اليوسفي وميتران ودرويش.. سياسة وحب ونساء و”أسرار أبوة”!

كيف يمكن أن نفلت من أسر تقديس الموتى والإفراط في تمجيدهم؟ ما أن يغيبوا عن دنيانا حتى يسعى الكثيرون إلى رفعهم إلى مصاف الرسل ومراتب الأنبياء، إن لم تجد بعض المبالغين يلبسونهم أجنحة نورانية ليست إلا لدى ملائكة الرحمان.

تكاد تتشابه المراثي وتتناص، بعضها يقتبس من بعض وإن اختلفت الأسماء والقوافي. لتجد أحياناً من الخصوم والأعداء من يصطفون جنب الأصدقاء لمدح ميت والترحم عليه، ويوافقون على وصفه بمزايا وفضائل عالية ومواهب خارقة لم يمتلكها قيد حياته. لكن أصحاب “وما يبكون مثل أخي”، كما بكت الخنساء، لا يخطر ببالهم أن المبالغة في الشيء تفسده. فالمبالغة إذا دخلت من باب، خرج العقل والصواب والحقيقة من باب آخر.

لذا نبهنا الشاعر الكبير محمود درويش أن “الموت لا يوجع الموتى”، وأن الموت موجع فقط للأحياء. ألذلك تأتي المراثي كبلسم للجراح، أو كأقراص مسكنة للألم والوجع؟

أو ليس أمامنا سوى الكذب المباح والمرغوب فيه، والمشاركة في تسويق بطولات وهمية وإضفاء خصال غير حقيقية على “موتانا” الكرام من ذوي المحاسن وأهل كل خير. إنها لعبة مسلية بالعواطف لتركيب المواقف الكاذبة.

هو التاريخ السياسي وقد فاض بالكذب؟ كما يدفعنا جاك دريدا لطرح السؤال الحارق.

إذ يبدو أن كثيراً من الوقائع والأحداث التاريخية والمسلمة، ليست سوى أكاذيب مؤسسة للتاريخ، فيبقى التاريخ مفترى عليه بإستمرار، وعلى مر التاريخ!

***

في آخر شهر ماي/أيار المنصرم، رحل أحد الوجوه السياسية المغربية الذي ترك بصمته الواضحة في تاريخ منطقة المغرب العربي الحديث في النصف الأخير من القرن العشرين. هو الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي، القيادي في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية والوزير الأول ما بين (1998 و2002). في حكومة عرفت باسم “حكومة التناوب” واشتهرت كسابقة في البلاد العربية، أن يتولي معارض شرس شؤون الوزارة.

والد عبد الرحمان اليوسفي هو أحمد بنعبد القادر، عمل في سلك “المقدمين”، أي أعوان سلطات الإدارة الاسبانية، قبل تدويل مدينة طنجة سنة من ميلاد ابنه البكرعبد الرحمان.

في الرباط، إنتمى اليوسفي تلميذاً للعمل في صفوف حزب الإستقلال، وبعد إضطراره إلى الهرب إلى مراكش، عاش في بيت إحدى عماته المتزوجة بموظف يعمل في سلك الأمن التابع للحماية الفرنسية. هو والد السيد رشيد بلمختار، رئيس الجامعة الأمريكية (الأخوين) في مدينة إيفران، ووزير التربية الوطنية سابقاً. وقد حاول نائب برلماني من حزب الاتحاد الدستوري (عبد العزيز المسيوي) التحرش والتنقيص من الوزير الأول عبد الرحمان اليوسفي بهذه المعلومة، عندما جاء اليوسفي إلى البرلمان لإلقاء تصريحه الحكومي أمام النواب سنة 1998.

في شهادة صديقه الجزائري الحميم، الأخضر الإبراهيمي، صرّح الوزير والديبلوماسي الأممي، أن السي عبد الرحمان من صنف الرجال الذين تحب النساء “أن تضعن رؤسهن على كتفه”

لم يرزق الراحل عبد الرحمان اليوسفي بأولاد أو بنات. وظل مرتبطاً بزوجته هيلينا، وهي إبنة خياط يوناني في طنجة، إلى أن فرقه الموت عنها. تجربة الحياة في المنافي (حوالي عقد ونصف) مطارداً، لم تيسّر لهما حياة مشتركة عادية. وكان طبيعياً أن تمر أوقات طويلة من دون أن يلتقي الزوجان.

سيتغير الأمر تدريجياً وتصبح تحركات اليوسفي عادية، بعد إتفاق نظام الحسن الثاني مع المعارض عبد الرحيم بوعبيد، لتبدأ خطوات تأسيس الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في صيف 1974، وكان اليوسفي من مهندسي هذه المرحلة الحزبية. شارك الرجل في المؤتمر الاستثنائي في يناير/كانون الثاني 1975، مشاركةً فعالةً ومؤثرةً، من خلال شريط “كاسيت” صغير سجّلَ عليه صوته، بكلمة مختصرة مفيدة تبارك وتبصم بالعشرة على قرارات المؤتمر.

من عاشوا مع عبد الرحمان اليوسفي خلال فترة نزوحه إلى الخارج، والمناضلون الذين التقوا به في مؤتمرات ولقاءات دولية، يجمعون على أن الرجل، وقد تجاوز الخمسين، وقتذاك، ظلّ محافظاً على شبابه وأناقته، مقبلاً على الحياة وعلى ملذاتها بكل شغف وحب.

في شهادة صديقه الجزائري الحميم، الأخضر الإبراهيمي، صرّح الوزير والديبلوماسي الأممي، أن السي عبد الرحمان من صنف الرجال الذين تحب النساء “أن تضعن رؤسهن على كتفه”.

ومثل رفيقه في السلاح محمد الفقيه البصري، الذي لم يتفرغ هو أيضاً للحياة الزوجية مع شريكة العمر، إلا في سنواتهما الأخيرة بعد عودته إلى المغرب. فالسيدة سعاد غزالة، أرملة الفقيه وأم إبنتيه، ظلّت تعيش مع إبنتيهما في القاهرة، بينما لا يكف الفقيه عن التنقل والسفر بين العواصم، من الجزائر وطرابلس ودمشق وبغداد إلى باريس وأمستردام ومدريد.

وحكاية الصحفية المشرقية وعلاقتها بالفقيه، كانت من أسباب خلافاته مع رفاقه في حركة “الإختيار الثوري” الراديكالية في المنفى. خلافات إنتهت بإصدار بيان فصل الزعيم عن التنظيم في 6 فبراير/شباط 1981. كما لخّصها لي صديق من أعضاء “الاختيار الثوري” في لقاء خاص جمعنا بالدار البيضاء، بقوله إنهم “كانوا مرتابين من تلك العلاقة، وفي أن تكون المرأة مجندة من المخابرات الفرنسية أو من جهاز مخابراتي عربي، وقد نبّهناه إلى مبالغته في الثقة الزائدة بها، فلم يرْعو”.

حكايات كثيرة سمعتها من بعض المناضلين في حركة “الاختيار الثوري”. مثل هذه القصص الإنسانية، يتم تأويلها مساً وتنقيصاً من المنسوبة إليهم، برغم أنها لن تبدّل شيئاً في حقيقة الأمور والأحداث. لكنها قد تزعج وتخيف وتفسد صورة جميلة نسجتها المخيلات وتم ترسيخها في الأذهان.

إقرأ على موقع 180  فيلم كليوباترا.. تدليس منهجي على تاريخ مصر

***

عدم وجود نسل من صلب عبد الرحمان اليوسفي، ربما من عوامل زهده وعدم جشعه، فمن سيرثه غير أفراد عائلته، وقد عاش منذ يفاعته بعيداً عنهم، ولم تربطه بهم صلات وثقى.

في سنة 1995، بعد عودته من “غضبته” ما قبل الأخيرة في الجنوب الفرنسي، أتذكر أني كنت مع السي عبد الرحمان اليوسفي في بيته بحي بوركون بالدار البيضاء. كنت بصدد تهييء العدد الخاص من مجلة “السؤال” حول الذكرى الثلاثين لاختطاف الشهيد المهدي بنبركة، حينما أشار إلي أن أشرب كوب عصير الليمون الذي أمامي، قبل أن يلتفت إلى طاولة صغيرة جنب الأريكة التي يجلس عليها، وقال لي: أنظر، هذه رسائل وصلتني من بعض الأفراد من العائلة، من أبناء عمومة وخؤولة يطلبون أن أدبّر لهم عملاً أو أحل لهم مشكلة”، وأضاف: “لقد تذكروا مؤخراً أن لهم قريباً”.

لفرانسوا ميتران علاقات نسائية أخرى لم يكشف عنها كلها، كما كانت لليوسفي وللفقيه ولمحمود درويش ولياسر عرفات وغسان كنفاني.. ولآخرين غيرهم من الأسماء، لكن الضجيج الذي يقام عندما تثار مثل هذه المواضيع “النميمية” لا يستحق أن تخرج من أجله السيوف ولا المسدسات من أغمادها وتعد المشانق

لم يخضع اليوسفي لامتحان الأبوة، ولم يجد نفسه تحت تأثير وضعف إبن أو إبنة. ولم يتسرب أن اليوسفي سعى لحل مشكلة إجتماعية أو وظّف أحداً من أقربائه. كما يفعل الآخرون، ومن ضمنهم أعضاء في قيادة الإتحاد الإشتركي. لكنه، بالمقابل، قام بذلك لفائدة آخرين، أكتفي هنا بذكر تدخله لفائدة المحامي محمد الحلوي، الذي صادف وجوده بمستشفى الشيخ خليفة، مع زيارة مفاجئة للملك محمد السادس لليوسفي، وكان الحلوي تقريباً مرابطاً بجناح اليوسفي بالطابق الثالث، بالمستشفى الخاص الذي يقع ضمن أملاك العاهل المغربي. فانتهزها اليوسفي فرصة لدى الملك من أجل رفيقه الحلوي، الذي تمّ تعيينه إثرها عضواً في المجلس الأعلى للقضاء، بتعويضات تفوق تعويضات البرلمانيين، علما أن الحسن الثاني كان يكرهه، منذ أن كان الحلوي رئيساً للاتحاد الوطني لطلبة المغرب، وقد حذف إسمه من لائحة المرشحين للوزارة في “حكومة التناوب” لما اقترحه اليوسفي سنة 1998.

كما تدخل اليوسفي لفائدة آخر، مدرس متقاعد من التعليم بالإعدادي، هو بوغالب العطار، وقد أصبح سفيراً للمملكة في هافانا، وكانت العلاقات بين المغرب وكوبا عرفت قطيعة دامت سنوات طويلة بسبب تدخل الرئيس الكوبي فيديل كاسترو في قضية الصحراء إلى جانب جبهة البوليزاريو الإنفصالية.

***

بعد وفاة الزعيم الإشتراكي الفرنسي فرانسوا ميتران، لم يتردد الإعلام الفرنسي، ومنه المقرب من الغشتراكيين، في الحديث بإطناب عن علاقاته النسائية، عن ابنته (مازارين) غير الشرعية التي ظهرت أمام الرأي العام، وكانت لها علاقة بشاب مغربي هو الإذاعي علي بادو ابن سفير مغربي سابق بكندا، وهي تعيش اليوم زوجة لمغربي هو السينمائي أولاد امحاند ولهما طفلتان.

أما أمها (آن بنجين)، فقد تنافست الصحف والقنوات على إستجوابها ونشر صور خاصة لها مع الرئيس الفرنسي الأسبق، بل إن إحدى دور النشر الباريسة إشترت منها حقوق النشر لطبع الرسائل الغرامية التي كانت تصلها من ميتران (رسائل إلى آن، غاليمار). ولم يسقط “أبو مازارين” من أعين محبيه والأوفياء لذكراه، ولا احتقره الشعب الفرنسي.

سيقولون، إنها الذهنية والعقلية الفرنسية والأوروبية المختلفة جذرياً عن ذهنية المغاربة والعرب عموماً.

***

قبيل أيام، إندلعت حرائق لم يخمد رمادها بعد في الصحافة والمواقع الاجتماعية، إثر إقدام الشاعر سليم بركات على نشر مقال في “القدس العربي” اللندنية، يكشف فيه بعض أسرار صديقه الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، وظهر أن صاحب “لا تعتذر عما فعلت”، الذي نعلم جميعاً فشله كزوج، كان ناجحاً كدون جوان، ولم تكن تنقصه الوسامة واللطف والكلمة الرقيقة. هو أيضا مثل فرانسوا ميتران خلّف ابنة غير معترف بها. لكن تجد دائماً من لا يقبل أن يتم تنزيل “قديسه” إلى مرتبة البشر، والبشر يحب ويخون ويصيب ويخطىء، ولكل أسراره الصغرى والكبرى.

ولفرانسوا ميتران علاقات نسائية أخرى لم يكشف عنها كلها، كما كانت لليوسفي وللفقيه ولمحمود درويش ولياسر عرفات وغسان كنفاني.. ولآخرين غيرهم من الأسماء، لكن الضجيج الذي يقام عندما تثار مثل هذه المواضيع “النميمية” لا يستحق أن تخرج من أجله السيوف ولا المسدسات من أغمادها وتعد المشانق.

هؤلاء كانوا بشراً، والبشر خطاؤون، و”من كان بلا خطيئة.. فليرجمها بحجر”.

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  هل عقوبة الإعدام عادلة حقاً (2/2)؟