“الماسونية العربية” و”الجهادية الإسلامية”.. خيبة مشتركة

في القرن التاسع عشر، انطلقت محافل الماسونية في العالم العربي وكان المحفل الأول في مصر مع حملة نابوليون بونابرت.

دخلت الماسونية إلى سوريا عام ١٨٦١ من خلال محفل فلسطين في بيروت برعاية المحفل الأكبر الاسكتلندي. وفي دمشق، أسس الأميركي روبرت موريس عام ١٨٦٨ بترخيص من محفل لندن،  ثاني محفل ماسوني، وكان والي دمشق يومها محمد رشيد باشا، ماسونيا في احد محافل الأناضول.

وللعلم، فإن عدد المحافل الماسونية في العالم كانت يومذاك، تقارب أثنى عشر ألفا، ثمانية آلاف منها في الولايات المتحدة الأميركية. وبرغم سرية طقوسها، واجتماعاتها ونقاشاتها، كان اعضاؤها معروفين في الوسط الاجتماعي ومن ثم السياسي، وكانت المحافل رسمية ومرخصة. شعارها هو شعار الثورة الفرنسية (وهي من صنعتها):حرية، مساواة، أخوة.

اهتمت المحافل بالشأن الاجتماعي، فكانت مؤسسة للمدارس والمستشفيات والبنى التحتية وتعمل في ظل الإمبراطورية العثمانية وتدين باللواء للسلطان. مثلاً، كان هناك ثلاثة أخوة للسلطان عبد الحميد الثاني من الماسونيين ، كذلك الصدر الأعظم مدحت باشا دون أن يكون السلطان نفسه ماسونيا. وبالطبع، هذا لم يمنع الماسونية  ـ وبخلاف هدفها المعلن بالولاء للسلطان ـ ان تكون وراء مؤامرة تنحية السلطان عبد الحميد الثاني.

وعند نهاية الفترة العثمانية، كان أمير الحج الماسوني عبد الرحمن باشا اليوسف ـ أغنى اغنياء دمشق (ويقال السلطنة) ـ رئيسا لمجلس الشورى في عهد الملك فيصل الأول (١٩١٨-١٩٢٠)، فترة المملكة العربية السورية، وكان أول رئيس للدولة السورية عام ١٩٢٢  هو الماسوني صبحي بركات من مدينة انطاكية السورية، تبعه احمد نامي رئيس محافل سوريا ولبنان وصهر السلطان عبد الحميد الثاني (متزوج من ابنته عائشة) وتطول اللائحة :جميل الاشي مساعد الملك فيصل، محمد رضا مردم بك (جد الرئيس تمام سلام)، رئيس الوزراء حقي العظم، رئيس الوزراء عطا الايوبي، رضا سعيد رئيس جامعة دمشق، رئيس الوزراء جميل مردم بك، رئيس مجلس النواب فارس الخوري، الطبيب عبد الرحمن الشهبندر، رئيس الوزراء سعيد الغزي، الأمير مصطفى الشهابي وزير المعارف، نعيم انطاكي وزير الخارجية، رئيس الوزراء لطفي الحفار، نائب الجولان ووزير الخارجية الأمير عادل ارسلان، رئيس الوزراء اللبناني رياض الصلح، رئيس الجمهورية الزعيم فوزي سلو، العقيد أديب الشيشكلي، رئيس الوزراء اللبناني سامي الصلح، وهذا بعض من كل، وهذا في لبنان وسوريا.

والملاحظ أن معظم مؤسسي المحافل ومنتسبيها كانت تشدهم الحماسة للعمل العام وخدمة مجتمعاتهم، وفي الاذهان نموذج الحضارة الغربية وماحققته في بلادها… فايدوا “الثورة العربية” على الدولة العثمانية  وانخرطوا في صفوفها، ولكن؛ توالت المفاجأت.

ففي صيف ١٩٢٠، بادر فيصل الأول، ملك المملكة العربية السورية، وكانت تشمل دول اليوم سوريا (مع لواء اسكندرون والموصل) ولبنان والأردن وفلسطين، إلى تكليف مساعده جميل الالشي بإجراء مفاوضات مع المندوب السامي الفرنسي الجنرال غورو، في قصر سرسق في بيروت، لعل نشاطه الماسوني وعلاقاته مع الماسونيين الانكليز والفرنسيون تنفع في تأجيل فرض الانتداب الفرنسي او تعديل شروطه القاسية؛ غير أن الجنرال الفرنسي نهره بسخرية قائلاً: “سوريا لنا بالكامل، وقد اتفقنا على كل شيء مع الانكليز”. عاد جميل الالشي إلى دمشق صفر اليدين، وتولى وزارة الدفاع بعد استشهاد وزير الحربية يوسف العظمة في معركة ميسلون.

مرة أخرى حاول الالشي الاستفادة من ماسونيته فرفض سلخ الاقضية الاربعة عن سوريا (بعلبك، سهل البقاع، حاصبيا، راشيا) مهددا بالاستقالة مبررا بأن إعطاء هذه الأراضي الخصبة إلى دولة لبنان الكبير سيضر بمدينة دمشق، فأصر الفرنسيون وتجاهلوا كلياً نفوذه ورتبته الماسونية.

مرة أخرى، في نيسان/ابريل ١٩٣٥، عقد اجتماع مغلق للمحافل الدمشقية وقد خرج المجتمعون بتوصية يطالبون فيها بإنهاء الانتداب الفرنسي وتأسيس جيش وطني لسوريا وانضمامها إلى عصبة الامم، فكان الرد من التجاهل الي اغتيال الطبيب الماسوني الالمعي والخطيب المفوه والعلماني حتى العظم عبد الرحمن شهبندر عام ١٩٤٠.

اما الذروة، فتمثلت بالاصطفاف الماسوني الغربي عموما مع انشاء الدولة الصهيونية، فاتضح للماسونيين العرب انهم كانوا حصان طروادة في مجتمعاتهم، فابتعد رئيس الوزراء الماسوني جميل مردم بك عن الحياة السياسية، في قمة عطائه، وهو الذي كان يلقب بـ”ثعلب دمشق”، عام ١٩٤٨، (عام النكبة) بعد أن قامت المظاهرات المنددة والتي تتهم الحكومات العربية بالتواطؤ. مفصل ١٩٤٨ وما تلاه من موجات زلزالية قلب الطاولة وفتح الباب أمام مد قومي ومد ديني تنازعا حتى يومنا هذا قيادة العالم العربي.

وجد الإسلام السياسي، كما الماسونية من قبله، في الغرب السند والحليف، تماما كما حصل مع المجاهدين الذين انقضوا على الإتحاد السوفياتي في أفغانستان منذ ١٩٨٠ فلما انتهت المهمة وخرج السوفيات بدأت محاولة احتوائهم ولما فشلت بدأت مطاردتهم واتهامهم بالارهاب وصولا الى شن الحرب عليهم

اكتمل المشهد عندما حرّك الماسونيون مجموعة انقلابات على الحكومات الماسونية المدنية، بواسطة الثنائي الماسون العقيد أديب الشيشكلي والزعيم فوزي سلو.

إقرأ على موقع 180  إنه النظام.. أيها العبقري الغبي!

في مقابلة مع الاديبة كوليت خوري ابنة الرئيس فارس الخوري، علّلت عدم انتساب اخوها سهيل الخوري إلى الماسونية إلى نصيحة قدمها له والده الرئيس فارس الخوري الذي أوضح ان الصهيونية على ارتباط وثيق بالماسونية.

عام ١٩٦٤، طلب الرئيس جمال عبد الناصر من المحافل الماسونية المصرية الكشف عن محاضر جلساتها وكشوفات حساباتها فرفضت، فتم سحب تراخيصها وصولاً إلى إغلاقها.

عام ١٩٦٥، وبعدما انكشف أمر العميل إيليا كوهين في دمشق، سحب الرئيس أمين الحافظ تراخيص المحافل وتم إقفالها في سوريا. أما في لبنان، فقد رخص الرئيس صائب سلام للمحافل الماسونية عام ١٩٧٢، وبرغم ذلك، بقي الانتساب العلني إلى تلك المحافل خجولا حتى يومنا هذا، وبقيت أخبارهم محجوبة عن الإعلام اللبناني.

لقد حكم العروبيون سوريا من خلال الجيش وحزب البعث، ونافسهم في الخمسينيات الإسلاميون، ولو بدرجة أقل، ولكن منذ حركة الشيخ مروان حديد في حماه عام ١٩٦٤ بدأت الخصومة تترسخ، لتنفجر في حزيران/يونيو ١٩٧٩ مع المجزرة التي ارتكبها الإخواني النقيب ابراهيم يوسف في مدرسة المدفعية في حلب حيث قتل ٢٦ صف ضابط من تلاميذه. ولم تحسم الأمور الا في نيسان/ابريل ١٩٨٢، لتنفجر مجددا في مظاهرات شباط/فبراير ٢٠١١ واحداث درعا في آذار/مارس من العام نفسه، وهي مستمرة حتى يومنا هذا.

وغني عن الذكر أن هذا الإسلام السياسي، كما الماسونية من قبله، وجد في الغرب السند والحليف، تماما كما حصل مع المجاهدين الذين انقضوا على الإتحاد السوفياتي في أفغانستان منذ ١٩٨٠ فلما انتهت المهمة وخرج السوفيات بدأت محاولة احتوائهم ولما فشلت بدأت مطاردتهم واتهامهم بالارهاب وصولا الى شن الحرب عليهم وما زالت مع طالبان الأفغانية منذ ٢٠٠١، مرورا باغتيال القادة..

ومع غزو العراق عام ٢٠٠٣، تم حل الجيش العراقي وتفتيت السلطة المركزية بعنوان “إجتثاث البعث”. ولقد كان شهيرا ذلك التسجيل المتلفز لرئيس المخابرات المركزية الأميركية السابق جيمس ولسي في حزيران/يونيو ٢٠٠٦ وفيه يهدد قادة الدول المجاورة بـ”إسلام سوف ترتعدون منه”، وهو اسلام الزرقاوي والبغدادي والجولاني كما تبين في ما بعد. اسلام سنده الغرب ورعاه بالنفط والسلاح.

الهدف في الحالة الجهادية الإسلامية، كما في الحالة الماسونية في القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، هو تفتيت النظام السياسي والاجتماعي القائم.

لقد فهمها الماسونيون متأخرين وأقصوا، ويتعلم “المجاهدون” الدرس نفسه اليوم في سوريا وليبيا وغيرهما من الدول.

إنها الخيبة تجمع بين هذا المد وذاك المد.

الخلاصة: لا تستطيع أن تتخذ الغرب حليفا، وفي الوقت نفسه، تناضل من أجل حرية او استقلال او قوة أو مكانة إقليمية أو دولية.

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  "قانون قيصر".. وإحتمال التطبيع بين دمشق والرياض قريباً