لبنان وصندوق النقد.. نلتزم بما نقبله

لقد عملت ما يقارب العشرين عاما في البنك الدولي وكنت على اتصال دائم مع زملاء لبنانيين وعرب في صندوق النقد الدولي. كنا نتعاون لمساعدة عدد من البلدان، ولم نفرض مرة شروطا تعجيزية ليس بمقدور دولة تحملها. لننظر إلى المكسيك، الأرجنتين، كوريا الجنوبية، واليونان. أوضاع هذه الدول اليوم أفضل مما كانت عليها قبل التعاون مع الصندوق وغيره من المؤسسات والصناديق. ثم، ان الصندوق لا يفرض شروطه، بل يحاور ويناقش بشأن الحلول للخروج من أزمة هذه الدولة أو تلك. ويتدخل الصندوق بطلب من دولة عضو - مساهم في راس ماله - وعندما تكون الدولة في حالة انهيار اقتصادي ومالي سيء. 

يواجه لبنان واللبنانيون حاليا ثلاث أزمات متلازمة. الأولى، تتعلق بالتنافس بين الأحزاب والتيارات السياسية للسيطرة على السلطة ومقدرات الدولة. ولعل المؤسف أن أغلبية أهل السلطة تجمعهم قناعة مفادها وجود فرصة لاحتواء الإنتفاضة الشعبية التي انفجرت في منتصف تشرين الاول/أكتوبر الماضي، أي أن “حليمة ستعود إلى عادتها القديمة”. إلى المزيد من الإستباحة من أجل المنافع والمكاسب.

الأزمة الثاني تتصل بمالية الدولة وميزانيتها. لقد شدد مؤتمر “سيدر” الذي عقد في باريس في نيسان/أبريل 2018، على التقشف، أي وقف الهدر والفساد وتخفيض العجز في موازنة الدولة. ولكن بدل خفض النفقات، راحت الحكومة الأخيرة تزيد الضرائب على اللبنانيين، الى ان إنفجر الشارع مع ضريبة “الواتس اب”. وبدل سعي الحكومة الجديدة لـ”صناعة” موازنة جديدة تحقق آمال وأماني اللبنانيين المنتفضين والرافضين لاستمرار الوضع الراهن، قبلت بموازنة اقرتها الحكومة السابقة، ما يعني عدم إقفال مكامن الهدر والفساد خصوصا في قطاعي الكهرباء والاتصالات. هذه الملاحظة لا تنفي الأهمية الدستورية لإقرار الموازنة وعدم الصرف مجدداً على القاعدة الإثني عشرية.

الأزمة الثالثة هي السياسة النقدية. لقد ثبت مصرف لبنان المركزي سعر الليرة اللبنانية بالنسبة للدولار ابتداء من مطلع تسعينيات القرن الماضي ورفع سعر الفائدة على حسابات التوفير الى مستويات توازي أضعاف المعدل الدولي (زادت في منتصف التسعينيات عن الأربعين بالمئة). هذه السياسة هي عكس ما اتبعه لبنان منذ ان انفصل نقديا عن سوريا في أواخر أربعينيات القرن الماضي، حيث إتبع النظام اللبناني سياسة الاقتصاد الحر والسرية المصرفية، فلا قيد على العملة والتحويلات باي عملة ومن ايّ مصرف كان. ارتفع سعر صرف الليرة وهبط بما كان يعكس الوضع الاقتصادي في البلد. لم تتغير السياسة النقدية خلال الحرب الطويلة (1975 ـ 1990)، ولم  تفرض القيود على تحويل المال او على كيفية تصرف المودعين بأموالهم. وبالرغم من الانخفاض الهائل لسعر الليرة في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، لم يفكر ايّ من المسؤولين بـ”الكابيتال كونترول” او بوضع أية ضوابط على رؤوس الأموال.

من سخريات السياسة النقدية الحالية، انها تستمر بالترقيع من دون رادع، ويبادر القيمون عليها إلى طلب صلاحيات استثنائية لدعم سياسة ليست فقط خاطئة، بل فاسدة وليست من مصلحة لبنان

أعتقد أن السياسة النقدية الحالية هي شكل من أشكال الوهم الذي يجذب المودعين ويدفع فوائد عالية من أموال مستثمرين اخرين وجدد. هي سياسة اشبه ما تكون بـ”مخطط بونزي”، حيث يتم تسديد الفائدة لمستثمرين أوليين بأموال من مستثمرين لاحقين لجعل الاستثمار يبدو ناجحا ومن ثم اجتذاب المزيد من المستثمرين (مخطط بونزي الذي وقع في نيويورك في عشرينيات القرن الماضي، هو أحد دروس الاقتصاد في الجامعات الاميركية).  ان ممارسة “مخطط بونزي” في القطاع الخاص يستمر عادة بضع سنوات ولنا في لبنان أمثلة عديدة. لكن تطبيق هكذا مخطط كسياسة نقدية للدولة سمح له بالاستمرار على مدى ثلاثة عقود.

ومن سخريات السياسة النقدية الحالية، انها تستمر بالترقيع من دون رادع، ويبادر القيمون عليها إلى طلب صلاحيات استثنائية لدعم سياسة ليست فقط خاطئة، بل فاسدة وليست من مصلحة لبنان.

آن الأوان لهذه اللعبة أن تتوقف بسبب نتائجها الدراماتيكية. لا نحملها وحدها المسؤولية. ثمة عوامل فاقمت الأزمة. الفساد الذي تجاوز المألوف في السنوات الأخيرة. انخفاض تحويلات اللبنانيين من الخارج. تصاعد العقوبات الاميركية ضد إيران. العقوبات الاميركية التي تستهدف حزب الله وبيئته الحاضنة. غياب سياسة تشجيع الاستثمار الداخلي والخارجي. الحرب السورية. الارتفاع الكبير في خدمة الدين العام الذي زاد عن 85 مليار دولار. والجدير بالذكر ان حوالي 80% من هذا الدين هو تراكم فوائد لم يستفد لبنان منها سوى باقل من عشرين مليار دولار.

هذه الأزمات الثلاث، لا تحجب الإستحقاق الابرز الذي تواجهه حكومة  الدكتور حسان دياب، وهو إستحقاق اليوروبوندز. ان دفع استحقاق شهر آذار/مارس يقلّل من إمكانية سد الدولة اللبنانية الإحتياجات الأساسية للبنانيين، كما ان التخلف عن السداد يعني اعادة جدولة الدين ووضع خطة مالية تسمح للبنان بسد الاستحقاقات المتوجبة عليه، وذلك بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي والدول المعنية بالاستقرار في لبنان. كما أن إلتزام الحكومة بدفع إستحقاق آذار/مارس، لا يمنع من تجدد سؤال الدفع أو عدم الدفع مع إستحقاقي نيسان/أبريل وحزيران/يونيو. وماذا إذا إضطررنا للتخلف عن التسديد.

ثم، هل على الحكومة الجديدة ان تقضي المئة يوم الأولى في نقاش حول دفع الاستحقاقات القادمة ام عدم دفعها، بدل تركيزها على مواجهة باقي المشاكل والأزمات التي تواجه لبنان واللبنانيين؟

ان تجربة العديد من الدول التي تعاونت مع صندوق النقد كانت ناجحة، وبإمكان لبنان إذا أحسن إدارة الحوار مع الصندوق ان ينجح، شرط أن نكون جديين في خوض غمار الإصلاح

ان الأوضاع الراهنة في لبنان، والمناخات الدولية والإقليمية الحالية التي رافقت ولادة الحكومة، لا تبشر كلها بامكانية الحصول على مساعدات أو قروض، ولو قليلة، بالعملات الصعبة. يعني علينا أن نقلع شوكنا بأظافرنا. فهل بمقدورنا حل المشاكل المتراكمة منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي حتى الآن بكبسة زر واحدة؟

إقرأ على موقع 180  خيبة في الفاتيكان.. ولا مكان لـ"الشطارة اللبنانية"

لا ينفي ذلك حقيقة وجود أصدقاء دوليين وعرب للبنان، يبدون حرصهم دائما على الإستقرار، الا انهم ليسوا مستعدين لضخ، ولو مبلغ قليل من العملة الصعبة، ما دام لبنان يتخبط بالفساد والهدر وسوء الإدارة.

ثمة مناخ لبناني جدي يرفض الاستعانة بصندوق النقد الدولي، لانه، وكما كتب صحافي كبير، “سيأتي حاملا وصفته الكارثية وخلفياته السياسية”. السؤال هو الآتي: ماذا سيطلب، مثلا، الصندوق من لبنان حتى يوفر له الدعم اللازم؟

في اعتقادي ان الصندوق قد يبدأ بمعالجة العجز الهائل في موازنة الدولة بدءاً بوقف الفساد والهدر؛ إصلاح قطاع الكهرباء بالتعاون مع البنك الدولي؛ دعم الدولة لبعض السلع بالأخص تلك التي تهرّب الى الخارج او لبعض القطاعات التي يساء التوظيف فيها مثل القروض السكنية. وبالأهمية ذاتها، سيخوض صندوق النقد مع مصرف لبنان المركزي في مسالة كلفة المضي بتثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية بالنسبة الى الدولار، والتي قد تكون أحد أبرز أسباب الانهيار النقدي الذي نتخبط به جميعًا. كذلك، قد يطلب الصندوق من إدارة المصرف المركزي استقدام شركة تدقيق حسابات دولية لتقييم ميزانيات العقود السابقة للمصرف.

ومن المتوقع أن يقارب الصندوق مع السلطات النقدية والمالية معدل سعر الفائدة المرتفع جدا بالنسبة الى السعر العالمي والذي تسبب في إضعاف قطاعات الصناعة والزراعة والسياحة والاستثمارات المنتجة. كذلك سيشمل الحوار كيفية إعادة ثقة اللبنانيين المفقودة بالقطاع المصرفي، بسبب الجشع وسوء الإدارة. وأخيرا وليس آخرا، سيشجع التعاون مع الصندوق اللبنانيين عبر البحار على زيادة تحويلاتهم الى ذويهم في الداخل، وربما ـ مع الوقت طبعاً ـ يعودون الى ايداع مدخراتهم في المصارف اللبنانية.

يسجل على حكومات العهود السابقة (1990 ـ 2016) فشلها في وضع لبنان على طريق الإصلاح المالي والنقدي والإداري، إلى أن إنفجرت الأزمة بوجه العهد الحالي في الخريف الماضي. كذلك ان حكومتي العهد برئاسة سعد الحريري لم تحاولا البدء بالإصلاح بل فشلتا في إدارة الوضع الاقتصادي المتدهور.

هل فات الأوان؟

لا لم نخسر الفرصة، ولا يجب أن نخشى الخوض في حوار مع صندوق النقد الدولي، لكن بما لا يلزم لبنان الا بما يقبله.

ان تجربة العديد من الدول التي تعاونت مع صندوق النقد كانت ناجحة، وبإمكان لبنان إذا أحسن إدارة الحوار مع الصندوق ان ينجح، شرط أن نكون جديين في خوض غمار الإصلاح الحقيقي ومحاربة الفساد الذي بات يعشعش في كل مفاصل هذا النظام.

(*) سفير لبنان السابق في واشنطن

Print Friendly, PDF & Email
عبد الله بو حبيب

وزير خارجية لبنان

Download Best WordPress Themes Free Download
Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  إما الدولة أو الموت على وجه الجدار