بالرغم من أن القيادة الإسرائيلية بدأت التحضير لسحب قواتها من جنوب لبنان، منذ شباط/فبراير 2000، إلا أن الخطط الإسرائيلية لم تتطرق لمصير “جيش لبنان الجنوبي” أو للمدة الزمنية التي يمكن للترتيبات العسكرية الوكيلة أن تصمد في جنوب لبنان. وهذا ما أكده رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إيهود باراك، في مقابلته الشهيرة مع صحيفة «معاريف» مؤخراً. عكست تلك التطورات طريقة التفكير الاستراتيجية الإسرائيلية حينها، والتي كانت تنحو باتجاه التهرب من الاشتباك المباشر والتعويل على استخدام الوكلاء، وكذلك اعتبار المواجهة مع حزب الله مواجهة اختيارية. وعندما اندلعت حرب تموز/يوليو 2006، لم تكن العقلية العسكرية الإسرائيلية، قد تغيرت كثيراً في هذه النواحي.
الانسحاب من جنوب لبنان في ربيع 2000، ثم حرب صيف 2006، ثم المواجهات المتكررة مع الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة، وإدراك الإسرائيليين أن العمق المدني قد فقد أمانه التاريخي، وبات معرضاً للاستهداف بآلاف الصواريخ، قاد إلى تغييرات عميقة في العقيدة الدفاعية الإسرائيلية وفي عمليات التسلح وهيكلية القوات المسلحة الإسرائيلية. وفي ما يلي أبرز التغييرات التي يمكن الإشارة إليها في هذا الحيز الضيق:
أولاً، تغير النظرة إلى طبيعة المواجهة مع حزب الله من مواجهة اختيارية إلى مواجهة مصيرية. وهذا أيضاً ليس بالتعبير الإنشائي، بل يعني، في طريقة التفكير الإسرائيلية، النظر إلى المواجهة مع حزب الله بطريقة مشابهة للنظر إلى المواجهة مع الدول العربية في العام 1967 على خلفية أزمة تحويل مجرى نهر الأردن. كانت تلك أحداثاً مصيرية بالنسبة لإسرائيل وجعلت الانخراط في مواجهة عسكرية شاملة أمراً حتمياً. وكانت تلك مواجهة عسكرية استعد لها الإسرائيليون على مدى عدة سنوات، وخاضوها بالرغم من توقعهم لاحتمال خسائر بالآلاف.
ثانياً، حتمية الحرب البرية. القرار الإسرائيلي، في 2006، بالاعتماد على عدد من العمليات الجوية المحدودة كان نتيجة تبني العقيدة العسكرية الإسرائيلية لمبدأ العمليات الجوية الأميركية التي ظهرت خلال عاصفة الصحراء والمعروفة باسم «العمليات المبنية على النتائج» Effects-based operations، وعلى الاستخدام المحدود للذخائر الذكية في عمليات استهداف محددة للمواقع الحيوية للقوات المسلحة المعادية، أي استهداف منظومة السيطرة والتحكم، أو ما يعادل الجهاز العصبي بهدف شل القوات المسلحة. تكتفي مثل هذه العمليات بإفقاد القوات المسلحة المعادية القدرة على القتال، وليس العمل على إنهاء وجودها الفعلي بالكامل، كما كان يحصل في الحرب العالمية الثانية وحرب فيتنام والحرب العراقية-الإيرانية.
مهمة التعامل مع منصات الإطلاق الصغيرة والدشم الصغيرة، المبنية من الخرسانة المسلحة، التي انتشرت في القرى الحدودية، في جنوب لبنان، هي مهمة كان يجب إسنادها إلى القوات الخاصة ضمن عملية برية واسعة
إلا أن مثل هذه العمليات فعالة فقط في مواجهة قوات مسلحة كبيرة الحجم، وذات قيادة مركزية، وتعتمد بشكل حيوي على عدد محدود من عقد القيادة والارتباط. أي أنها بلا فائدة في مواجهة قوات قادرة على الاستمرار بالقتال بشكل غريزي، وبإشراف محدود، وعلى شكل خلايا صغيرة. وبناء على فشل إسرائيل في تطبيق مبدأ «العمليات المبنية على النتائج»، قرر العسكريون الأميركيون، بقيادة الجنرال جيم ماتيس، في العام 2008، التخلي عن هذا المبدأ عند تخطيط العمليات العسكرية. العمليات الجوية الإسرائيلية لم تخفق في حسم الحرب فحسب، بل أخفقت حتى في إيقاف منصات إطلاق الصواريخ. إذ يشير الجنرال «إسحاق بين إسرائيل»، المدير السابق لهيئة البحث والتطوير في وزارة الدفاع الإسرائيلية، إلى أن حصيلة أكثر من 10000 طلعة قتالية نفذها سلاح الجو الإسرائيلي و2000 طلعة بالطيران المروحي، في حرب 2006، أدت إلى تدمير ثلاث وتسعين منصة إطلاق متحركة خلال الحرب، وهذا ما يعني بالكاد تدمير ثلاث منصات إطلاق في اليوم الواحد (على مدى 33 يوماً).
وبالرغم من أن الإسرائيليين لايزالون يعولون كثيراً على خطط تحديث سلاحهم الجوي، واستكمال إدخال المقاتلة F-35 إلى الخدمة الفعلية، إلا أنهم يدركون أيضاً أن سلاح الجو لن يكون قادراً وحده على منع إطلاق الصواريخ. وقد ظهر رأي لدى العسكريين الإسرائيليين بعيد حرب 2006 يقول إن مهمة التعامل مع منصات الإطلاق الصغيرة والدشم الصغيرة، المبنية من الخرسانة المسلحة، التي انتشرت في القرى الحدودية، في جنوب لبنان، هي مهمة كان يجب إسنادها إلى القوات الخاصة ضمن عملية برية واسعة. وبحسب ما يتوفر من معلومات، يبدو أن هذا الرأي قد أخذ به خلال عملية “الرصاص المصبوب” في غزة 2014 التي شهدت مشاركة واسعة للقوات الخاصة الإسرائيلية والتي أسندت إليها مهمة التوغل في قطاع غزة والبحث عن الأنفاق والتي كانت تحتوي بطبيعة الحال منصات إطلاق.
وضمن الخطة الخمسية لتحديث القوات الإسرائيلية، والتي حملت اسم «جدعون» Gideon، والتي انتهت مع نهاية العام الماضي، تم تسريح عشرات الآلاف من جنود الاحتياط الأكبر سناً، والأقل تدريباً، والغير مؤهلين للخدمة، بما في ذلك تسريح حوالي 5000 ضابط. وفي ما يخص القوات الخاصة، إنشاء قيادة مشتركة للعمليات الخاصة JSOC وإعادة هيكلة وحدات المهام الخاصة المتعددة في الجيش الإسرائيلي.
وفي نهاية العام 2015، أعلن الجيش الإسرائيلي عن تشكيل لواء قوات خاصة جديد يحمل اسم Oz والذي قام بجمع قوات النخبة من قوات المشاة المختلفة. هذه التغييرات في بنية القوات الخاصة، وقوات المشاة عموماً، تمثل تغييراً عميقاً في العقيدة العسكرية الإسرائيلية التي طالما اعتمدت على الدروع بشكل رئيسي ومنحت قوات المشاة دوراً ثانوياً. إلا أن تجارب العقدين الماضيين دفعت نحو هذا التغيير العميق والذي يعني ضمناً الاستعداد لوقوع خسائر كبيرة في صفوف الأفراد الذين سيضطرون للقتال من دون الحماية اللصيقة لدبابات الميركافا.
ثالثاً، الحروب المحدودة لم تعد تكفي لإنجاز المهمة. ويقصد بالحروب المحدودة العمليات العسكرية التي تنحصر في نطاق معين، جوي مثلاً، أو التي تقيد بمدى زمني معين، كما حصل في العام 2006. ملامح هذا التغيير بدأت بالظهور فعلاً، خصوصاً خلال عملية «الجرف الصامد» صيف 2014. ففي حرب 2006، فضّلت القيادة الإسرائيلية عملية قصيرة زمنية تعتمد على العمليات الجوية ولم يتم طلب الاحتياط حتى يوم 27 تموز/يوليو، حين تم استدعاء 15 ألف جندي، ليبلغ إجمالي ما تم استدعاؤه 30 ألفاً مع نهاية الحرب. إلا أن العملية البرية لم تبدأ إلا في الأيام الأخيرة للحرب، بعدما فشلت العمليات الجوية. وقد ظهر بوضوح أن القيادة الإسرائيلية كانت تعوّل على نجاح العملية الجوية التي نفذت على مدى 34 دقيقة، فجر يوم 13 تموز/يوليو، لإنهاء التهديد العسكري. مراجعة مسار العمليات الجوية الإسرائيلية التالية تظهر أنها كانت انتقامية وبدوافع سياسية أكثر من كونها تعبّر عن خطة عسكرية متماسكة.
ما تتناوله وسائل الإعلام، من وقت لآخر، عن الترويج لاحتمال حصول حرب جديدة، نتيجة ظروف إقليمية معينة، أو أزمات سياسية داخلية معينة في إسرائيل، هو أمر غير دقيق في ضوء التغييرات العميقة التي شهدتها إسرائيل خلال السنوات الماضية. فزمن الحروب الاختيارية قد انتهى
أما في صيف 2014، فقد استدعت إسرائيل منذ اليوم الأول للعملية 40 ألف جندي من الاحتياط، ليبلغ إجمالي ما تم استدعاؤه 86 ألف جندي. كما بدأت العمليات العسكرية البرية بشكل فوري. وهذه أرقام قياسية لم تظهر منذ أن توقفت الحروب التقليدية بين العرب وإسرائيل. لم يقتصر التغيير هنا على القيادة العسكرية الإسرائيلية بل على الوعي الجمعي الإسرائيلي. ففي حرب 2006، ضاق المدنيون الإسرائيليون ذرعاً مع امتداد العمليات العسكرية لقرابة الشهر، أما في 2014، فقد امتدت العمليات العسكرية لخمسين يوماً، مع تعرض العمق الإسرائيلي، بما فيه تل أبيب، للقصف بالصواريخ. ومع ذلك، ظهر من الواضح أن الإسرائيليين المدنيين كانوا أكثر تقبلاً لحاجتهم لدفع ثمن عملية عسكرية طويلة الأمد.
ولعل التغيير الأهم في العقلية الإسرائيلية هو ما يلاحظ في تعاطي الرأي العام الإسرائيلي مع قضية الجنود الأسرى لدى فصائل المقاومة في قطاع غزة. ففي حين أن حرب العام 2006 قد اندلعت بهدف استعادة جنديين أسيرين، يقبع منذ سنوات عدد من الإسرائيليين لدى فصائل غزة، ولكن قضيتهم لم تتحول إلى اليوم إلى قضية رأي عام تنجح بصياغة القرار العسكري والسياسي الإسرائيلي. هذا التغيير لا يعكس مجرد تغيير في المزاج العام الإسرائيلي. إذ يجب التذكير هنا بالتغييرات العميقة، وإن كانت غير رسمية حتى الآن، التي طالت استراتيجية الدفاع القومي الإسرائيلي. فالاستراتيجية التي وضعها بن غوريون في العام 1953 قامت على ثلاثة أعمدة: الردع، الإنذار المبكر، والمبادرة للهجوم لتحقيق الحسم العسكري. هدفت تلك الاستراتيجية إلى تجنب وقوع الحرب أو، في حال وقوعها، إلى نقلها إلى أراضي الخصم بغرض حماية الداخل الإسرائيلي الضيق. لا تحدد هذه الاستراتيجية طريقة استخدام القوات الإسرائيلية فحسب، بل تحدد أيضاً طريقة بنائها والتركيز على الجانب المخابراتي والتركيز على القوات الجوية لإبقاء الحرب في عمق أراضي الطرف الآخر. ولكن منذ حرب 2006، وخصوصاً منذ حرب 2014، بات العسكريون الإسرائيليون يتحدثون صراحة عن ضرورة إضافة عامود رابع لهذه الاستراتيجية، وهو الدفاع النشط والذي يعني عملياً التحضر لتمدد العمليات العسكرية إلى عمق الأراضي الإسرائيلية. وهذا ما يعمل العسكريون الإسرائيليون على الاستعداد له عبر إنجاز منظومات الدفاع الجوي المتعددة الطبقات، والتي أشرفت على الاكتمال.
كل هذه التغييرات، العسكرية التقنية والمدنية النفسية، تحمل الكثير من ملامح الشبه بما كان يحصل في ستينيات القرن الماضي. انهيار الرهان الإسرائيلي على التفوق التقني وعلى الاعتماد على الوكلاء وحماية الأمن الداخلي بكلفة منخفضة؛ وضع إسرائيل أمام الحاجة لاتخاذ قرارات مصيرية للاستعداد لسيناريو اندلاع جولة جديدة من القتال. ولكن، كما كان الحال في ستينيات القرن الماضي، فإن هذه التغييرات تعني أن المضي إلى الحرب سيحصل فقط نتيجة الإدراك أن هذه الحرب ستكون حرباً مصيرية. وبالتالي، فإن ما تتناوله وسائل الإعلام، من وقت لآخر، عن الترويج لاحتمال حصول حرب جديدة، نتيجة ظروف إقليمية معينة، أو أزمات سياسية داخلية معينة في إسرائيل، هو أمر غير دقيق في ضوء التغييرات العميقة التي شهدتها إسرائيل خلال السنوات الماضية. فزمن الحروب الاختيارية قد انتهى.