ثريّا جبران.. حكاية امرأة مغربية بلا حدود

ودّع المغرب مؤخراً ثريا جبران. فنانة كبيرة تركت بصماتها في تاريخ الفن المغربي، كما في الشأن العام، وحظيت بإجماع شعبي واسع، جعلها من بين أحب الشخصيات العامة لدى المغاربة وأقربها إليهم.

نزل النعي كالصاعقة. نعي “فنانة الشعب”، كما كانت تسميها الصحافة المحلية، ثريا جبران: سيدة المسرح المغربي رحلت عن 68 عاماً بعد صراع مع المرض، في إحدى مصحات مدينة الدار البيضاء يوم 24 آب/أغسطس 2020.

امرأة استثنائية حفرت اسمها في فن التمثيل، وتحولت إلى نجمة إعلامية ثم شخصية وطنية وعربية، استدعيت للقيام بعدة أدوار خارج خشبات المسرح، ومنها تسميتها وزيرة للشؤون الثقافية، فسجلت اسمها كأول وزيرة فنانة في تاريخ الحكومات المغربية وربما في العالم العربي (2007).

نعاها اتحاد الكتاب ونقابات الفنانين وبيت الشعر وجمعيات الدفاع عن حقوق النساء، والهيئة العربية للمسرح، كما الديوان الملكي، إذ بعث الملك محمد السادس ببرقية تعزية ومواساة إلى أفراد أسرة المرحومة الفنانة المقتدرة ثريا جبران اقريتيف. مما جاء في التعزية الملكية: “إن وفاة الفقيدة لا يعد خسارة لعائلتها الصغيرة فحسب، وإنما للأسرة الفنية المغربية بصفة عامة، التي فقدت برحيلها فنانة وممثلة متميزة، يشهد لها الجميع بعطائها الغزير وبمساهمتها الفعالة والجادة في تطوير وإشعاع الفن المسرحي والسينمائي ببلادنا، وفي خدمة المجال الفني والثقافي الوطني. (…) كانت تحظى بتقديرنا، لما كانت تتحلى به من خصال إنسانية عالية، ولما عهدناه في شخصها من تفان ونكران ذات، لا سيما خلال مزاولة مهامها الحكومية، ومن قيم الوطنية الصادقة”.

وعن رحيلها كتب الفنان اللبناني مرسيل خليفة، ناعيا ابنة “درب السلطان” الحي العريق في الدار البيضاء التي تمتد جذورها إلى قرطبة والشام كما قال. لقد “بحثت عن موطىء قدم على خشبة في زحام العالم والتاريخ، وحققت نفسها بشكل خاص وسط هذا الزحام. تألقت الطفلة في المسرح البلديّ وعمرها لا يتعدّى عشر سنوات. كانت تجرؤ على اختراع نص تمثله وبدأت تقلّد ما تسمعه في أرجاء الأحياء الشعبيّة، من حلقات الخرافة والحُواة وحرارة الهتاف في الساحات. لم تكن تعرف بأنها ستصل بعملها إلى حد الحرفة. كانت تعتقد أنها ستبقى هاوية مسرح، وحتى آخر لحظة من حياتها، ظلت تؤنس بين الهواية والمهنة. وبقيت هاوية ومحترفة بنفس الوقت. وحتى لما عينّت وزيرة ثقافة كسرت النمط الرسمي في العلاقة. وبهذا التأرجح بين المهنة والهواية تحقق شيء ما بإمضاء: ثريّا جبران ارتبطت أعمالها بالبسطاء والمهمشين”.

أدت ثريا جبران على المسرح مقالات صحفية للشاعر السوري محمد الماغوط، في عرض مشهدي بعنوان “حكايات بلا حدود” عن الوضع العربي، وانتقلت إلى دمشق لتقديم مسرحيتها في مهرجان دمشق للفنون المسرحية (1988)، حيث حضر العرض محمد الماغوط واستعاد “امتهان الفرح”، معبرا عن سعادته في تحويل مقالات أسبوعية كان ينشرها تحت عنوان انتقاه من أدب الأطفال الانجليزي: “أليس في بلاد العجائب” على صفحات مجلة “المستقبل” الباريسية لصاحبها الكاتب الفلسطيني نبيل خوري.

كان لقاء ثريا بالماغوط قمة أدبية فنية عربية تاريخية ولحظة نادرة. سبقتها قمة هرمية أخرى في الشرق العربي، بلقاء ثريا جبران بالممثلة اللبنانية الكبيرة نضال الأشقر في مسرحية “ألف حكاية وحكاية من سوق عكاظ”، من إخراج الطيب الصديقي  (1985)، باسم “فرقة الممثلين العرب” من العراق وسوريا والأردن وفلسطين والمغرب، وهي الفرقة التي أنشأتها نضال الأشقر بشراكة مع المخرج المغربي الطيب الصديقي.

تسلطنت ثريا في جميع الأدوار التي أدتها في أعمال فرقة “مسرح الناس” للطيب الصديقي وفرقة “مسرح اليوم” لعبد الواحد عوزري. من مسرحية “ديوان المجدوب” للصديقي، إلى  مسرحية “بوغابة” (عن بروتولد بريخت)، وأدت فيها دور رجل، و”العيطة عليك” لمحمد بهجاجي، و”النمرود في هوليود” لعبد الكريم برشيد، و”أيام العز” ليوسف فاضل، و”أربع ساعات في شاتيلا” للفرنسي جان جونيه، عن المجزرة الرهيبة. و”الشمس تحتضر”، عن نص للشاعر عبد اللطيف اللعبي الذي قال عن أداء ثريا جبران: “كانت تقرأ في جراحي بقدر ما كنت أقرأ في جراحها. ولم تكن في حاجة للكلمات قصد التعبير عن ذلك”.

دائما مع صداقة الشعر والشعراء، كانت ثريا جبران مع الشعراء من محمد بنيس ومحمد بنطلحة وحسن نجمي وعبد اللطيف اللعبي ومحمد الماغوط، إلى عناقها للشاعر محمود درويش، حين سلمته جائزة العالمية “الأركانة” التي يقدمها “بيت الشعر” في المغرب، ولم تكن في هذه اللحظة الإبداعية والتاريخية بمنأى عن مهنتها كممثلة مسرح، بل كانت في قلب المسرح الوطني محمد الخامس بالرباط. (2008).

كانت ثريا أكثر من أخت للجميع، تفيض بالمحبة وبالنبل وبالحنان، دائما على أهبة الدعم والمساعدة لمن يحتاج ويستحق، حتى أنها لم تقدر في سنوات الجمر والرصاص، خطورة مساعدتها لمناضلين من حركة اليسار الجديد وهم تحت حراب القمع، عندما ساعدتهم في إيجاد ملجأ لهم لإخفائهم عن أعين البوليس ومطارداته

أما الفنان والإعلامي ورسام الكاريكاتور بلعيد بويميد، فقد كتب بمناسبة رحيل  ثريا جبران أنها “استطاعت أن تغير فنيا و”بالفن” (بالدارجة بفنية) ما لم يحققه مناضلو ما بعد الاستقلال العربي والمغاربي. من رواد الفن المسرحي، من الجزائري كاتب ياسين والتونسي عز الدين المدني والمغاربة المسرحي الطيب الصديقي والمفكر عبدالكبير الخطيبي والروائي ادريس الشريبي والشاعر عبداللطيف اللعبي…، إنها امرأة دخلت ميدانا استحوذ عليه مناصرو “الأدلجة” من اليمين واليسار، لتبقى ثريا طائرا حرا يحوم في سماء الإبداع بدون موقف مسبق. أو تقريبا… لأن المسرح ليس حقيقة دائمة التجديد كحلقة  الحكواتيين “كل نهار برزقه”، كما كان يقول المسرحي الجزائري عبدالقادر علولة، قبل أن يسقط قتيلا  برصاص التطرف الإسلامي”.

إقرأ على موقع 180  السعودية ـ الإمارات.. إفتراق أم طلاق؟

***

شخصياً، عادت بي الذاكرة إلى الزمن الهارب، زمن الأحلام الكبيرة، زمن المسرح والإبداع المؤسس في مغرب سبعينيات القرن المنصرم وما تلاها. ولقاءاتي الأولى مع ثريا جبران في محيط المسرح البلدي في شارع باريس، في مقهى “لاكوميدي”، وما جاورها من فضاءات شاهدة، كان يلجأ إليها الحالمون بالغد الأجمل، من مسرحيين وموسيقيين وكتاب وصحفيين وفنانين تشكيليين.

كنت أود لو تمكنت من زيارتها، للسلام عليها فقط، لأحييها بإشارة ولو من خلف زجاج.. وليس من أجل تخزين نظرة وداع، فلم يمر ببالي أن ثريا ستنطفئ وتغادر هذه الدنيا سريعا، لأنها كانت معنى للحياة الضاجة بالأمل وبالحضور. “كانت الناطق الرسمي باسم الحياة وباسم الجمال وباسم الفرح وباسم القيم الجميلة والنبيلة”، كما قال عنها صديقنا المبدع الفذ عبد الكريم برشيد، وهو ينعيها للناس ولأهل المسرح والإبداع.

استحضرت اللقاءات الحميمية مع الأصدقاء في شقتها الصغيرة، خلف القنصلية الفرنسية بالدار البيضاء، في الطابق الرابع من عمارة بلا مصعد، حيث حولت ثريا شقتها إلى ما يشبه النادي الأدبي والفني وصومعة وزاوية يلجأ إليها رعاة العزلة والأحلام والأمل.

 في بيتها تعرفت على العديد من الأسماء الفنية في المسرح والتشكيل والأدب والفنون.

كانت ثريا أكثر من أخت للجميع، تفيض بالمحبة وبالنبل وبالحنان، دائما على أهبة الدعم والمساعدة لمن يحتاج ويستحق، حتى أنها لم تقدر في سنوات الجمر والرصاص، خطورة مساعدتها لمناضلين من حركة اليسار الجديد وهم تحت حراب القمع، عندما ساعدتهم في إيجاد ملجأ لهم لإخفائهم عن أعين البوليس ومطارداته.

ثم جاءت عملية اختطافها وتعذيبها وحلق شعر رأسها عندما كانت تتأهب لأخذ تاكسي من شارع ابراهيم الروداني في المعاريف، حيث شقتها الجديدة، إلى حي عين السبع، مقر استوديوهات القناة الثانية “دوزيم”. وحتى اليوم طوي الملف سريعا، دون أن يعرف الجمهور والمتتبعون حقيقة ما جرى ذلك اليوم المشؤوم في حياة ممثلة مغربية مشهورة. وما نشر حوله مجانب للصواب وللحقيقة ومشحون بالمبالغات الزائفة وبالتضليل.

***

مرافقتها لوالدتها العاملة بالميتم البلدي في عين الشق، ومعايشتها لأطفال الخيرية، تركت وشما في ذاكرتها السرية وفي قلبها حتى الرمق الأخير.

ومن لقب زوج أختها المسؤول بالميتم، استعارت لقبها (جبران)، ورفعها الفنان عبد العظيم الشناوي إلى مرتبة “الثريا”، وكان اسما ذائعا سمت به العائلات المغربية بناتها تيمنا بأول امرأة قادت طائرة في المغرب والعالم العربي (ثريا الشاوي)، وكان ميلاد جديد لها باسم الفنانة ثريا جبران، ونسي الناس اسمها الأول. (السعدية قريتيف).

وقفت على المسرح أول مرة كممثلة ساخرة، تسعى لانتزاع الضحكة من أفواه الناس لإسعادهم، قبل أن تبدع في أدوار درامية في مسرح الطيب الصديقي، مُختبِر المعادن الفنية النفيسة. وشاركت في أفلام مغربية وعربية، منها فيلم “عرس الدم” لسهيل بن بركة عن مسرحية فيديريكو غارسيا لوركا، وفيلم “أسد الصحراء” عن جهاد البطل الليبي عمر المختار. وأدت مشاهد ظلت خالدة، إلى جانب الأسطورة اليونانية الممثلة إيرين باباس، لمّا أدت بنجاح دور المرأة الليبية التي نكل الاستعمار الايطالي بزوجها وقتله، وظلت هي تساعد المجاهدين. إن مشهد العسكر وهم يجرجرون الممثلة ثريا جبران على التراب من بين أنجح المشاهد السينمائية في فيلم المخرج مصطفى العقاد.

***

لما مرض الكاتب والسيناريست محمد جبران، قامت ثريا جبران بمساع حميدة من أجل استشفائه. وظلت معي في اتصال يومي تقريبا. وكانت ثريا بالفعل مؤسسة اجتماعية إحسانية كبيرة، يتوجه إليها كل صاحب حاجة. وأياديها البيضاء كثيرة، استفاد منها العديد من الممثلين والممثلات الشباب وهم في خطواتهم الأولى، أو ما قبل الخطوة الأولى.

ثريا كانت تحب الضحك، كم ضحكنا كثيرا معها في لقاءاتنا الخاصة، التي زادت لما تزوجت بصديقي الفنان التشكيلي عبد الله الحريري (قبل زواجها وطلاقها من عوزري).

كانت صاحبة نكتة ومبدعة في ارتجال القفشات، ومنها تعابير أخذها عنها الكاتب والساخر إدريس الخوري فصارت تسب إليه. كان الخوري يحب الجلوس إليها والاستمتاع بنكتها ومحاكاتها لكلام المهمشين وإتقانها للغة أهل المدن السفلى.

***

بعد رحيلها وصفت ثريا بأوصاف ليست لها ومنها، ما يدخل  في سياق التهويل والمبالغة والإنشاء اللفظي السهل. أوصاف أفقدت معنى الكلمات، وشاغبت عبثا على قشعريرة الفقد والغياب.

وأحب أن أقول عنها بلا منمقات لفظية وبلا سابق تحضير:

 ثريا جبران كانت امرأة عظيمة من زماننا ومن شعبنا الطيب، امرأة بارّة ومخلصة وأصيلة وبسيطة وتلقائية وحنونة وطيبة ووفية. ومن فرط حلمها رحلت ذات صباح.

هذا هو نعيي الأنسب لها، والذي يليق بأمثالها من المبدعين الكبار.

 ثريا جبران “ممثلة الشعب” لقبها الأول قبل التوزير، أصبحت أسطورة.. والأسطورة لا تموت.

إني أحدق اليوم بعينيك الغائرتين في مشهد الخسارة.. لا أرى إلا أفق الضياع والنهايات والانكسارات.

لم يعد “بوسعِ القلبِ أن يسقط أكثرْ…”.

Print Friendly, PDF & Email
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  هل أنت لبناني صهيوني؟