بعد ساعةٍ ونيّف على انطلاقنا من بيروت، وصلنا إلى جبال الشوف وسط طقسٍ ماطرٍ وعاصفٍ وضبابي. ها هم الصحافيّون يملؤون باحة القصر حيث يقيم زعيم المختارة، والذي كانت تُرصَد وتُلاحَق إطلالاته وأحاديثه ومؤتمراته (لم يكن قد بدأ التغريد في ذاك الزمن)، فكيف إذا دعا، هو شخصيّاً، إلى الاستماع إليه، وبشكلٍ طارئ؟
اكتسى اللقاء الموعود أهميّةً، أيضاً، نظراً لتنظيمه في أيامٍ عصيبة حافلة بالتطوّرات السياسيّة والأمنيّة (سنة 1988)، تُوِّجت بتكليف العماد ميشال عون رئاسة الحكومة العسكريّة، خلفاً للرئيس أمين الجميّل.
كان الجميع يتوقّع وينتظر، أن يفجِّر جنبلاط “قنبلة سياسيّة” في مؤتمره الصحفي العاجل. أَوَليس لهذا الغرض يُعقَد في العالم، عادةً، مثلُ هكذا مؤتمرات؟ فالتعريف البديهي الذي تعطيه كليّات الاتّصال والإعلام لهذا النوع من اللقاءات الصحفيّة، أنّه “أداةٌ مصمَّمة لتوليد الأخبار الطارئة واللافتة للإنتباه عن حدثٍ ما، أو تمسّ حدثاً من الأحداث الهامّة المؤثِّرة على الجمهور (المفترَض)، أو لشرح سياسةٍ معيّنة، أو لتناول قضيّةٍ تهمّ الرأي العامّ المحلّي أو الدولي. ويحضر المؤتمرَ الصحفي الصحافيّون، حصْراً، ليوجِّهوا أسئلةً إلى عاقِد المؤتمر” (هذا ما كان يحصل قبل بدعة البثّ المباشر للجماهير). وبعد؟
صرتُ أقلِّب في رأسي الاحتمالات المرجَّحة لما سيعلنه رئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي، و”أتدرّب” في سرّي على بضع صياغات لأسئلةٍ ممكنة. كنتُ حريصة على أن تكون كلماتي مناسِبة للمناسَبة، خشيةً من تعرُّضي لمواقف مُحرِجة أمام زملائي. وأخيراً… أطلّ جنبلاط مُحاطاً بحاشيته، وبدأ الكلام بلا توطئات، ومن دون أن يحيِّي الصحافيّين (على عادته). نطق ثلاث جُمل، ما زلتُ أتذكّرها جيّداً، وهو يشيح بنظره عن عيون الحاضرين (على عادته أيضاً). قال: “أردتُ في هذا اللقاء، أن أُبْدي تضامني الكامل مع الشعب الصديق في جمهورية أرمينيا السوفييتيّة (آنذاك)، بعد الزلزال الرهيب الذي ضرب بلادهم. وسنرى ما يمكننا تقديمه من مساعدات للرفاق هناك و… يعطيكن العافية”.
خاطر صحافيٌّ مسكين، وسأله نصف سؤال عن الوضع في لبنان. فقاطعه جنبلاط بسرعةٍ وحِدَّة، ليؤكّد لنا “أنّ المؤتمر مخصّص لزلزال أرمينيا” (دُعي للمؤتمر قبل أيامٍ من وقوع الزلزال). وبما أنّ جعبة الصحافيّين (المذهولين) لم تُسعفهم بأيّ سؤالٍ من أسئلتهم المعهودة (كيف تقرأ الحدث؟ ما هي أسبابه؟ خلفياته؟ دوافعه؟ مَن المتسبّب به؟)، فضّلوا (وفضّلتُ معهم) لملمة ذيول الخيبة والمغادرة. المرجَّح، أنّ أهل المنطقة والجوار استطاعوا سماع اللعنات تُكالُ، يميناً ويساراً وفي كلّ الاتجاهات، على الحظّ العاثر (وطبعاً لا أحد كان يتجرَّأ على شتْم الزعيم في عقر داره).
ثلاثون ثانيةً كانت كافية، ليمحو الزلزال مدينة سبيتاك الأرمنيّة عن الخارطة وثلاثون ثانيةً كانت وافية، كذلك، ليعقد جنبلاط مؤتمره الصحفي ـ “السابقة”. هذا المؤتمر، كنتُ أستشهد به مثلاً لطلاّبي (في كلّية الإعلام)، في كلّ مرّة أردتُ فيها أن أعرض لنموذجٍ فاشل للمؤتمرات الصحفيّة. وأستفيض، استطراداً، في شرح وتفصيل كلّ الشروط والقواعد الواجب مراعاتها، لعقْد المؤتمر الصحفي ولكيفيّة إدارته، في شتّى الظروف والأماكن. كنتُ أجتهد في إيجاد التفسير والتبرير، لما حدَث في ذاك النهار الشوفي الشتوي، وكنتُ أقول لهم، أحياناً، إنّ الرجل لم يفعل “فعلته الشنيعة”، يومها، لو لم يكن مضطرَّاً أو مُرغَماً. وأُردِف مُرجِّحةً فرضيّة أنّه، ربّما وفي الدقائق الأخيرة، اتّجهت إبرة بوصلته باتجاه “الرفاق في أرمينيا”، بعد إيعازٍ إليه من وراء الحدود، لإلغاء مؤتمره الصحفي (الأصلي)، والاحتفاظ بمحتواه لنفسه. لما لا؟ فهذا أمرٌ اعتيادي وروتيني يحصل في لبنان.
يحبّ مسؤولو لبنان المؤتمرات الصحفيّة كثيراً، غير أنّ هذه المؤتمرات لا تحبّهم أبداً، ولا تحتمل تَرَف الأسئلة التي تُطرَح عليهم. على كلٍّ، هم لا ينتظرون أسئلة على ما يقولون، لأنّ مؤتمراتهم تلتئم، كي لا تقول شيئاً. ما يعني، أنّها لزوم ما لا يلزم
ولكن، لماذا الحديث عن هذا المؤتمر اليوم؟ سؤالٌ بديهي قد يسأله قارئ هذه السطور.
في الواقع، تذكّرتُ مؤتمر المختارة هذا، بعدما استوقفتني “غزارة الإنتاج” في المؤتمرات الصحفيّة المعقودة، في الزمن الكوروني، ولا سيّما في الولايات المتّحدة ولبنان. ففي تسعةٍ وثلاثين يوماً، عقد الرئيس – المحجور في البيت الأبيض – دونالد ترامب، خمسةً وثلاثين مؤتمراً صحفيّاً، شكّلت لترامب فسحةً، كي يُمطِره فريق عمله بالثناء والإطراء لسياسته وحُسْن تدبيره، أثناء تقديم الأخبار الصحيّة المروِّعة في الولايات المتّحدة.
وبالمقابل، شكّلت هذه اللقاءات مع المراسلين، ساحةً دائمة للسجال بين هؤلاء وبين الرئيس الأميركي، الذي كان أحياناً، وبعد الإدلاء بدلوه، ينسحب من دون إتاحة المجال لتوجيه الصحافيّين أسئلتهم إليه. فمنذ ما قبل انتخابه رئيساً، يشنّ دونالد ترامب حرباً شعواء على الصحافة ووسائل الإعلام في أميركا، لدوافع وأسباب غير مفهومة، غالباً. وأثناء جائحة الكورونا، ارتفع منسوب العنف اللفظي بين الرئيس الأميركي والصحافيّين الذين انتقدوه واتّهموه، بأنّ “استعراضاته اليوميّة” (المؤتمرات الصحفيّة) ليست سوى مناسبات مظهريّة، لا تحوي أيّ مضمون، بل مجرّد معلوماتٍ متناقضة واستنتاجاتٍ وأحكامٍ لا تستند إلى “مادّة”. ووصلت الأمور إلى ذروتها، عندما انفجرت التعليقات الصحفيّة الساخرة على نطاقٍ واسع، بعد تقديم سيد البيت الأبيض اقتراحه الشهير على العلماء، كي يبحثوا في إمكانيّة استخدام المطهِّرات المنزليّة لتدمير فيروس “كوفيد-19” داخل جسم الانسان! ماذا الآن عن المقلب اللبناني؟
تتفشّى منذ مدّة، في لبنان أيضاً، ظاهرة المؤتمرات الصحفيّة التي لا يعقدها (كما في الولايات المتّحدة) رجال “الصفّ الأوّل”، إنّما أولئك الذين تُطلَق عليهم تسمية “مسؤولين” عن بلادنا المنكوبة (بهم). لكنّ إنتاج هذه المؤتمرات ليس حصْرياً (كما في البيت الأبيض)، بل تتولاّها أكثر من جهة: رجلُ دين يظهر بعد أن يغيب آخر، مسؤولٌ يهلّ بعد أن يحتجب آخر، وزيرٌ يطلّ بعد أن يتوارى آخر، زعيمٌ يغطّ بعد أن يطير آخر، موظّفٌ يَبِين بعد أن يعتكف آخر، وهكذا تُكمِل المؤتمرات المنقولة، مباشرةً على الهواء، سواء شئنا أمْ أبيْنا!
يحبّ مسؤولو لبنان المؤتمرات الصحفيّة كثيراً، غير أنّ هذه المؤتمرات لا تحبّهم أبداً، ولا تحتمل تَرَف الأسئلة التي تُطرَح عليهم. على كلٍّ، هم لا ينتظرون أسئلة على ما يقولون، لأنّ مؤتمراتهم تلتئم، كي لا تقول شيئاً. ما يعني، أنّها لزوم ما لا يلزم. لها وظيفةٌ واحدة أساسيّة: “السَحْل الرمزي” لمُحاولي سرقة “الطعوم” من شِبَاك صيّادي الكراسي (في بعبدا والسراي الكبير أوّلاً)، إضافةً إلى باقي المناصب والتعيينات والصفقات والخوّات والتهريبات.
بكيديّةٍ موصوفة، تُعقد المؤتمرات وتُتلى الكلماتُ والبيانات المكتوبة، من أجل أن يستعرض أهلُ النفاق (على الطريقة الترامبيّة)، سلسلة إنجازاتهم في المحطّات السعيدة التي تميّز حركاتهم “التصحيحيّة” ومسيراتهم “الشاقّة والاستثنائيّة”. إنّما الواضح، حتى الآن، أنّ سعادتنا بهم، نحن اللبنانيّين، لا تعرف أن تكون حاضرةً في مواعيدها. وعبثاً نحاول معهم. عبثاً التأكيد لهم، بأنّنا على بيّنةٍ ممّا ارتكبوه. فلا داعي للتكرار والاجترار في الكلام. لا داعي، لتكبُّد كلّ هذا العناء من جانبهم. لأنّ أحداً لا يطلب منهم المضي في هذه المسيرات والحركات. لكنّ عنادهم مقيمٌ لا يرحل. بات يلامس حالة المرض المعروف بـ”التصلّب اللُوَيْحي”. وهذا المرض مستعصٍ. هو خللٌ يصيب الجهاز العصبي المركزي، وينتج عن قيام جهاز المناعة في الجسم بإتلاف الغشاء المحيط بالأسلاك العصبيّة. ما يخلق فوضى، على صعيد نقل الرسائل والمعلومات، من الدماغ إلى بقيّة أنحاء الجسم. إنّه فوضى الحواس إذاً. وقد تفضي هذه الفوضى، في نهاية المطاف، إلى إصابة الأعصاب، نفسها، بضررٍ غير قابل للإصلاح.
دونالد ترامب، هو الآخر، مصابٌ بمرضٍ عصبيّ نادر، لكنّه أنصت لنصيحة مساعديه في البيت الأبيض، وتخلّى عن فكرة عقْد المؤتمرات الصحفيّة “ذات الأسئلة السخيفة والحاقدة”، على حدّ تعبيره. فلماذا لا ينصح مستشارو زعمائنا زعماءهم (الذين غالباً ما يقتدون بالنصائح الأميركيّة)، كي يكفّوا عن عقْد المؤتمرات الصحفيّة (وإذا أمكن عن التصريح والتغريد أيضاً)؟ ولماذا لا يذكّرونهم، وبأسلوبهم الجميل، بالمثل الشعبي الأميركي القائل: “إذا وجدتَ نفسك واقعاً في حفرة عميقة، فأوّل ما عليك أن تفعله هو أن تتوقّف فوراً عن الحفر”.
أعطوا لقيصر ما لقيصر، وللإله ما للإله! فما الذي تعطي لنا؟! ماذا تبقّى عندكم؟ لم يبقَ شيء. فاهنؤوا.. طوبى لكم”؛ هذا ما يخلص إليه الشاعر والكاتبُ المسرحي المصري المعارض نجيب سرور، في أحد أهمّ دواوينه الشعريّة بعنوان “لزوم ما يلزم”. يلزمنا أن يصمت مسؤولونا صمت القبور. إقتضى إلزامهم بالصمت.