إقرأ باسم ربكَ.. أو شعبكَ

"إن لم تكن ذئباً، أكلتك الذئاب"... هذه فاتحة كل العصور. التوحش صفة ملازمة للإنسانية في مساراتها كافة، حتى بلغنا الراهن من الزمن. الفوضى، هي النظام السائد في العالم.

تسير التقنيات وفق مسارات دقيقة. الإنسان كَلّف نفسه بمهمة همجية واعتبار الوجود حالة ما بين الغباء والعبث. الطريق إلى الجحيم الإنساني سالكة. إلا أنه على الإنسان أن يطمئن قليلاً: “إطمئنوا للجحيم، فإنه يتسعُ للجميع، والأمر لا يستحقُ كلَ هذه المنافسة الشرسة على من سيكون الأسوأ فيكم”، كما يقول الأديب والروائي الروسي فيودور دوستويفسكي.

سُئل الروائي الإيطالي أمبرتو إيكو: “هل أنت مؤمن بالله؟ قال: لم لا. إن لم أكن مؤمناً، فسأسعى إلى بديل عنه، وأغلب الظن أنه سيكون مثله”. الآلهة تشبه بعضها قليلاً أو كثيراً. إلا الإنسان، فهو لا يشبه إلا ذاته. وتاريخه شاهد على ذلك. هو ابن الخطيئة، وراعي الخطيئة والمحافظ على شراكتها.

أين الملائكة إذاً؟

احذف هذا السؤال.

ما مصير الإنسان إذاً؟

لا تسأل. الخطيئة الأصلية متمادية. لا تنشغل كثيراً بالإصلاح.

 نبّش دائماً عن النجاة. إن أكلاف الحقيقة والأخلاق دامية.

هل على الإنسان أن يتجرد من الأخلاق؟

أبداً. إنما عليه أن لا يُفاجأ بجحيم الخسائر. كل أبطال هذا التاريخ، منذ بداياته حتى الغد الآتي، هم مجرمون.

لم هذا الكلام الآن؟

كي يتواضع الأبرياء جداً، وينزلوا عن سقف التفاؤل. المسيح نصح تلاميذه بما يلي: “احمل صليبك واتبعني”. صح. الصواب وهم. العدالة ظلم. الحقائق لها أجنحة. رجاءً، أطلقوا عليها الرصاص.

أما بعد؛

لم أبتعد عن الواقع أبداً. ما كتبته هو نتاج وضع العالم راهناً ومأساة غزة ومن على شاكلتها من أبرياء.

عدتُ إلى الأصل. إلى ما قبل اللغة. إلى ما قبل الأخلاق. إلى ما قبل القيم. كل ذلك، كي أصل إلى ما يلي: “إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب”، أو “القوة هي القول الفصل في إثبات الحق أو إنكاره”. إذاً، فلنخرج من اليوتوبيا إلى الواقع البشري راهناً. وبمقارنة بسيطة سنصل إلى أن التاريخ كتبه الطغاة، وأن الواقع تمليه القوى الأقوى.

إذاً، علينا أن نتحسس مواقع أقدامنا. أن نكف عن لعنة المثاليات وطفولية القيم وزعبرة العدالة وتهتك القوانين وإلى آخر منظومات الأخلاق والمعايير ذات “الاحترام” الراسي على مقولة: “الحق مع الأقوى”.

غزة، ومن مثلها من قبل، عرّت النظام العالمي الراهن. خلعت عنه ما كان يسميه “القيم”.

خلص..

والله خلص.. علينا أن نتأمل ونتقن قراءة الواقع الراهن، عالمياً وعربياً. هكذا قراءة سريعة تُظهر لنا ما يلي: قل وداعاً؛ النظام العالمي؟ حارسُ الفوضى والعبث والسيطرة والظلم والاعتداء ومكافأة الإجرام. خلص. ومجلس الأمن؟ كفى كذباً. وحقوق الإنسان؟ انتهاك مستدام. العدالة؟ كفْ عن هذا الدجل. “الظلم مرتعه جميل”. القيم الإنسانية؟ تصلح لمواكبة الجنازات الإنسانية. الأديان والمذاهب والطوائف و.. و؟ إنسَ. الله لا يعترف بها. إنها سكة بشرية تدار بواسطة أزرار مذهبة. المؤسسات الدينية الرعائية؟ لا خجل. انها تتقن فن الإلقاء والإلغاء والاصطفاء والانحياز. المحاكم؟ تتجنب المسائل والقضايا الدسمة. تحتكر الأحكام وتهديها للضعفاء ومعذبي الأرض ومجرمي المناسبات اليومية.

خلص.

قيمة المقاومة، أنها تحصّنت بقداسة الدم، وصدق الهدف، واحتضان المعاناة. قيمة طوفان الأقصى، أنّه هزّ الأرض كلها، من تحت أقدام الطغاة. لم يقيسوك “بحماسك” ومذهبك. قاسوا قامتك الإنسانية. بنبل النضال من أجل الحرية. من أجل الإنسان، من أجل العدالة

دلَّت الحرب الكونية، قولاً وفعلاً، على غزة العظمى، برغم ضآلة مساحتها، أنها عاجزة عن الإملاء والحذف. الدول الرأسمالية الإمبريالية الاستبدادية، الديموقراطية، اجتمعت كلها لإلغاء غزة من الوجود، فماذا كانت النتيجة؟

في متابعة لحلقات الإفلاس الأخلاقي والإنساني، نرى أن الأنظمة السياسية لا تشبه شعوبها. السلطات المتحكمة بديموقراطية تالفة أخلاقياً، مزدهرة نفاقاً وغارقة في روث الأخلاق. أظهرت أنها عارية بالكامل من الحد الأدنى لتغطية عورتها الإنسانية.

طبعاً، لا أظن أن الكلام على السلطات العربية من المحيط إلى الخليج سيكون لائقاً. ومن المعيب جداً أن نستفرد بها وننشر قذاراتها وكلامها وحركاتها. لا حاجة إلى ذلك. فهي ذات تراث في القمع والتسلط والاقتناص ورفاهية الإقامة الدائمة، بعيداً جداً عن شعوبها، أو بشكل مفضوح: راكبة على ظهور شعوبها.. هي كيانات لا تؤمن بالإنسان ولا بالأديان. نقطة على السطر.

المشكلة هي في النظام العالمي. الأدوار والسياسات التي رست عليها الدول العظمى، الأنيقة، الممتعة، الخيالية، المتميزة بجمالية الكلمات، وسهولة التسلل إلى حميميات الشعوب الملتاعة من فقدان نصيبها من فوائض وفوائد هذا العالم.. شعوبٌ انتزعت منها الدول الأنيقة كل قدرة على العمل والفعل والنجاح. “حجة الأقوى هي الفضلى”. بقوة الدول الغربية وشقيقاتها وخدّامها، قضت على كل إمكانية لتخفيف أعباء الفقر والمرض والجفاف.. ولتحقيق اقتصاد ينمو ويعدل بين فئاته.. طاعون الغرب والشرق وما بينهما، الرأسمالي، قضى على الطبقة الوسطى، وباع الفقراء والمعدمين لعزرائيل.. إلى آخره. الدول الأنيقة جداً، والفخمة جداً، ليست في الحقيقة، إلا سوق دعارة وسمسرة على المستوى العالمي. تُتقن فن تجميل العنف ورعايته وحراسة السرقة وتناميها، واستعباد وإبادة الشعوب و.. يا إلهي ليس من شيطان يقوى على رأس المال، بل ليس من إله يقوى، مهما بلغت قوته، على ليّ إصبع كف واحد، لقبضيات الأسواق المالية في العالم.

إقرأ على موقع 180  الطائف الجديد.. هل يُؤكل هذا الطبقُ بارداً؟

لذا، احذفوا كلمة الاستقلال. لأن البديل بات أقوى وساري المفعول: الاستقلال، غين وليس قاف.

نعود إلى غزة.

من معكِ يا غزة؟

أنتِ لستِ وحدك أبداً.. عصابات الدول الأقوى والدول التابعة والملحقة، لم تقوَ على أكثرية شعوبها.

لقد أيقظت يا غزة، العزة الإنسانية. شعبٌ غزيرٌ في أميركا يحتضنك. كتّابٌ ومفكرون ومثقفون وقانونيون وطلاب وأبناء الشعب وأصدقاء الأخلاق، خرقوا الصمت، وهتفوا بحياة غزة وما يزالون.

كذلك في فرنسا. بريطانيا. اسبانيا. في كل مدينة غربية جنوب افريقيا تبنتك. أصلها من نلسون مانديلا وشعبه. الشعوب العربية، مكبلة، ولكنها معك. أطلت برؤوسها وداست بأقدامها، قوانين منع التظاهر. من المغرب إلى الأردن.. وسواهما.. ولا تلومي شعوباً عربية مُنعت وخافت.

قيمة المقاومة، أنها تحصّنت بقداسة الدم، وصدق الهدف، واحتضان المعاناة.

قيمة طوفان الأقصى، أنّه هزّ الأرض كلها، من تحت أقدام الطغاة. لم يقيسوك “بحماسك” ومذهبك. قاسوا قامتك الإنسانية. بنبل النضال من أجل الحرية. من أجل الإنسان، من أجل العدالة.

يا غزة: شطرتِ العالم نصفين. نصفٌ معكِ ولكِ ومثلكِ، وقسمٌ بذيءٌ جداً، وقف ضدك بشراسة. عوّم “إسرائيل” بالدعم والمال والسلاح. بارك الارتكابات الفاحشة. تغاضى عن المجاعة. تآخى مع الظلم.

غزة، نجمةُ كل صباح. دمُ كل حياة. آيةٌ تصدح: “حيّ على الوطن والحرية والإنسانية”.

نعود إلى السؤال:

هل أنت مؤمن بالله.

هل أنت مؤمن بالإنسان.

وعليه؛ اقرأ باسم ربك.

Print Friendly, PDF & Email
نصري الصايغ

مثقف وكاتب لبناني

Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  يا مواطني العالم.. لا تُفرِّطوا بالسعادة!