ممداني يُبطل سحر ترامب.. الديموقراطيون عائدون!

قبل عام، وعد الرئيس الأميركي دونالد ترامب مؤيديه المنتشين بفوزه بولاية رئاسية ثانية، بأنهم "سيتعبون من الفوز" من الآن فصاعداً. لكن انتخابات الثلاثاء الماضي، أظهرت أن الرئيس الجمهوري قد فقد سحره على الناخبين، وبأن الحزب الديموقراطي في طريقه إلى نفض غبار الهزيمة، التي لحقت به في انتخابات 2024، وبأن امكانية استعادة الكونغرس من الجمهوريين في انتخابات العام المقبل النصفية، احتمالٌ قائمٌ.

من زهران ممداني في نيويورك إلى فوز ميكي شيريل بمنصب حاكمية ولاية نيوجيرسي وأبيغيل سبانبيرغر بحاكمية فيرجينيا، إلى تأييد ناخبي كاليفورنيا اقتراح حاكم الولاية الديموقراطي غافين نيوسم إعادة رسم الدوائر الانتخابية في ولايتهم، رداً على إجراء اتخذه الجمهوريون في ولاية تكساس؛ كلها نتائج سترغم ترامب والحزب الجمهوري على إعادة التفكير في السياسات المتبعة منذ العودة إلى البيت الأبيض قبل أقل من عام.

ويبقى فوز ممداني، ظاهرة بكل ما تحمل الكلمة من دلالات. فهو شاب مسلم مهاجر في الـ34 يتحدر من أصول هندية، والده أستاذ في جامعة كولومبيا، ومحسوب على الجناح اليساري في الحزب الذي يدعمه السناتور المستقل بيرني ساندرز والنائبة الديموقراطية ألكسندريا أوكاسيو-كورتيز. واستندت حملته الانتخابية على ثلاثة دعائم: تجميد زيادة الإيجارات لنحو مليوني شخص من ذوي الدخل المحدود في نيويورك، توفير خدمات النقل المجانية، وتقديم برامج رعاية شاملة للأطفال.

الشيوعي الصغير!

برز ممداني الذي كان نائباً في المجلس التشريعي لولاية نيويورك في حزيران/يونيو، عندما هزم المرشح التقليدي للحزب الديموقراطي في الانتخابات التمهيدية أندرو كومو، الذي تعين عليه بعد ذلك خوض الانتخابات كمرشح مستقل. وتوحدت “مؤسسة واشنطن” في شيطنة ممداني. لم يكن ترامب وحده من وصفه بـ”الشيوعي الصغير”، بل إن معظم قادة الحزب الديموقراطي نأوا بأنفسهم عنه ورفضوا تأييده. وحجتهم في ذلك، أن الوجه الاشتراكي الفاقع لممداني وتبنيه لما اعتبروه نظرة يسارية شعبوية للاقتصاد، من شأنهما أن ينفرا الشركات الكبرى والأثرياء الذين يدعمون الحزب الديموقراطي عادة بسبب سياسته الوسطية. حتى الرئيس الأسبق باراك أوباما بقي متحفظاً إزاء ممداني ليعود فيؤيده قبل أيام قليلة من الانتخابات. ولا شك في أن الديموقراطيين التقليديين خشيوا من أن تصب جذرية ممداني في مصلحة ترامب، ناهيك بنظرة الحزبين التقليدية للقضايا الاجتماعية التي تخص الطبقة الوسطى والفقراء.

تكرار سيناريو 2018 و2020 يؤرق القادة الجمهوريين. ولعل أكثر من تنبه للخطر المحدق، كان نائب الرئيس جي. دي. فانس الذي نصح ترامب بالعودة إلى التركيز على الداخل الأميركي، في اشارة ضمنية إلى انهماك الأخير في الأشهر الأخيرة في التوسط لوقف النار في غزة وأوكرانيا، أملاً في الحصول على جائزة نوبل للسلام. فإذا به لا يحصل لا على الجائزة ولا على الانتخابات في الداخل

لم تكن الطروحات الاجتماعية المتقدمة وحدها هي التي استمالت الناخبين، ولا سيما الجيل الشاب. حضرت الحرب الإسرائيلية على غزة، عنصراً أساسياً في الحملة الانتخابية، برغم أن نيويورك تضم أكبر جالية يهودية في العالم (حوالي المليونين)، وتجاوز ممداني عقدة اتهامه بمعاداة السامية من قبل خصومه. لم يتردد هذا الشاب في وصف الحرب على غزة بالإبادة وشارك في احتجاجات تدعو إلى وقف نار فوري، ولم يندد بشعار “عولمة الانتفاضة”، وذهب إلى حد التعهد باعطاء أوامر لشرطة نيويورك باعتقال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إذا زار المدينة. وفي مناظرة تلفزيونية مع كومو والمرشح الجمهوري كورتيس سيلوا، رفض ممداني أن تكون إسرائيل أول مكان سيزوره إذا فاز، على غرار ما تعهد خصميه. هو أجاب :”سأبقى في نيويورك”.

مواقف ممداني المنددة بالحرب، لم تمنع 31 في المئة من يهود نيويورك من التصويت له والاحتفال به لاحقاً، مما أغاظ ترامب الذي اتهم هؤلاء بـ”الأغبياء”.

أولوية المسألة الاجتماعية

بطبيعة الحال، لن تكون مهمة ممداني سهلة في وضع وعوده موضع التنفيذ، في حال نفذ ترامب تهديده بقطع التمويل الفيديرالي عن بلدية نيويورك، وبإرسال الحرس الوطني إلى المدينة بذريعة التصدي للجريمة، على غرار ما حصل في شيكاغو ولوس أنجلس.

المبرر الذي أعطاه ترامب لفوز المرشحين الديموقراطيين، هو الإغلاق الحكومي الذي بات الأطول في تاريخ الولايات المتحدة، ولأن اسمه لم يكن وارداً على لائحة الانتخابات. لكن هذا الكلام ليس دقيقاً، لأن الرئيس الأميركي وقف بقوة إلى جانب المرشحين الجمهوريين لمنصبي الحاكمية في فيرجينيا ونيوجيرسي.

لم يكن ممداني وحده الذي ركز على المسألة المعيشية للناخبين. رفعت شيريل وهي طيار سابق في البحرية الأميركية، شعار “الحرية والازدهار” لحملتها في نيوجيرسي، ووعدت بالعمل منذ اليوم الأول لتسلمها منصبها “بتخفيف الأعباء الاقتصادية” عن المواطنين. كما أن سبانبيرغر، الموظفة السابقة في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، خاضت الحملة بثلاثة وعود: “خفض الأسعار، الحفاظ على السلامة المجتمعية، وتعزيز الاقتصاد لجميع السكان” في فيرجينيا.

ويصل الكاتب في مجلة “ذا ناشيونال إنترست” الأميركية جاكوب هيلبرون إلى استنتاج مفاده، أن “ترامب هو أعظم الأصول الانتخابية للحزب الديموقراطي”، في اشارة إلى السياسات التي اتبعها منذ عودته إلى البيت الأبيض. من حملات الدهم التي نفذتها وكالة الهجرة والجمارك ضد المهاجرين غير الشرعيين. أدى ذلك، إلى استياء واضح في أوساط الناخبين من أصل لاتيني جعلهم يتحولون عن ترامب، الذي انتخبوه في 2024.

إقرأ على موقع 180  الحريري لباسيل: هذه شروطي أو فتشوا عن غيري

كما أن فرض الرسوم الجمركية الشاملة على معظم الدول، أحدث رد فعل عكسياً، واستمرت نسبة التضخم عند المستويات التي كانت عندها إبان ولاية جو بايدن. وكان هذا من العوامل التي دفعت الناخبين المستقلين الذين صوتوا لترامب في 2024، إلى الاقتراع للديموقراطيين. لقد تبخر وعد ترامب بدخول أميركا “العصر الذهبي”.

تكرار سيناريو 2018 و2020

وكما أحدثت انتخابات الثلاثاء الماضي صدمة لدى الجمهوريين، فإنها أيضاً دفعت الحزب الديموقراطي إلى إمعان النظر في توجهاته. ما هو الأجدى للحزب: يسارية ممداني أم المواظبة على الاعتدال، أم الدمج بين التيارين استعداداً للانتخابات النصفية، التي يمكن أن تكون طريقهم للعودة إلى البيت الأبيض. حدث ذلك عام 2018 إبان ولاية ترامب الأولى عندما استعاد الديموقراطيون الكونغرس وفي 2020 استعادوا البيت الأبيض. وواقع الحال، يفيد بأن الحزب الديموقراطي لم يستعد بعد كامل عافيته عقب هزيمة 2024، لا سيما أن المرشحة الديموقراطية عامذاك كامالا هاريس، تفكر في الترشح مجدداً عام 2028، بينما يزاحمها على ذلك غافين نيوسم وآخرون. وها هي عميدة الديموقراطيين في الكونغرس نانسي بيلوسي (85 عاماً) تعلن تقاعدها وعزوفها عن الترشح العام المقبل لولاية أخرى في مجلس الشيوخ. وتوقيت بيلوسي إعلان التقاعد، غداة انتخابات الثلاثاء، تعتبر مؤشراً على رغبة في افساح المجال أمام الوجوه الشابة في الحزب، كي تأخذ فرصتها.

لن تكون مهمة ممداني سهلة في وضع وعوده موضع التنفيذ، في حال نفذ ترامب تهديده بقطع التمويل الفيديرالي عن بلدية نيويورك، وبإرسال الحرس الوطني إلى المدينة بذريعة التصدي للجريمة، على غرار ما حصل في شيكاغو ولوس أنجلس

ويُنظَر إلى انتخابات الثلاثاء على أنها الاختبار الفعلي الأول لما أمل به الناخبون، عندما أعادوا ترامب إلى البيت الأبيض. وفي الإجمال كان أداء الديموقراطيين أفضل من المتوقع، “لكن ليلة سعيدة واحدة” لن تكفي لمعالجة المشاكل التي يعانها الحزب الديموقراطي، وفق تعبير مجلة “الإيكونوميست” البريطانية.

ومع ذلك، فإن تكرار سيناريو 2018 و2020 يؤرق القادة الجمهوريين. ولعل أكثر من تنبه للخطر المحدق، كان نائب الرئيس جي. دي. فانس الذي نصح ترامب بالعودة إلى التركيز على الداخل الأميركي، في اشارة ضمنية إلى انهماك الأخير في الأشهر الأخيرة في التوسط لوقف النار في غزة وأوكرانيا، أملاً في الحصول على جائزة نوبل للسلام. فإذا به لا يحصل لا على الجائزة ولا على الانتخابات في الداخل.

وهناك أيضاً عبرة في تعليق المرشح الجمهوري السابق للانتخابات الرئاسية فيفيك راماسوامي، الذي رأى أن الجمهوريين في حاجة إلى التركيز على أولويتين: كيفية تمكين الأميركيين من تحمل أعباء كلفة المعيشة، وتجنب الحديث عن صراع الهويات. يرقى هذا الموقف إلى تذكير غير مباشر لترامب بأن تغذية الإسلاموفوبيا يمكن أن يرتد سلباً على الجمهوريين. وقد يصح التساؤل حول جدوى الهجمات المستمرة للرئيس الجمهوري على رئيس بلدية لندن صادق خان، على رغم أن الأخير يلتزم الخط الوسطي لحزب العمال البريطاني، وبعيد كل البعد عن أفكار الزعيم السابق للحزب جيمي كوربن، الذي تعتبر مواقفه اليسارية أقرب إلى مواقف ممداني.

حتماً، يُعطي فوز زهران ممداني إشارات عديدة إلى الحراك الذي يشهده الحزبان الجمهوري والديموقراطي من جهة، وإلى أن انتقاد سياسات إسرائيل لم يعد من المحرمات من جهة ثانية.. والأهم أن الانتخابات النصفية المقبلة لن تكون مجرد نزهة خريفية من جهة ثالثة.

Print Friendly, PDF & Email
سميح صعب

كاتب وصحافي، لبنان

Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  رفعت العرعير.. ليس رقماً!