إقتصاد الصين: نقاط الضعف والقوة (1/ 4)

إن الأرقام التي تدور حول انجازات الصين مذهلة وتسبب نوعاً من الصداع. عدد السكان، يليها تعداد الانجازات الصناعية والاقتصادية، ثم بعد ذلك يأتي التحدي الذي تشكله الصين للولايات المتحدة. هذا الذهول والإعجاب ليس منحصراً فقط في العالم العربي والعالم الثالث حيث "كانت الصين" قبل أن يرتفع نجمها في سماء الإعلام، بل يطال أوروبا وأميركا أيضاً. نقول الإعلام لأن الميديا ساهمت بشكل مباشر في صقل صورة الصين وتلميع انجازاتها الاقتصادية. وقد ساهم الاسم السحري "طريق الحرير" الذي أطلق على مشروع الصين للوصول إلى أسواق العالم، في إضفاء بعد خيالي على هذا الواقع الإعلامي.

معجزة الصين – مصنع في خدمة العالم

منذ تسعينيات القرن الماضي، استفادت الصين من هجرة المصانع الأوروبية بتقديمها يداً عاملة رخيصة ولكن ذات مستوى جيد (وهو نتيجة النظام التربوي الذي اسس له الحكم الشيوعي). لم يكتف صناعيو الصين بتصنيع ما تطلبه رساميل الغرب، بل نقلوا وقلدوا (إن لم نقل سرقوا) أسرار التصنيع والانجازات الصناعية الغربية واستحوذوا عليها لكي يصدروها بأسعار تنافس السلع الأصلية. وقد دعمت الحكومة الصينية هذا التوجه تحت شعار “تعويض العالم الثالث عما أصابه من تفرد الغرب بالثروات على مر التاريخ”.

ومع انتقال التصنيع في الصين من مرتبة السلع البدائية (ملبوسات وأدوات منزلية ومفروشات إلخ…) إلى مرتبة تصنيع الإلكترونيات والمعدات الرقمية (تلفزيونات وهواتف ذكية وكومبيوترات)، بدأت المصانع الصينية تفرض الحصول على براءات حرة لتصنيع هذه المعدات، وأفضل مثال تصنيع “آيفون” و”هواوي”.

ومع انتساب الصين في العام 2001، إلى منظمة التجارة العالمية (WTO)، فتحت أبواب العالم أمام الصين، فبدأت تغزو الأسواق بالسلع والمشاريع، إذ أن تلك المنظمة شكّلت منصة انطلاق العولمة، أي فتح الأسواق أمام المنتسبين إليها.

النمو في السنوات الذهبية

 سمح ذلك للصين بالنمو بسرعة، فقفز الناتج الإجمالي المحلي (GDP) من 917 مليار دولار إلى 12131 مليار، أي بزيادة قدرها 1222 في المئة خلال 20 سنة فقط. أما الناتج القومي للفرد (PCI)، فقد ارتفع بنسبة 1084 في المئة من 713 دولاراً إلى 8443 خلال الفترة نفسها.

ولكن هذه الأرقام تحمل وجهين: الأول، إيجابي وهو ما تنقله الميديا غير المتخصصة والذي يبرز الصين كثاني قوة اقتصادية في العالم من بعد الولايات المتحدة، وهذا صحيح من ناحية الأرقام “الباردة”. الوجه الثاني، سلبي، وهو ما نصل إليه إذا ما دققنا في الأرقام الآتية:

الناتج المحلي للولايات المتحدة يبلغ 19280 مليار دولار فيما عدد السكان هو فقط 325 مليون نسمة. في المقابل، فإن عدد السكان في الصين يزيد عن 1400 مليون نسمة. وتجدر الإشارة إلى أن الصين أزاحت اليابان من المركز الثاني اقتصادياً من ناحية الناتج الإجمالي المحلي (4872 مليار دولار) إلا أن عدد سكان اليابان يبلغ 128 مليون نسمة يتمتع الفرد منهم بمعدل 34500 دولار سنوياً. من هنا، فإن الأرقام التي تسجلها البيانات الاقتصادية لا تعكس “نمواً عاماً” لشعوب الصين.

الوضع المتراجع على مشارف 2019

ثمة عوامل خمسة تشكل منطلق تراجع وضعية الصين كقوة اقتصادية مهيمنة، من دون أن ينفي ذلك أنها قوة اقتصادية ولكن محملة بعلامات استفهام عديدة.

أولاً، يصيب الصين ما أصاب دول صاعدة قبلها (اليابان وتايوان وكوريا إلخ… إلى جانب الغرب بشكل عام)، ذلك ان المصانع الصينية بدأت تنقل انتاجها إلى دول تعتبر كلفة اليد العاملة فيها أرخص من الصين نفسها (أندونيسيا وماليزيا وفيتنام والفيلبين وأثيوبيا).

ثانياً، لم تلتزم الصين بمتطلبات منظمة التجارة العالمية ولا طبقت شروط العولمة في أسواقها. فهي تدخل كل الأسواق بينما تمنع السلع المصنعة في الخارج من دخول أسواقها أو تضع عوائق جمركية مباشرة (رسوم) وغير مباشرة (شروط خاصة إلى جانب اللغة الصينية الإجبارية). ولكن ما يؤجج خلافها مع الدول المتقدمة هو منع “الخدمات” (مصارف وشركات تأمين وشركات استشارية)، وهي الأبواب التي تستطيع تحصيل “الكاش” من الأسواق الصينية. وهذه الظروف كانت مقبولة عندما كانت الصين “تبني” اقتصادها (مثل الدول النامية)، ولكنها باتت مرفوضة اليوم. أضف إلى ذلك نزاعها مع الدول الغربية ليس فقط بسبب العوائق الجمركية وعدم فتح أسواقها ولكن بسبب تلاعبها بقيمة عملتها بالمقارنة مع باقي العملات الحرة. البنوك الصينية تفتح فروعاً أصلية في الدول الأوروبية مع “إمكانية شباك”، أي تحصيل الأموال والمدخرات وبيع بوالص التأمين. والصين استحوذت على الكثير من الشركات المهمة في الغرب (Volvo Cars , Pirelli, Club Med, Lanvin Kuka, Krauss Maffei )

ثالثاً، سرقة براءات الاختراع وإجبار الشركات الأجنبية التي تصنع في الصين على التنازل لصالح المصانع الصينية عن حقوق التصنيع في السوق الصينية وفي بعض الأحيان في أسواق أخرى، ما يجعلها منافسة مباشرة لـكل من تصنع له السلع.

رابعاً، الاتهامات التي تساق لشركة “هواوي” وصعوبة رفع الشبهات عنها نظراً لعلاقاتها مع الدوائر الحكومية الصينية وطبيعة النظام نفسه أضف إلى منع الشركات الكبرى المنافسة من تطبيق سياستها التجارية في الأسواق الصينية (رفض “آيفون” السماح للسلطات الصينية بفك شيفرة الهواتف، على سبيل المثال، أقفل بوجه شركة “أبل” السوق لسنوات). أضف إلى ذلك نزاع بكين مع فيسبوك وأمازون لمصلحة المنافسين الصينيين (علي بابا وتوكتوك على سبيل المثال لا الحصر).

إقرأ على موقع 180  معادن أفغانستان بـ 3 تريليونات دولار.. كيف تتصرف طالبان؟

خامساً، منع الأجانب من التملك على الأراضي الصينية (لبناء مصانع أو مجمعات سكنية على سبيل المثال) في حين أن الشركات الصينية تستحوذ مئات وآلاف الهكتارات ليس فقط في أفريقيا وآسيا ولكن أيضاً في الدول الغربية (الولايات المتحدة وكندا وفرنسا واسبانيا والبرتغال واليونان وقبرص إلخ…)، أضف إلى ان الشركات الغربية الراغبة بالاستثمار في المرافئ والمطارات الصينية لا يمكنها ذلك من دون شركاء صينيين تكون الأكثرية وحق الإدارة أيضاً. بينما اشترى الصينيون عدة مرافئ ومطارات (مطار تولوز ومرفأ بيرايوس، على سبيل المثال). هذا أوصل إلى ردة فعل غربية على الصعيد التجاري وقوانين الاستثمارات. ففي فرنسا مثلاً، لم يعد مسموحاً شراء المساحات الزراعية عبر شركات محدودة المسؤولية (انتقال المزارع يخضع لشروط خاصة، وأهمها أن تكون الأولوية للمزارعين في عمليات شراء المزارع المعروضة. فكان المستثمر الصيني – المدعوم مالياً من حكومته – يدفع بالمزارع لتأسيس شركة مساهمة، فيستحوذ على ما بين  90  إلى 99 في المئة، ما يؤدي إلى تعطيل مفعول القوانين التي تحمي المزارعين). وفي ألمانيا، رفعت الحكومة نسبة المساهمة التي تسمح للسلطات بتجميد الاستحواذ من قبل مستثمر أجنبي (غير أوروبي). وفي الولايات المتحدة، تم وضع شروط قاسية جداً على الاستثمارات الصينية.

كما أن النزاع التجاري مع واشنطن، بدأ يؤثر على ميزان المدفوعات الصيني وعلى معدل النمو الذي تراجع من 10 في المئة في أول عشرية من القرن (في 2009) إلى 6 في المئة في العام المنصرم. ‪

(*) كاتب وباحث متخصص بالشؤون الآسيوية في معهد الدراسات والثقافات الشرقيةInalco‪-Paris 

الحلقات المقبلة:

الصين (2 من 4): الجيوستراتيجيا في محيط الصين

 الصين (3 من 4): ما وراء طريق الحرير

 الصين (4 من 4): تشي وميزان القوى داخل حلقة القيادة

Print Friendly, PDF & Email
بسام خالد الطيّارة

كاتب لبناني وأستاذ جامعي مقيم في باريس

Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  أرمينيا وأذربيجان: اختبار شراكات تركيا