رغم التأكيدات المتكررة لوزارة الصحة السورية بأن البلاد خالية من فايروس كورونا، ما جعلها حتى الآن، بمثابة الاستثناء في محيط موبوء بالمرض، فإن ذلك لم يمنع الحكومة السورية من اتخاذ سلسلة من الإجراءات الوقائية التي لا تقلّ من حيث درجتها ونوعيتها عن نظيراتها التي اتخذتها بعض الدول القريبة والبعيدة التي ابتليت بانتشار الفيروس بين مواطنيها.
وقد انسحب إغلاقُ المدارس والجامعات الذي يفترض أن يستمر حتى الثاني من شهر نيسان/ابريل القادم، على المطاعم والمقاهي والنوادي الرياضية وجميع أماكن التجمع بما فيها صالات الأفراح والعزاء، وسط حملة دعائية منظمة في وسائل الإعلام الحكوميّة تحثّ المواطنين على الالتزام ببيوتهم وعدم الخروج إلا للضرورة القصوى.
وفيما حاز التحرّك الحكومي الاستباقي على ثناء شرائح واسعة من المواطنين وأعضاء مجلس الشعب، الذين عبّروا عن رغبتهم في أن يروا مثل هذا التحرك الفعال في قضايا أخرى تهم المواطن ومعيشته، ظلت هناك شرائح أخرى تنظر إلى الإجراءات الحكومية بكثير من الريب والشكوك لا سيما أن مبالغة الحكومة في إجراءاتها تدل من وجهة نظر هؤلاء على أن “خلوّ” البلاد من الفيروس ليس على هذه الدرجة من اليقين الذي تعبر عنه وزارة الصحة السورية.
ويلتقي المتفائلون والمتشائمون على حقيقة أنه حتى إذا كانت سوريا خالية حتى الآن من الفيروس فإن دخول البلاد في عصر كورونا ما هي إلا مسألة وقت قد تطول وقد تقصر لكنها في النهاية ستتحول إلى أمر واقع، وسط مخاوف جدية تدور حول مدى استعداد القطاع الصحي للتعامل مع هذا الوباء وسرعة انتشاره.
وما يزيد من هذه المخاوف هي حالة الحصار القاسية المفروضة على سوريا من قبل الولايات المتحدة والدول الغربية وعدد من الدول العربية والتي تمنعها من استيراد الكثير من الأدوية والمعدات الصحية والأدوات اللازمة لإجراء الاختبارات الصحية؛ وكذلك حقيقة أن القطاع الصحي بمستشفياته ومراكزه خلال تسع سنوات من التعامل مع تداعيات الحرب بات مستنفد القوى وغير قادر على فتح جبهة أخرى مع وباء جديد بحجم كورونا الذي لم تستطع حتى الدول المتقدمة أن تستوعب صدمته الأولى.
وفيما يبدو من الواضح أن الحكومة السورية تضع كل رهانها في سلة الإجراءات الوقائية التي من شأنها تأخير وصول الفيروس ما من شأنه أن يجنّبها وضع نفسها تحت اختباره القاسي، ثمة اعتقاد لا يمكن تجاهله بأن من شأن عوامل أخرى أن ترجح كفة الرهان على تعذّر إطالة هذا التأخير وعدم جدوى بناء السياسة الحكومية على أساسه.
وأهم هذه العوامل التي يمكن أن تسرّع في إنهاء “الاستثناء السوري” هي: أولاً، تفكك الجغرافيا السورية بين أربع مناطق مختلفة من حيث السيطرة والنفوذ. ففي حين تسيطر الحكومة السورية على القسم الأكبر من البلاد، هناك مناطق واقعة تحت سيطرة الاحتلال التركي مثل مناطق درع الفرات وغصن الزيتون ودرع السلام، وثمة مناطق أخرى خاضعة للاحتلال الأميركي كما في مناطق النفط في ديرالزور والحسكة، بالإضافة إلى الوضع الخاص الذي تمثله المناطق التي تسيطر عليها الجماعات المسلحة في محافظة إدلب وبعض أرياف حلب واللاذقية. لذلك فإن تأكيد الحكومة السورية على خلو البلاد من الفيروس لا يشمل بطبيعة الحال المناطق الخارجة عن سيطرتها والتي يجري تداول بعض المعلومات غير المؤكدة حول احتمال وصول فايروس كورونا إليها.
ويتعلق العامل الثاني بالجنسيات الأجنبية التي باتت بمثابة حقيقة لا مفر منها في المشهد السوري سواء بشقه الشرعي الذي يجري بعلم الحكومة السورية وموافقتها، أم بشقه اللاشرعي الذي بات يشبه الثقب الأسود الذي لا يمكن لأحد التكهن بطبيعته وتداعياته خصوصاً بعد تأكيد انتشار الوباء في تركيا التي تعتبر بمثابة العمق الاستراتيجي لهذا الثقب الخارج عن أي ضوابط صحية أو وقائية.
وثمة عامل ثالث، تصاعد الحديث عنه خلال الأيام القليلة الماضية، ويتعلق بظاهرة التهريب المنتشرة على الحدود السورية مع كل من لبنان والأردن بشكل خاص، إذ سادت تخوفات لها ما يبررها بأن لا تقتصر عمليات التهريب على نقل البضائع والمواد الاستهلاكية، بل أن تترافق ولو عن غير قصد مع نقل فيروس كورونا إلى داخل الأراضي السورية، وهو ما لا يمكن التحوط منه حتى إذا افترضنا أن المهربين يمكن أن يأخذوا ذلك بعين الاعتبار.
يكمن الاختلاف الذي تمثله الحالة السورية في أن فايروس كورونا قد لا تقتصر تداعياته على الجانب الصحي
ما سبق، دفع الانسان السوري الذي أنهكته الحرب المستمرة منذ تسع سنوات، إلى استنفار ما بقي من طاقاته ترقباً لمواجهة غامضة لكن مع عدو غير مرئي هذه المرة. ويكمن الاختلاف الذي تمثله الحالة السورية في أن فايروس كورونا قد لا تقتصر تداعياته على الجانب الصحي وحسب، بل يمكن أن تتعداه إلى الجانبين العسكري والسياسي، وبالتالي قد يجد السوريّ نفسه مضطراً لبحث خيارات لم تكن في حسبانه قبل أسابيع قليلة.
وعلاوة على التساؤل الجوهري الذي يشغل بال السوريين كأفراد وعائلات حول ما سيكون واقع الحال إذا انتشر فيروس كورونا بينهم، فثمة تساؤلات أخرى بدأت تجد طريقها إلى الآذان من قبيل ما هي الانعكاسات العامة التي يمكن أن تحدث نتيجة انتشار الوباء؟ ماذا عن معركة تحرير إدلب وكيف سيجري التعامل معها إذا ثبت أن المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة أصبح فيها عدو جديد قد لا يقل إرهابه عن إرهاب الجماعات المسلحة؟ وبالتالي هل يمكن أن يتحول كورونا إلى ذريعة طبيعية لإطالة عمر الإمارة الاسلامية في إدلب التي تقودها “جبهة النصرة”؟ ثم ماذا عن تأثير انتشار الفايروس على تنفيذ اتفاق موسكو لا سيما في ظل أنباء تتحدث عن إصابة عدد من الجنود الأتراك بهذا الفيروس، بعدوى انتقلت إليهم من مقاتلين في الجيش الوطني المدعوم من أنقرة؟ وهل سيتواصل تنفيذ الاتفاق بغض النظر عن التهديدات الصحية المستجدة أم سيضطر الأطراف إلى إيجاد صيغة مختلفة للتعامل مع الأمر لا سيما أن بند الدوريات المشتركة لم يجد طريقه إلى التنفيذ؟
وأخيراً، هل سيكون من قبيل المبالغة التفكير بأن يدفع فيروس كورونا الجماعات الارهابية إلى اجتراح عمليات انتحارية من نوع مختلف هذه المرة، وذلك من خلال إرسال انتحاريين مفخخين بإصابتهم بالفايروس لنقله إلى مناطق سيطرة خصومهم وأعدائهم؟
تساؤلات كثيرة قد لا تجد جواباً عليها قبل أن يقرر كورونا أن يحل ضيفاً على البلد الذي أنهكته استضافة الحرب على أراضيه لعقد من الزمن.