بهدوء وحزم، نجحت حاكمة المصرف المركزي الروسي (بنك روسيا) في إبقاء الاقتصاد الروسي ثابتاً على قدميه برغم الضربات المتلاحقة التي أفرزتها التقلبات الاقتصادية المحلية والعالمية، والمنازلات السياسية التي جرّت أشد العقوبات الاقتصادية والمالية من الغرب، سواء الأوروبي أم الأميركي، والتي راحت تأخذ منحى تصاعدياً منذ الأزمة الاوكرانية وعودة شبه جزيرة القرم الى حضن “الوطن الأم”.
ابنة أوفا، في جمهورية تتارستان، والمنحدرة من أسرة سوفياتية متواضعة كان فيها الأب صاحبزاده سعيدزادايفيتش سائقاً والأم زليخة حمدنوروفنا عاملة في أحد المصانع، شقت طريقها بجدارة لتحتل أكثر المراكز حساسية في موسكو، العاصمة المليئة بصخب السياسة والمال والأعمال.
قد يبدو هذا التناقض الأسري والوظيفي طبيعياً، وإن كان في عالمنا الحاضر استثنائياً، إذا ما تشاركت فيه نابيولينا السيرة الذاتية مع كثيرين ارتقوا في مسيرتهم المهنية الى مراتب عليا في ميادين مختلفة.
ولكن هذا ليس التناقض الوحيد في مسيرة هذه المرأة الخمسينية، أو حتى في الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية المحيطة بها. منذ تخرجها من كلية الاقتصاد في “جامعة موسكو الحكومية” عام 1986، انخرطت في ميدان العمل في الحقبة الغورباتشوفية التي مهدت فيها البيريسترويكا والغلاسنوست للانهيار المدمر الذي لحق بالاتحاد السوفياتي، وأفرزت بالتالي كل الأحداث التي شهدتها روسيا منذ تلك الفترة، والتي ما زالت إرهاصاتها قائمة حتى اليوم.
ربما لم يكن سهلاً على نابيولينا العشرينية، التي كانت قد انضمت الى الحزب الشيوعي السوفياتي عام 1985، أن توائم بين كل ما حملته في مخزونها المعرفي في مرحلة الدراسة الجامعية، ولا سيما “نقد النظرية الرأسمالية الغربية”، وبين المتغيرات التي شهدتها روسيا منذ مطلع التسعينيات، ومن ابرز سماتها اجتياح الرأسمالية الغربية نفسها لبلاد السوفيات، وبالشكل الأكثر توحشاً في الحقبة اليلتسينية.
ولكن نابيولينا مضت قدماً في التكيف مع الوضع الجديد، فبعد حصولها على شهادة الدكتوراه عام 1990، عملت في اتحاد العلوم والصناعة في الاتحاد السوفياتي وخلَفه الاتحاد الروسي للصناعيين ورجال الأعمال، لتنتقل عام 1994 إلى وزارة الاقتصاد، حيث ارتقت إلى منصب نائب الوزير بحلول عام 1997.
عام 1998، غادرت نابيولينا وزارة الاقتصاد لتشغل منصب الرئيس التنفيذي في مصرف “برومتورغبنك” (مصرف “سفيازنوي” حالياً)، ومن ثم في مركز البحوث الاستراتيجية غير الحكومي الذي أسسه أول وزير للتنمية الاقتصادية والتجارة في عهد بوتين غيرمان غريف (وهو مركز الدراسات عينه الذي وضع مسودة البرنامج الاقتصادي لحملة بوتين الرئاسية للعام 2000، ومن ثم خطة “روسيا-2010).
ثمة سبب مقنع للقول إن نابيولينا أُعدّت منذ فترة طويلة للقيام بمهمة استثنائية في حقبة استثنائية
مع وصول فلاديمير بوتين الى الحكم، في العام 2000، عادت نابيولينا إلى وزارة التنمية الاقتصادية كنائب أول للوزير (2000-2003)، ثم رئيسة لمركز البحوث الاستراتيجية (2003-2005)، ومن ثم رئيسة لمجلس الخبراء في اللجنة المنظمة لدخول روسيا الاتحادية في مجموعة الثمانية (2005-2006)، لتتولى أثر ذلك الوزارة خلفاً لغريف بين عامي 2007 و2012 (سنة واحدة في ولاية بوتين الرئاسية الثانية، وأربع في ولاية دميتري ميدفيديف).
ومع بدء الولاية البوتينية الثالثة عام 2012، كانت نابيولينا واحدة من ست شخصيات حكومية رفيعة المستوى ترافق بوتين إلى إدارة الكرملين في منصب مساعدة الرئيس للشؤون الاقتصادية، قبل أن يرشحها في العام التالي لمنصب حاكمة المصرف المركزي الروسي، ويوافق الدوما على التعيين في 9 نيسان/ابريل عام 2013، لولاية من أربع سنوات (تم تجديدها عام 2017)، لتصبح بذلك المرأة الثانية التي تتولى هذا المنصب في روسيا بعد تاتيانا بارامونوفا، التي شغلته بالنيابة لفترة وجيزة عامي 1994 و1995، والأولى منذ انضمام روسيا إلى “مجموعة دول الثماني”.
انطلاقاً من سيرتها المهنية، ثمة سبب مقنع للقول إن نابيولينا أُعدّت منذ فترة طويلة للقيام بمهمة استثنائية في حقبة استثنائية.
تلخص مجلتا “فوربس” و”نيوزويك” الأمر على النحو التالي: حين وصل فلاديمير بوتين إلى الحكم عام 2000، أعلن انفصاله عن فوضى التسعينيات. ولكن عندما يتعلق الأمر بالاقتصاد “لم تكن لدى بوتين أفكار واضحة”، وفق ما يقول يفغيني ياسن، وزير الاقتصاد الروسي الأسبق (1994-1997)، وهكذا عهد الرئيس الروسي السياسة الاقتصادية إلى كادر من المهنيين من “ذوي الآراء الأرثوذكسية”، بما في ذلك السيدة نابيولينا.
هذا التحدي خاضته نابيولينا مبكراً، خلال توليها منصب وزيرة التنمية الاقتصادية، وهي الفترة التي تزامنت مع الأزمة الاقتصادية العالمية (2008-2009)، والتي تصفها هي على أنها “المرحلة الأكثر تأثيراً” في مقاربتها الاقتصادية التي توجتها “واحدة من أقوى النساء في العالم” على قائمة “فوربس”، و”أفضل مصرفية في أوروبا – 2017” وفق تصنيف مجلة “ذا بانكر”.
في الواقع، جاءت الازمة، وما رافقها من ركود عالمي وتراجع في أسعار النفط، لتكشف عن نقاط ضعف خطيرة في الاقتصاد الروسي، من بينها اعتماده على صناديق التحوط الأجنبية سريعة التحليق ومستثمري التجزئة، فعندما قام هؤلاء بسحب أموالهم، فقد المصرف المركزي الروسي أكثر من مائتي مليار دولار من احتياطيات النقد الأجنبي خلال أشهر قليلة، ما انعكس على تقلص الإقراض، وبالتالي انخفاض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة ثمانية في المئة.
بدا حينها أن روسيا في طريق العودة الى مرحلة التسعينيات، وراح اعداؤها يهللون للسقوط المدوي لهذا الاقتصاد الذي وصفه السيناتور جون ماكين بأنه “مجرّد محطة وقود ضخمة”.
سرعان ما اتضح أن هذه الآمال كانت أوهاماً، فقد احتوت روسيا الأزمة الخطيرة عبر تطبيق مجموعتين من الإصلاحات:
الأولى، تتمثل بتنويع مصادر التمويل، فبحلول العام 2013، فُتح الباب أمام شركتي المقاصة العالميتين “يوروكلير” و”كليرستريم” للتعامل مع بعض السندات الروسية. ما ساعد في جذب المستثمرين، وبالتالي تعزيز الاستثمار المحلي في روسيا كمصدر للتمويل المستقر، وارتفعت حصة الدين العام المحلي من إجمالي الدين العام من 66 إلى 70 في المئة خلال أشهر قليلة.
وأما الثانية، فتمثلت في زيادة احتياطيات روسيا بالعملات الأجنبية التي ارتفعت بين العامين 2009 و2013 بواقع 140 مليار دولار لتصل إلى أكثر من 500 مليار دولار (حوالي خمس الناتج المحلي الإجمالي)، وقد ساعد في ذلك ارتفاع سعر برميل النفط.
هذه الإجراءات عززتها نابيولينا منذ عام 2014، بحكم منصبها الجديد كحاكمة للمصرف المركزي، بخطوة جذرية هدفت الى الحفاظ على الاحتياطيات بالعملة الاجنبية في حال تهاوت أسعار النفط، وذلك من خلال تحرير سعر صرف الروبل.
عندما يغرق الروبل، لا داعي للذعر: إلفيرا حاضرة
هذه الخطوة كانت “مؤلمة”، بحسب ما اقرت نابيولينا، خصوصاً بعدما انخفض الروبل بنسبة 40 في المئة أمام الدولار في العام 2015، ما ادى الى تراجع القوة الشرائية للمواطنين الروس، ولكنها كانت “ضرورية”، وفق تعبيرها أيضاً، لمنع احتراق الاحتياطيات مرة اخرى.
ومن خلال هذا الإجراء تمكنت الحكومة الروسية من إنفاق 3 في المئة من الناتج المحلي على إعادة رسملة المصارف التي تدار بشكل جيد وتعويض المودعين الروس في البنوك السيئة.
في الوقت ذاته، شددت نابيولينا الرقابة على المصارف، بعدما “منحها الرئيس (كارت بلانش) لتطارد تلك المصارف التي كان لا يمكن المساس بها في وقت سابق”، وفق تعبير أوليغ فيوغين، النائب السابق لحاكم المصرف المركزي الروسي، وبذلك تم إلغاء حوالي 200 ترخيص مصرفي منذ عام 2014، أي ما يقرب من خمس المصارف الروسية.
كل هذه الاجراءات أثبتت نجاعتها، خلال السنوات الماضية، خصوصاً بعدما ساهمت في مقاربة نموذجية لثلاث صدمات تلقاها الاقتصاد الروسي في وقت واحد خلال العامين 2014 و2015، وهي العقوبات الدولية؛ انخفاض أسعار النفط؛ وهلع المستثمرين، وهي مقاربة وصفها رئيس الأبحاث في مجموعة “اشمور” البريطانية جان دن بأنها “كاتالوغ” لإدارة الأزمات، وجعلت نابيولينا أشبه بأبطال القصص الأسطورية على النحو الذي لخصته مجلة “فوربس” بعبارة: “عندما يغرق الروبل، لا داعي للذعر: إلفيرا حاضرة”.
(*) نشرت هذه المقالة للمرة الأولى في 25 نيسان/أبريل 2020