الثوري وانضم الى صفوف المقاومة المسلحة في البرازيل. شهادة حسن سلوك شرعية. وزير التعليم العالي، كان رئيساً لجامعة. سكرتير الدولة لحقوق الإنسان كان مقاوماً شجاعاً للدكتاتورية في البرازيل. اطروحته الجامعية هي حول “قمع العمال”. ثوري بإمتياز ولكن جميع هؤلاء من اليسار المستنير غير الكلاسيكي. والغريب، أن هذه النخبة الممتازة، انزاحت كلها، باستثناء واحد فقط، وانخرطت في التيار النيوليبرالي، “وبعد أن كانوا ينتقدون توافق واشنطن ويقاومون مؤسسات بريتن وودز، أصبحوا خدماً مطيعين للخزانة الأميركية ومرتزقتها”(Les nouveaux maîtres du monde Jean Ziglar)
حلت المأساة: سوء تغذية، عجز، موت. عدد المتضررين من سياسة السلطة آنذاك بلغ 22 مليونا من الفقراء والجائعين والبلا مأوى. إحصاءات المعارضة تقدر عدد الضحايا بـ 44 مليوناً. المؤتمر الوطني للأساقفة يقدر عدد المعدمين بـ 55 مليون إنسان. كارثة.
3ـ يا فقراء العالم موتوا
يصف شاهد عيان كيف عاش فقراء البرازيل، في ظل حكومة فاسدة وتحت امرة المصارف وسياسة صندوق النقد الدولي. يقول الشاهد: “في سان باولو، وفي ميدان براكاداسي، كنت أرى الفقراء يتدافعون حول صنابير المياه المنتشرة على سلم الكنيسة: عاطلون عن العمل، زائغو البصر، صنادل مقطعة، قذرون بشعر كثيف، نساء يحملن أكياساً من البلاستيك، كلهن يفتشن داخل حاويات القمامة عن شيء أو قطعة خبز يابس أو فواكه عفنة أو قطعة عظام، أو قطعة من اللحم الفاسد”(غداً الجزء الثاني والأخير: “لا مال بلا سياسة، هل يُعامل لبنان كطشقند”؟.