لم يكن يهذي. مُشوشٌ وقلقٌ ويكاد يكون عدمياً. عندما قرأته، خلته "ميرسو" في كتاب ألبير كامو. كان هذا قد قتل عربياً لسبب تافه، أو بلا سبب بالمرة وصار بطلاً. نحن نُقتل لسبب وجودي: نريد فلسطين وطناً.
لم يكن يهذي. مُشوشٌ وقلقٌ ويكاد يكون عدمياً. عندما قرأته، خلته "ميرسو" في كتاب ألبير كامو. كان هذا قد قتل عربياً لسبب تافه، أو بلا سبب بالمرة وصار بطلاً. نحن نُقتل لسبب وجودي: نريد فلسطين وطناً.
أمرٌ غير قابل للتفسير: فلسطين تنجب كل يوم دمها. تسكبه ارتواءً. لا تعطش أبداً. هي على موعد دائم ومزمن مع الولادات. في القارة العربية السائبة، مئات الملايين أموات يرزقون، تواجه أيامها بالانسحاب منها. تتسابق إلى السقوط في الهاوية، الممتدة من المحيط إلى الخليج.
ما زلتُ مؤمناً بعبقرية الدم. إنها مقاومة فريدة للأممية الصهيونية، والإرهاب المصان غربياً. فلسطين، أثبتت أن شمسها ليست غاربة. أنها لا تشبهنا، نحن الذين ابتلينا بالتنظير وتسطير الكلمات وادعاء الحتميات.
آلام من كل الجهات. يقتلوننا مرات كثيرة. دموعنا لا تكفينا. انما الذين ماتوا هم أحياء يُرزقون. فلسطين ما تزال تنفق من دمها. لكن هناك أمراً غريباً: برغم القتل والتقتيل، ما زالت غزة الصغرى تواجه وتقرع أبواب السماء بشهدائها.
من أين أبدأ النهاية؟ في أي عصر نحن؟ لماذا اكتب؟ كي يقرأني العميان؟ أم تعلقاً بأمل مضاءٍ بالدم؟
لم نصل بعد إلى النهاية. لدينا الكثير من البكاء. الدموع صامتة. الأحزان مؤجلة أو مكتومة. نحتفظ بالبكاء ونشهر غضباً ملجوماً. أرواحنا المثخنة بجراح الأطفال والنساء وكل الشهداء مرابطة في الذاكرة. ممنوع النسيان. مجرمٌ من يتناسى. فلسطين، جديرة بشهدائها وحريصة على أوجاعها. الجمرة بين ضلوعها: أمهات، أطفال، رجال، مقاتلون، ورجال.. ثم رجال، بعضهم يمضي وبعضهم يرفع دمه راية.
كلمات؟ ما نفع الكلمات؟ هذا زمن الدماء. هذا عصر تتنافس فيه الجثث على درب المقابر. هذا زمنٌ تُقتل فيه فلسطين ولا تموت. فلسطين ممنوعة، ولكنها مُصرّة على ولادتها في صخب القتل.
كنتُ أرتكب الأحلام: فلسطين وحدها لم تدفعني إلى اليأس. لا شعب أو كياناً، يضاهي الإنسان الفلسطيني، لم أتعلم مواقفي من الكتب. فلسطين كتابي وانتمائي. إنما، في مسلسل البكاء والأحزان والخسران، صرتُ طافحاً بالإنتماء إليها، في كل أحوالها وأهوالها وأحلامها. هذا نوعٌ من العذاب الضروري لعدم فقدان الأمل.
"السيف أصدق أنباءً من الكتب". فلنُخرس الكلمات. الثرثرة السياسية العربية تفاهة. التابوت العربي، من المحيط الى الخليج. الخيانات مُكلّلة بالاستسلام.
يلومني كثيرون. هم على حق. أصبحت يا نصري مثل البُوم. لا إشارة في ما تكتب إلى مستقبل قليل.. إلى بصيص حياة.