“الجنة السوفياتية” اغتالت الحرية ونحرت كارل ماركس. عمال العالم يتحسرون على فكرة ونضال وكفاح. كان يجب أن ينتج عن نضال العمال والفلاحين، منتجٌ آخر يولد من رحم المعاناة الطبقية والظلم الرأسمالي.. اليوم يُعاقب “معذبو الأرض” بسبب انتصار اليأس العمالي، وفراغ البرامج من انتصار صعب، أو مستحيل.. ما أبشع الإقامة في الفشل.
العقاب الذي أصاب الحركات الشيوعية، كان بسبب “بؤسنا” لا بسبب “عقائدنا”. ذبلت آمال. اندثرت أفكار. سُحقِت أحلام.. راهناً، يمشون على الطرب اللفظي، صياح الأمل في الشوارع والعواصم تحوَّل إلى مأتم صمت. لا أفق أمامنا. الانتحار بانتظار المعذَّبين. مليارات الحزانى في العالم، كانت موعودة، بأثمان العرق والتعب والنضال.
تحوَّلت الماركسية في “الدول الشيوعية”، إلى عقوبات تامة. وأُلزم الرأي العام الماركسي بأن يطيع. السلطة تُطاع بالقوة والعنف والتسلط.
الأفكار والعقائد والبرامج والنضالات لا تتحول إلى إنجازات، إلا في مناخ الحرية. كل مشروع فاقد للحرية يتحول إلى ديكتاتورية. لقد حكمت البروليتاريا بالرعب والقبضة الحديدية. تحوّلت الإقامة في دول “النعيم الشيوعي”، إلى مطاردة يومية، لكل من يُشِكُ به أنه سيقول في سره: لا. اللا ممنوعة.
وعندما انهار الاتحاد السوفياتي تحوّلت الأسطورة إلى قزم. عندها صدّحت حنجرة أميركا: الأمر لي وحدي. الرأسمالية عقيدة أقوى من الآلهة ومن أصحاب الأحلام الطوباوية. دفنت الدول الشيوعية. نسيناها. بعد ذلك، عادت الشعوب إلى وتيرة عذاباتها. شعوب تولد. شعوب تموت. جائحة الرأسمالية طحنت الوجود. اغتالت الإنسان. العالم البائس يعرف أنه سيموت. ويتساءل كيف؟ ومن سيقتلني؟ رغيف الخبز أم جفاف الآمال؟ الرأسمالية تحتضن عقيدة القتل “بأيادٍ بيضاء”.
هل العالم بحاجة إلى ماركس راهناً؟ طبعاً. لكن استدعاءه بات صعباً إن لم يكن مستحيلاً.
***
على الشيوعيين أن يعترضوا على ما جاء أعلاه. وهذا طبيعي. اغتيال الأحلام جريمة كبرى. حلم العدالة انتهى. حلم المساواة مات. حلم السلام؟ إنسَ. العالم يرتوي من دمائه. الرأسمالية غزت الأرض والفضاء وتراهن على السماء.
القومية، كي تفوز، يُفترض أن يكون الشعب حاملاً لها. القومية ليست شعاراً وعقائد وأقوالاً مأثورة. مفكرو القومية، السورية والعربية، جهدوا كي تكون المعركة خارج الشارع وخارج الثكنات. بناء الدول القومية يقوم على وعي وانتشار وإيمان وقيادة. قيادة لا تهدف إلى السيطرة والركوب على مقاعد السلطة
على الشيوعيين أن لا يُسيئوا فهمي. ليسوا هم أفضل من يسوع المسيح. أين هو؟ كيف حال المسيحية؟ ألم تصل إلى غاياتها الدنيوية؟ بلى. هي قوى “متناحرة” و”متناصرة”. تحضر السوق. تبيع وتشتري. المسيحية لا تشبه المسيح. المسيح حليف الفقراء والحزانى؛ حبيب الضعفاء والرحماء. “من مشى معك ميلاً، امشِ معه ميلين”. هناك غربة فادحة بين “يسوع ابن الإنسان” بلغة جبران خليل جبران، وبين “يا أولاد الأفاعي بيتي بيت صلاة يدعى وقد جعلتموه مأوى للصوص”.. هل تسمع السلطات الكنسية؟ كلها يعني كلها. المسيح تم طرده من المسيحية. المسيح ثروة روحية وثورة إنسانية. هو لم يعد كذلك. الرأسمالية هي البداية والنهاية.. ألا يسأل الفقراء عن المعابد والكنائس وذخائرها الذهبية؟
أتوقف كي أنجو. المسيح في مسيرته لا يشبه مسارات الكنائس أبداً. الدين المسيحي تحول إلى أحزاب وعقارات ومؤسسات فاخرة.. المسيح في القداس الإلهي يتقدم من المؤمنين بعد جملة رائعة: “خذوا كلوا هذا هو جسدي”.
قديماً، كان الفكر إلهاً. كان الإيمان التزاماً، ثم إنساناً. هو الآن تجارة وظلم ورعاع ولصوص.. أما المؤمنون فما زالوا ينتسبون إلى يسوع. وصيته الخالدة: “لا تعبدوا ربين: الله والمال”. الأقوياء عبدوا المال واستعبدوا المؤمنين بترهات المعجزات. قليل من التشابه: “هيرودس قتل الأطفال.. الرأسمالية طحنت الوجود”.
هل الكنائس ثرية: لا جواب
هل المؤسسات الدينية الإسلامية: لا جواب.
من سحنة وجوههم تعرفونهم.
***
وداعاً للقيم والأخلاق والآيات والسير. المقدس الوحيد هو المال. العالم راهناً مصاب بقفزات المجتمع الرأسمالي. استبدال السيطرة والقهر بالحرية الاجتماعية هدف لا يتحقق، حتى برأي ماركس، إلا حين يتولى المنتجون المباشرون مصائرهم بأيديهم. حرام. سراب في صحراء. عندما تسلمت السلطات الشيوعية السلطة، حوّلت الإنسان إلى حيوانات اختبار سرية. لم تعد الماركسية أمامهم. إنها خلفهم.. المسيحية الراهنة المنتشرة، تقليد بدائي. هي ليست خياراً. هي انتماء بيولوجي. تصدق ما جاء، وقد لا تمارس إيمانها.
هل انتهى زمن القوميات؟ أم أن الزمن الأممي كله، بات يعرف، أن الحق مع الأقوياء. فقط الأقوياء. صيغة الوجود الراهنة، هي صيغة دموية دائمة. القرن العشرون لم يعرف عاماً واحداً بلا حروب. معظمها تخوضه دول الطغيان الرأسمالي.. القومية التامة، تعثرت خارج العالم الغربي. حتى دول الغرب، صارت قومياتها مقيدة باتفاقات وتنازلات. الدولة القومية في الغرب، خسرت كثيراً، وبات المدافعون عنها يُنعتُون باللاسامية والتعصب إلخ.. أوروبا خاضت قومياتها حروباً كونية. طمنت العالم. عدد القتلى في الحروب، تخطى المليار إنسان. الدول القومية، تؤمن بالقوة، لأن الكرة الأرضية تحمل في “جيناتها” العقدية، وصفاً صحيحاً للعالم: “العالم غابة موحشة. مسكونة بوحوش”. عليها أن تجهز نفسها للحرب. الحرب عقيدة راسخة. الأولوية للقوة. “إذا لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب”. لا رحمة في الدول القوية. الولايات المتحدة العظمى، تنفق على الحروب، (لأنها مجزية رأسمالياً). حروبها وحروب الآخرين. ما ينعش الاقتصاد الأميركي والغربي أن لا قيمة للدماء. الدولار إله، وهو الأب والابن والروح القدس..
هي دول خالية من القيم والأخلاق والإنسانية. أميركا خلاّقة ومدمرة. هي مدمِّر خلاق – يدمر كي يخلق حقائق جديدة. الرأسمالية لا تستهدف الخير للعالم.
***
من ينظر إلى الخارطة السورية الكبرى، يجد أنه أمام ركام. تحته ركام، وأمامه عدم. سوريا مطحونة. العراق كذلك. الأردن وارث ومُورّث. لبنان ضرب الرقم القياسي في حروبه الإلغائية. فلسطين محظية “الصهيونية”
القومية في المدى العربي، من المحيط إلى الخليج، باتت تدلنا على فقدانها “المعركة”. لقد دمّرت القومية العربية دولها، بكل الإجرام السياسي. لم يتح لجيلنا أن يحيا، ولو لسنوات، قومية ممكنة. الوحدة بين مصر وسوريا: الله يرحمها. ماتت وهي مرضعة. بعد ثلاث سنوات، لا أكثر.
القومية، كالماركسية، فشلت في المدى العربي. لا الأمة السورية اقتربت من هذا الهدف، ولا دول النفط، ولا..
سرت مقولة في ذلك الزمن: “أنا أفكر إذن أنا موجود”، سرعان ما استبدلت: “أنا قومي إذاً الأمة مستحيلة”، والأدلة كثيرة. بعد مائة عام من إعلان الغرب عن سياساته، والعرب تواقون إلى الوحدة، وخاصة الوحدة بين الدول المناضلة. عبث. ما أن وصل الاستعمار، حتى تنافس “القوميون” وتقاتلوا واستبدوا. القوميات العسكرية “فالصو”. جمال عبد الناصر القوي، عملاق القومية العربية، لم تصمد جيوشه في العام 1967 إلا ثلاثة أيام. خسر سيناء. خسرنا الأردن. خسرنا الضفة. (الفلسطينيون خسروا كل فلسطين) وسوريا خسرت الجولان.
القومية، كي تفوز، يُفترض أن يكون الشعب حاملاً لها. القومية ليست شعاراً وعقائد وأقوالاً مأثورة. مفكرو القومية، السورية والعربية، جهدوا كي تكون المعركة خارج الشارع وخارج الثكنات. بناء الدول القومية يقوم على وعي وانتشار وإيمان وقيادة. قيادة لا تهدف إلى السيطرة والركوب على مقاعد السلطة.. القوميون، قتلوا القومية، العربية أو السورية، بأيديهم. فشلوا. 75 عاماً من التراكم اللفظي والعجز التام. قومية لفظية.. القوى الدينية، ليست كذلك. لذلك فازت، وأدخلت الأمة في صراعات طائفية ومذهبية.
***
من ينظر إلى الخارطة السورية الكبرى، يجد أنه أمام ركام. تحته ركام، وأمامه عدم. سوريا مطحونة. العراق كذلك. الأردن وارث ومُورّث. لبنان ضرب الرقم القياسي في حروبه الإلغائية. فلسطين محظية “الصهيونية”.
هل من أمل؟ مستحيل ثم مستحيل. البرهان، قرن من السقوط، والآتي أعظم.
ليس صحيحاً ما يقال: “الزمن وحده يقهر الزمن”. إنما، تشكل الوعي التاريخي، وقراءة الواقع، والالتزام بالأهداف، هو الذي يصون الصراع.
غريب: العالم راهناً، يتوحد فضائياً. نحن شركاء ومستهلكون. إنما الدولة والوطن في خبر كان.
لا حاجة لنا إلى قيادات داخلية. سنحكم من الفضاء، بكسبة زر، لا أكثر.
أنهي هذه الأوراق بما يلي:
“لجامنا أبيض من اللعاب. نحن نمضغ الأحلام. نداءاتنا تمزق حناجرنا ولا تصل. يمر القادة تلو القادة والساسة تلو الساسة ورجال الدين والمرابون والمعارضون والمقاولون. وهم يتطلعون إلى لحومنا المكشوفة في الساحات العامة.. لدينا طغاة أشقاء للغزاة”.
نداء. نداء. نداء. “من عنده أمل، فليسكت”. “ما لِجُرحٍ بِمَيِّتٍ إيلامُ”. حصتنا الدموع. تُستثنى فلسطين وغزة، مما جاء أعلاه.