غزة، ليست أي أرض. فلسطين ليست أي مكان. كسبا معاً صبراً إعجازياً.
إنما، ليس بقدرة الإنسان أن يحتمل دموعاً تنزف ألماً على مدار أعوام. المشاهد تُفصح عن مجزرة تلد مجازر. قراصنة يهوه، براً وبحراً وسماء، قرّروا أن تكون الحياة مستحيلة.
لا مفر من الدموع. صمت واختناق. فظائع غير متداولة. الفلسطيني أمامه موت. خلفه موت. بعده موت. بلغ الإجرام حداً غير مسبوق. أعداد القتلى تتفوق على خريطة التدمير. غير معروف كيف يمكن لبشرية أن لا تنحاز إلى الإنسان. الشعوب عموماً، ما عدا استثناءات قليلة، انخرطت في غضب غير مسبوق. مساحات شاسعة من الأرض تبنت الصُراخ والصُداح، ضد قتلة العصور السالفة والعصور السارية.
النوم مستحيل، “خذ معك دمعك. أنت بحاجة إليه”، خصوصاً عندما تجد أطفالاً يمتهنون دفن أهاليهم. بكاؤهم أخف وجعاً من جوعهم. يقال عن هذه الحالات: ينفطر القلب. عبارة قاصرة. إنه الجنون. إنه السفك. إنه البرنامج. إنه الإعدام الجماعي. إنه معنى أن لا تسأل عن الإدانات، أن لا تخشى مظاهرات الشعوب. نحن الأقوى: نحن ولا أحد. لا خيار “بيننا وبينهم”. “هم” لا وجود لهم في هذه الأرض.
يتساءل المحايدون: متى يستسلم الشهداء؟ سؤالهم غبي، فالشهداء عند شعبهم يرزقون. شعبٌ متجذرٌ في التاريخ، منذ ما قبل التاريخ.
العرب يكرهون الأحلام. يشهدون على انقراض الدين. تعلموا الحساب. آمنوا بالمال. والمال معبود. حوّلوا أدمغتهم إلى سوق صيرفة. كل شيء قابل للبيع والشراء. إفلاس تام للقيم والأخلاق. أما الحرية، المساواة، العدالة والأوطان، فهي مجرد سخافات لا قيمة رقمية لها. الأرقام مقدسة
من حقنا أن نسأل دموعنا: كيف لا نبكي؟ موت وقتل يتداولان الأيام والليالي. المستقبل بات ماضياً. المستقبل يتفرج على المجزرة. العالم المتحضر جداً يعلن: “الدفاع عن النفس جريمة”. فلسطين ليست وطناً. لا وجود لها. نحن جئنا من كل الأزمنة. هذه إسرائيل. “الله معنا”. ومن لا يُصدق فلينطح الصخر.
إزاء هذا الاغتصاب اليومي والمزمن، الموت يُتداول. المشهد غريب جداً. موت بلا جنازات. المقابر أعلنت إفلاسها. لا طاقة لها على استقبال أبناء الدماء. هم لا يريدون قتل الفلسطيني فقط. يريدون دفن فلسطين إلى أبد الآبدين.
كان يُعوَّل على ثأر الجنازات. عبث. وداع الشهداء مختصر جداً. أحياناً لا داعي لذلك. يصفون الشهداء في الأقنية، في الفلوات، في لا مكان، لا إقامة. هكذا، تتحول غزة إلى مقبرة، لكن هناك إيمان، بأن القيامة الفلسطينية قادمة لا محالة. هذا شعب مظلوم، مضطهد، مقتول، منفي، ممنوع، ولكن فلسطين لا تشيخ. هي تولد دائماً. القتل لا يُهدّدها بالانقراض. ثم إن الفلسطيني لن ينتحر. كل ما يريده أن “يخرجوا من أرضنا. أرضنا لنا. الآن وفي كل أوان”. وفلسطين لا تشيخ أبداً. والفلسطيني لن ينقرض. وليس مطلوباً قتل الفلسطيني فقط، بل قتل فلسطين للمرة الأخيرة.
لن يخرج الفلسطيني من فلسطين. وإن أُخرِج، سيعود إليها ولو بعد مئة عام.
لا تسأل عن العرب. عيب. السؤال تافه وسخيف جداً. أقفل الكلام. إنس. إنهم مطمئنون أن القتل يقوم بواجبه على ما يرام. إنهم شهود على بربرية حديثة. يقتلون الأحلام. يُطاردون الكوفية. جبناء. يخافون من قطعة قماش صغيرة. معهم حق. إنها ليست قطعة قماش. إنها الضمير. والضمائر لا تُقتل. تُطارَد فقط.
إذاً، عن العرب لا تسأل. لا تكن غبياً. احمل صمتك وارحل. العرب يكرهون الأحلام. يشهدون على انقراض الدين. تعلموا الحساب. آمنوا بالمال. والمال معبود. حوّلوا أدمغتهم إلى سوق صيرفة. كل شيء قابل للبيع والشراء. إفلاس تام للقيم والأخلاق. أما الحرية، المساواة، العدالة والأوطان، فهي مجرد سخافات لا قيمة رقمية لها. الأرقام مقدسة.
لن يقول الفلسطيني وداعاً. الظلم مسار لا إنساني، في هذه الإنسانية المعتقلة. الظلم عقيدة رائجة. غرب “حقوق الإنسان” ابن ألف قحبة. عقيدته: الربح والإذلال والنهب والاغتصاب. غرب مزمن في الارتكاب. تصوَّروا، أنهم عيّنوا أنفسهم وكلاء على العالم. كل العالم. احتلوا “القارة الصينية وفتكوا بها أفيوناً”. احتلوا الهند الكبرى. أذلوها. سرقوها. تحكموا بها. اسألوا غاندي. يا إلهي! هذه دول شيطانية، لا علاقة لهم بالمسيح أبداً. صلواتهم تبدأ بـ”إذا لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب”. فرنسا اجتاحت الجزائر. ملايين الشهداء. هذه دولة الحرية والمساواة والعدالة، ارتكبت شناعات، ثم حاضرت في العفة والعفاف. ومعروف قولاً ومثلاً، أن القحباء أبلغ من يحاضر بالعفاف. احتلوا الشرق مع بريطانيا. استعملوا السكين. مزقوا العالم العربي تمزيقاً. ألزموه بالركوع. ثمن تحرير المستعمرات هو البقاء بتحالف مع الدول المجرمة. غرب مرتكب. حربان عالميتان مدمرتان. قنابل ذرية. عسكرة الأراضي. احتلال المضائق. عسكرة الفضاء. يأمرون الله ويطيعهم. نحن الكفرة، وهكذا، تم تحويل الأرض إلى مسلخ بشري. الأمل كذبة. الحرية رجس فاجتنبوها وإلا..
هذا عالم مطوَّب للرعب ورأس المال.
بعد تدمير العقل ومنع استقلاليته، تحوَّلت الأخلاق والقيم وجمالات الإنسان، إلى “شقفة ورق”. حياتنا كلها من ورق. ولذلك، نحن بصدد موت. المستقبل ليس موجوداً أبداً. الماضي جحيم والآتي مسلخ بشري.
فلسطين، في هذه القارة العربية، تلقن العالم درساً. فلسطين الصغرى أكبر من “الأمة العربية”، وأكبر من دول الصمت العربي، وأكبر من ترسانات العسكر والمال. الفلسطيني لن يخرج من هذه الدنيا. ليس عند ربه ميتاً يرزق. يقول: نحن هنا. الـ هُنَا لنا. موتنا يولّد حياة.
إنما، هناك ألم راسخ. لسنا حجارة أبداً. دموعنا تعبيرٌ راقٍ عن أوجاع. اصطفاف إنساني إلى جانب أمهات لم تودعن أولادهن. شهداء ارتقوا بدمائهم، إلى جانب أطفال انشغلت السماء بترتيب نعيمهم، بعد فواجع جراحهم ودموع أمهاتهم.
لن يطرق اليأس باب غزة. الأوجاع مرعبة. القتل حاضر، ليلاً نهاراً. على مدى أشهر. الغد يتأخر دائماً.
ماذا نقول أيضاً:
“صداقة الموت انتصار للحياة”.
إننا ننتمي إلى جلجلتكم. القيامة ليست مستحيلة.
سُئل زوربا الإغريقي، لماذا ترقص عندما تكون متألماً؟ أجاب: إني ألبط الأرض بقدمي لأقول لها، إني هنا.
الفلسطيني عن سلالة زوربا: نحن هنا ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.