طرابلس “عروس الثورة” وشرارة الإنفجار الآتي

مع انطلاق ثورة 17 تشرين/أكتوبر، صارت عاصمة لبنان الثانية، "عروس الثورة"، وهذه صفة اكتسبتها بفعل الحضور اليومي الأخاذ في "ساحة النور".

اكتسبت طرابلس سماتها عبر التاريخ، فكانت مدينة العلم والعلماء اذ حوت 360 مسجداً او مدرسة. كانت طرابلس الشام ثم مدينة الفيحاء قبل أن تستقر في الكيان اللبناني بعد استقلال لبنان، وهي بذلك كانت ترفض مفاعيل اتفاقية سايكس بيكو وتبقي على انتمائها الاصيل في وجدانها بأنها جزء من بلاد الشام، برغم نضالات ابنائها ضد الانتداب الفرنسي، وهو نضال سوري لبناني مشترك. وطرابلس كانت، انذاك، وقبله، ميناء حيوياً للداخل السوري وامتداداً جغرافياً طبيعياً له، فهي لا تبعد اكثر من 35 كلم عن الحدود السورية فيما تبعد 85 كلم عن بيروت. وفي خضم معركة التحرر الوطني من الانتداب الفرنسي، جاءت النكبة ارض فلسطين، وكان مخيما البداوي والبارد موئلاً للأخوة الفلسطينيين الذين لجأوا إلى شمال لبنان. المدينة التي لطالما كان نبضها عربياً وولادة تيارات ناصرية وبعثية وقومية، أطلقت عنان وجدانها العربي مع جمال عبد الناصر اثناء عدوان 1956 ولم تبخل حين ارتقت الاحلام بالتغيير الثوري وبتحرير فلسطين.

من المفارقات، ان طرابلس كان لها مفتيها ومجلسها الاسلامي الشرعي الى جانب دار الافتاء اللبناني في بيروت، عدا عن نقاباتها المهنية المستقلة، وهي هنا بقدر ما كانت تحافظ على خصوصيتها، كانت ايضا تراودها أحلام الولاية او الحكم الذاتي الذي تمتعت به ابان الحكم الفاطمي، وأيضاً، وهذا الأهم، أنها كانت تعبر عن رفضها الضمني لمفاعيل سايكس بيكو او للكيان اللبناني بشكله ومضمونه الحاليين، ولذا فان تفاعلها مع موجات المد الناصري ومع الثورة الفلسطينية لم يعكس وجدانها فقط انما عبر عن محاولة تأصيل وعيها بالانتماء الى الأمة بمعناها الاشمل والاعمق. ومع الثورة الخمينية في ايران وفي خضم صراع ثلاثي الابعاد بين سوريا ومنظمة التحرير والعراق، بدأت بعض الحركات الاسلامية الطرابلسية بالظهور في اواخر سبعينيات القرن الماضي ولا سيما حركة التوحيد الإسلامي برئاسة الشيخ سعيد شعبان، وخاضت معارك دموية ضد الشيوعيين والقوميين السوريين في شوارع طرابلس وسبق ذلك طبعاً الدخول السوري الى لبنان في العام 1976، فأعاد الاعتبار للوجود العلوي في جبل محسن، وساهم بانشاء فصيل مسلح برئاسة علي عيد باسم “الفرسان الحمر” (لاحقاً وحالياً حمل مسمى “الحزب العربي الديموقراطي”).

لم تكد تخرج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت في العام 1982، حتى أطل ياسر عرفات مجدداً من بوابة مدينة طرابلس في خريف العام 1983، وهي عودة كانت موجهة ضد حافظ الأسد، بعنوان “إستقلالية القرار الفلسطيني”. حينذاك، عمد الاسد الى توجيه بعض الفصائل الفلسطينية والجيش السوري الى الشمال حيث حُوصرت طرابلس ودُكت شوارعها وابنيتها حتى خروج ابوعمار ثانية ونهائياً من لبنان على متن السفن الفرنسية، ثم كرت سبحة إستباحة طرابلس عسكرياً وامنياً وأبرزها مجزرة باب التبانة التي ذهب ضحيتها، في العام 1986، اكثر من 300 قتيل.

إستخدمت طرابلس ساحة حتى في مرحلة ما بعد الخروج السوري من لبنان في نيسان/أبريل 2005، وما شهدته من جولات عنف في أعقاب الإنسحاب السوري، كان خير دليل، على أن التهميش الإجتماعي للمدينة، سهّل على كل من يريد الإصطياد في مياهها العكرة إجتماعياً، فكان أن إستخدمت المدينة ضد السوريين وحلفاء إيران و8 آذار وحتى ضد الجيش اللبناني في الآونة الأخيرة.

وكما تغيرت ديموغرافيا وسوسيولوجيا معظم المدن اللبنانية، ولا سيما بيروت العاصمة، فإن طرابلس تمددت وتداخلت مع ريف الأقضية المحيطة بها، فقررت شرائح كبيرة أن تنتقل إليها، بكل عاداتها وتقاليدها، فكانت النتيجة “ترييف العاصمة الثانية”، بدل أن تضفي هي تقاليدها على الوافدين إليها.

في زمن الحريرية السياسية، صارت طرابلس مدينة حديثة بلا حداثة. شاهدنا كيف عاشت طفرة تأسيس جمعيات خيرية، الكثير منها من صنع سياسيين أرادوها أن تضفي نفحة ايمانية على سلوكهم امام جمهور متدين ومحافظ.. وأيضاً للتطهر من حجم ما يحصلونه من صفقات. وقد استخدمت هذه الجمعيات في مواقيت محددة ترتبط باستحقاقات انتخابية وتنافسية او في الصراعات بين القيادات الشمالية نفسها بما ادى الى تفشي الزبائنية السياسية والى تراكم الانفلات في الشارع وتغييب الوعي مقابل الاستزلام او الارتزاق الماجور.

المحاور صارت لها قياداتها المحلية وهم الذين يملكون زمام الامور في المدينة. الطبقة الوسطى يختفي حضورها وصوتها امام دوي الرصاص والقذائف وهي هنا تمشي خطواتها الاولى نحو الأفول، حيث تطل الانتخابات النيابية عام 2018 فيتبوأ المشهد زعماء الاحياء او قادة المحاور. باتت طرابلس كلها محاور

ومن المفارقات ان طرابلس ضمت كبار الاغنياء من رجال السياسة ودخل اليها واليهم رفيق الحريري متاخراً قبل ان يقضي شهيداً ليتولى سعد الحريري بعده قيادة  تيار المستقبل. لم يدرك اهل الساسة او لم يريدوا ان يدركوا ان اهل المدن وطرابلس لهم مزاجهم. ولم يدرك اهل الساسة في الشمال ان عمق الهوة الآخذة للارتفاع بينهم وبين اهل المدينة لا يمكن ردمها بخطاب مذهبي، فالنسيج الاجتماعي للمجتمع الطرابلسي لا ينفع معه كثيراً التشدد مقابل التيار الوطني الحر وحزب الله، لذا كان الخطاب يركن الى الموروث من خط التماس بين باب التبانة وجبل محسن مشفوعاً بالخطاب الثأري من النظام السوري على قاعدة اتهامه بالوصاية والاحتلال ثم بإغتيال رفيق الحريري وقد اعيد فتح هذا الجرح القديم، وما ساهم في اشعاله ليس فقط تأجيج الخطاب المذهبي، بقدر محاولة إعادة عقارب الزمن الى الوراء على خلفية الصراع السوري – الفلسطيني (صراع حافظ الاسد وابو عمار)، وهو بلغ ذروته وانفلت عقاله مع ما أسميت بـ”الثورة السورية” حيث تشابكت المذهبية والروح الثأرية مع الثورة والدم الذي لا يمحوه الا الدم.

إقرأ على موقع 180  أحزان الامبراطورية.. وتناقضاتها

دخل السياسيون جميعاً على خط التماس الجديد يغذونه بالخطاب والمال والسلاح، فطرابلس مدينة انهكها الفقر، وحي باب التبانة هو احد اشهر المناطق الفقيرة في لبنان، وجرت العادة أن الحرب يلزمها تمويل ورجال السياسة اهل لذلك، فالكل شرع في بناء حاضنة شعبية متفلتة.. وتدريجياً، إجتمعت كل المتناقضات على أرض طرابلس. المحاور صارت لها قياداتها المحلية وهم الذين يملكون زمام الامور في المدينة. الطبقة الوسطى يختفي حضورها وصوتها امام دوي الرصاص والقذائف وهي هنا تمشي خطواتها الاولى نحو الأفول، حيث تطل الانتخابات النيابية عام 2018 فيتبوأ المشهد زعماء الاحياء او قادة المحاور. باتت طرابلس كلها محاور لان غالبية مناطقها باتت فقيرة بعدما انهكها ايضا اهمال الدولة منذ الاستقلال وتغافل رجال السياسة عن حقوقها واساسا عن دورها الاقتصادي والريادي (يكفيها وجود إرادة سياسية لتطوير مرفأها ومعرضها). كان الفقر حتى الأمس القريب مادة للاستزلام والارتزاق الى حين تحوله ثورة غضب عارمة بوجه الاهمال والفساد مع ثورة تشرين/أكتوبر.

اليوم تعاني طرابلس من ازمتي انفصال عن موروثها التاريخي، فلم تعد مدينة العلم والعلماء او الفيحاء او طرابلس الشام وهذه الصفات استحقتها المدينة بوعيها لجدلية الزمان والمكان التي عاشتها على مدى قرون من الزمن.

تعاني طرابلس ايضاً من حالة انفصام بين نسيجها الاجتماعي برغم انهيار الطبقة الوسطى وانزلاقها الى الطبقات الاجتماعية الدنيا. لكن الفارق في مستوى التعليم والثقافة والنظرة المدينية ذات الرؤية الاكثر اتساعا وشمولاً لا تتجاوز حدود الصرخات الفردية فيما الشارع تظلله اثقال الاحياء الفقيرة القادرة على إنتاج وقائع صادمة ومفاجئة دائماً.

انكفأت الطبقة الوسطى والحراك المدني لصالح الجماعات الاكثر عسكريتاريا والاكثر فقراً والاقل تعليماً.. ولعل الخطأ الذي أقدمت عليه السلطة السياسية بتفريغ “ساحة النور”، هو الذي أدى إلى ما شهدته المدينة من عنف متصاعد كتبت بداياته قنابل المولوتوف على المصارف وما كان يمكن أن يترتب عليها من نتائج كارثية لولا تعامل المؤسسات العسكرية والأمنية الصارم مع المجموعات المسلحة التي لم تشهر سلاحها بعد، لكن الحقيقة المرة هي أن أحداً من رجال السياسة في المدينة لم يعد يمتلك سلطة ولو جزئية على هذه المجموعات.

سقط الجميع من الشهيد الى العميد او اللواء سقط الجميع من 14 الى 8 اذار/مارس واللاعبون بينهما.

باتت المدينة ملكاً لأبنائها وحدهم. وحدهم سيقررون مصيرها وربما مصير لبنان.

قد تكون الكورونا سبباً اضافياً أدى الى انكفاء الحراك، لكن الخوف ان تكون الموجة الثانية لا علاقة لها بثورة 17 تشرين/أكتوبر بل ثورة اخرى عنفية لا سلمية. ثورة جوع ووجع. ثورة أعطتنا طرابلس صورة عن شرارتها الاولى دون ان ندرك – تماماً كبداياتنا في الحرب الاهلية – الى اين يمكن أن تأخذنا هذه الشرارة؟

طرابلس اكتسبت اسمها “عروس الثورة”، لكن الخوف كل الخوف ان تكتسب إسماً ثانياً جديداً مضمخاً بالدم. “شرارةً الثورة” والتعبير القريب عن انفجارها المخيف.

 

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  زيارة هوكشتاين والتحركات الإقليمية وحزب الله.. لمن الكلمة الفصل؟