لم يعد – ولم يكن – يوم اغتيال غسان كنفاني يوماً يُحتفى فيه بالشخص، فهو واحد من عناوين فلسطين وحوارييها حثّاً لوعي الفلسطيني لمأساته، وإلتزاماً بالمقاومة حلاًّ وخياراً. تميّز بنقده المبكر للسلوكيات الحزبية وكشفه عن تزوير القضية الفلسطينية على يد الصهاينة، واعتباره أن التطبيع مع الكيان الإسرائيلي أحد أبرز أدوات تشويه هذه القضية. هذه التجليات وغيرها كأدب مقاوم نقرأها سوسيولوجياً في كتاب “كمين غسان كنفاني – كيف تعقّب النصُّ تاريخَه وأدركَه” للدكتور محمد نعيم فرحات المقيم في بيت لحم. (عن دار “العائدون للنشر” 2022).
في الإهداء أنه إلى “فلسطين البهيّة ومعانيها العالية في الزمن والروح والتاريخ..”، متقصّياً القراءة السوسيولوجية للأدب في أدب كنفاني (حائز دكتوراه في علم الاجتماع ويشغل حالياً موقع أمين عام الجمعية العربية لعلم الاجتماع)، يتوقّف الناقد الفلسطيني فيصل دراج في تقديمه للكتاب بأن فرحات “أيقظ في قارئه أرواح غسان كنفاني، الأديب، المثقف الأكثر تكاملاً ومأساوية في تاريخ الأدب الفلسطيني”، الأمر الذي نلمسه في صفحات الكتاب حيث تناول المحور الأول مقاربة لعلاقة النص بالعاَلم، وتناول المحور الثاني البنية الدالّة لخطاب كنفاني ومندرجاتها المختلفة، لتنتهي عند استعراض الوعي الذي قدّمه الخطاب لتاريخه.
كيف يمكن أن تكون مقاربة الأدب للتاريخ موضوعاً للمساءلة والمعرفة السوسيولوجية؟ سؤال عالجه فرحات من خلاله تقصي علماء اجتماع وفلاسفة لتلك العلاقة ما بين النص والعالم، فأوجزها بأن الأدب الأصيل لطالما كان من الفعاليات الإنسانية الاساسية التي انشغلت بإدراك الواقع ووعيه. وفي هذا السياق، بنى كنفاني رؤيته لعالمه ووعيه الممكن له وموقفه منه، ومن خلال الخلفية النظرية والمنهجية التي اعتمدها، شكّل نظريته/استنتاجاته حول بنية الوعي التي حملتها نصوص كنفاني.
في كمائن غسان كنفاني لم تنته الكمائن التي استقرأها.. وفي كمين محمد نعيم فرحات انشداد عميق لاستقراء تتمة المشهد وألغامه.. إنه المشهد الفلسطيني في الكمائن
وإذ تعرضت عملية تهجير واقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه للتعتيم والتشويه، فقد عَمَل الأدب الصهيوني على تزوير التاريخ والوقائع لطرد هذا الشعب من الذاكرة والأزمنة واللغة (نذكر هنا كتاب كنفاني الصادر عام 1964 عن مركز الأبحاث الفلسطيني بعنوان “في الأدب الصهيوني” وكيف أن هذا الادب قاتل على جبهة اللغة، وكيف أن العرق والدين في هذا الأدب استولد الصهيونية السياسية. ونشير هنا إلى أن هذا الكتيب أعادت إصداره جريدة “السفير” ودار المدى عام 2015).
هذا الطرد من الذاكرة وتشويهها ما لبث الرد الفلسطيني عليها أن برز مبكراً مع ابراهيم وفدوى طوقان، محمود وعبد الكريم الكرمي، سميح القاسم، محمود درويش، توفيق زياد وغيرهم من الأصوات ما قبل النكبة الفلسطينية وما بعدها، فأكدوا بذلك على “قوة اللغة/الكلام وإدماجها لقوى الثقافة والمخيال في سياق مقاوم”، وهو ما أسماه كنفاني بأدب المنفى، ورآه محمود درويش تعويضاً عن مهانة لحقت بالشعب الفلسطيني عندما فقد كل شيء ولم يعد يملك سوى الكلمات. إنها اللغة إذاً! اللغة التي يستحضرها فرحات بعيون سوسيو-ثقافية “اللغة كفعل وعي متسلّح بأعمق مضمون يمكن إعطاؤه للهوية”، من دون أن يغفل عن نقده/تقييمه لسلبيات وإيجابيات اللغة بمعنى اكتناه الوعي ويختصرها فرحات بأنه امر تتمخض عنه ثلاث حالات: إما معاندة الواقع وإما الإذعان له، أو الإنكسار فيه، واستطراداً – يقول فرحات – “لعل من اهم ما يُميّز تجربة إسرائيل المعاصرة برغم لا أحقيتها هو حجم الالتحام القائم بين الثقافي والسياسي في الوعي الحاكم، في حين يعيش الفلسطينيون وضعاً معاكساً تماماً، حيث يشوّش السياسي ويبدد طاقات الثقافة وإمكانياتها في تجريب مُنبتٍ ومُحبط” (ص 62). اللغة التي أيضاً شرّحها في علاقة العرب بها “فإما مجزوءة وإما مشوّهة”، مميزاً “بين شكلين من أشكال تعاطي الذهن العربي مع وعي القرآن ومنطقه ومنطوقه” (ص 69).
ومن خلال هذا الواقع المركّب نشأ كنفاني، محاولاً العثور على سياق في الوعي الفلسطيني، لذلك، قرر فرحات أن يقتفي أثر كنفاني في “كيف تعقَّب النصُّ تاريخَه وأدركه” من خلال نصوص محددة بالذات، للوقوف عند الوعي الذي قدمته للتاريخ والواقع الذي تناولته وصدرت عنه في آن، لخّصها في ثلاثية الاغتراب والموت والكتابة بوصفها مقاومة، و”لأن سيرته كفاعل كانت جزءاً أصيلاً كثيف الحضور في نصه، وكان نصُّه سيرته طالما كانت سيرتُه قد تشكلت في صميم سيرة الجماعة التي ينتمي إليها”. رؤيته هذه للموت ـ أي كنفاني ـ “بني موقفه منه، وحثَّ الوعي الفلسطيني نحو المقاومة كفعلٍ يستوجب الموت ويجعل منه طريقاً لائقاً للوجود الكريم” (ص 101)، فكان أن وصفه محمود درويش بأنه كان “رشيقاً ومتوتراً كغزال يبشّر بزلزال”.
رشاقة كنفاني وتوتره سبر أعماقهما فرحات بالدراسة والتنقيب في مؤلفاته الأدبية، مستنبطاً ما كتبه وما رمى إليه، وما جادت به بصيرته فأثبت “أن بصيرة كنفاني وحسّه ورؤيته ويقظته وتحوّطه لم تغلق كل الاحتمالات، إذ عندما وقع استيلاد المقاومة ونموذجها في النص كما في الواقع، لم يغب عنه أهمية تحذير الوعي الفلسطيني المقاوم وحركته من صعوبة الواقع الذي يتحرك فيه، وتحذيره بالذات من يقظة جديدة للشوائب البنيوية باعتبارها من التهديدات الكبيرة التي قد تحبط التجربة وتطيح بالوعي المتولد في صميم المعاناة”.
في كمائن غسان كنفاني لم تنته الكمائن التي استقرأها.. وفي كمين محمد نعيم فرحات انشداد عميق لاستقراء تتمة المشهد وألغامه.. إنه المشهد الفلسطيني في الكمائن!