إنتهى النزاع الأهلي اللبناني الذي اندلع في العام 1975 بعد مساع دولية متعددة أفضت إلى تعديل دستوري تضمن احترام مرحلة انتقالية تهدف إلى نقل المجتمع المتنازع طائفياً إلى بناء دولة على أساس ضمان السلم والتنمية المستدامين. أكد التعديل الدستوري على إلغاء الطائفية السياسية وعلى الإنماء المتوازن بين المناطق والعدالة الاجتماعية وعلى الشرعة الدولية لحقوق الإنسان دون المس بالنظام الاقتصادي الحر. إلا أن حسابات الحقل لم تأت على مقاييس البيادر السياسية، التي أصرت على ضرورة إلغاء الطائفية من النفوس قبل النصوص، وأقر أمراء الحرب/أبطال السلم قانون عفو عام، فبرّأوا أنفسهم من كل الجرائم المرتكبة في الأحداث السابقة، وانتهج النظام الحاكم آليات مأسست للطائفية بممارسات غير قانونية تجذرت في النسيج المجتمعي والرسمي، واعتمد اقتصاداً ريعياً وفق توجه نيوليبرالي احتكرت مصالحه القوى السياسية الطائفية نفسها، مقابل تغييب فاضح لمعايير العدالة الانتقالية. وصل هذا التوافق إلى طريق مسدود مع إفلاس الدولة مالياً واقتصادياً، فإندلعت إثر ذلك “ثورة 17 تشرين”، التي أعادت الواقع السياسي والمجتمعي إلى الظروف التي كانت سائدة عشية الحرب الأهلية مضافاً إليها تعثر مصرفي حاد. فكيف نقرأ المرحلة الانتقالية المعلّقة من منظور حكم القانون؟
آليات انهاء النزاعات في العالم
عادة ما تحل الأزمات السياسية الحادة والنزاعات المسلحة الدولية أو الأهلية من خلال مفاوضات وتسويات بين القوى المتنازعة. وغالباً ما تضمنت اتفاقيات إنهاء الحروب بنوداً تشمل العفو العام عن الارتكابات التي سادت خلال فترة النزاعات المسلحة. فقد اعتمد العفو في العديد من المراحل في التاريخ، وبشكل خاص في الاوروبية في القرون الـ17 والـ18 والـ19 كأداة قانونية واجتماعية وسياسية كفيلة بإعادة النسيج الاجتماعي إلى وحدته، خصوصاً ان اتفاق السلم يتم بين القوى نفسها التي كانت منخرطة في الحرب، وهي التي تبني شرعيتها على قاعدة شعبية غالباً ما تشكل الركيزة الأساسية لبناء مرحلة ما بعد الحرب. ينطلق هذا الحل من واقع النسيان ومرور الزمن بعيداً عن نكء الجراح الذي تخلّفه المحاكمات القضائية والتي تطيل أمد النزاعات داخل المجتمعات.
إلا أن النظام الدولي الحديث عقب الحرب العالمية الثانية طرح العدالة الجنائية كآلية مبنية على مبدأين أساسيين هما عدم مرور الزمن على جرائم الحرب وعدم الإفلات من العقاب. شكّل هذا الطرح نهجاً جديداً أثار نقاشات سياسية وقانونية واجتماعية منذ بداياته في محاكمات نورمبرغ مروراً بتأسيس المحكمة الجنائية الدولية والمحاكم الدولية الخاصة وصولاً إلى المحكمة الخاصة بلبنان إثر اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري.
المفارقة تكمن في كون العفو العام في لبنان لم يقر بموجب اتفاق إنهاء الأزمة إنما بعد سنتين على اتفاق الطائف الذي أفضى إلى تعديل الدستور اللبناني وبدء مرحلة ما تسمى “الجمهورية الثانية”
طرحت مبادئ العدالة الانتقالية، بالتزامن مع التحولات الدولية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، في الأمم المتحدة منذ العام 1996، إثر التقارير التي وضعت أمام المفوضية العليا لحقوق الإنسان. وقد تبناها مجلس الامن في العام 2004 كآلية للانتقال الديمقراطي للمجتمعات من مرحلة الحرب إلى مرحلة السلم على أساس المصالحة والمحافظة على حقوق الفئات المتضررة وانطلاقاً من مبدأي الحقيقة والكرامة، بغية بناء دولة القانون وحقوق الانسان والعدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة.
لم تلغ مفاهيم العدالة الجنائية الدولية اعتماد آلية العفو في العديد من الحروب الأهلية في نهاية القرن العشرين، على أساس خصوصية النزاعات وحق الشعوب في تقرير مصيرها، وكان حل النزاع الأهلي في لبنان إحدى تلك الحالات. إلا أن المفارقة تكمن في كون العفو العام في لبنان لم يقر بموجب اتفاق إنهاء الأزمة إنما بعد سنتين على اتفاق الطائف الذي أفضى إلى تعديل الدستور اللبناني وبدء مرحلة ما تسمى “الجمهورية الثانية”.
العدالة الانتقالية: إدارة مؤقتة للانتقال
تختلف العدالة الانتقالية عن الأدوات السابقة بكونها تشمل الأبعاد السياسية والإقتصادية والاجتماعية والقانونية والمؤسساتية والقضائية على حد سواء. وتتميز بكونها استثنانية ومؤقتة، ولا يمكن طرحها طالما أن النزاعات والانتهاكات والقوة والتسلط ما زالت مستخدمة. لذلك، يفترض أن تطبق مبادئها في مرحلة محددة انتهت أثناءها أعمال العدوان أو الانتهاكات ولم ينتقل المجتمع بعد إلى مرحلة من السلم المستقر.
كما تتميز بالخصوصية المحلية والفردية والميدانية، فهي تشكل أداة توافقية للعبور بالمجتمع إلى مرحلة السلم بما يتناسب مع الخصائص الاجتماعية والسياسية لكل نزاع. لذلك فهي تتمتع بالمرونة إذ أنها مرتبطة بالإرادة الجماعية والرغبة العامة بتخطي مرحلة النزاع، عبر تأسيس مفهوم العقد الاجتماعي الذي يترجم بتعديل للدستور أو بطرح دستور جديد.
يمكن أن يشكّل العفو أحد عناصر العدالة الانتقالية، كونها تعتمد المصالحة بين الفئات المتنازعة على أساس من الحقيقة واحترام الكرامة وجبر الضرر كوسيلة بديلة لحل النزاع. إلا أن ذلك يجب ألا يتناقض مع الهدف الأساس المتمثّل ببناء دولة المؤسسات والقانون.
بين العدالة والاستقرار، يشكّل حكم القانون إذن المعيار الفصل، وفقاً للخيارات المتاحة في الأنظمة الديمقراطية. فالعدالة الانتقالية وإن كانت مبنية على معايير غير ملزمة بطبيعتها، إلا أن احترامها ضمن أي سياق لإنجاز المرحلة الانتقالية يساهم في الانتقال الديمقراطي للمجتمع.
وفي ضوء رصد تجارب متعددة في مجتمعات وظروف مختلفة، وبعد دراسة نجاحاتها وإخفاقاتها، وضعت المعايير التي تضمن نجاح العدالة الانتقالية والتي تتمثل بالحق بمعرفة الحقيقة وواجب الحفاظ على الذاكرة، والحق بالعدالة والتعويض عن الأضرار الفردية والجماعية مقابل واجب التقصي والملاحقة، وأخيرا ضمان عدم التكرار.
هذه المعايير تشمل في طياتها المحاسبة، الشفافية، واحترام مبادئ دولة القانون والمؤسسات، علماً أن الاعتراف بالخطأ يؤسس للحوار الوطني والمصالحة ويضمن عدم التكرار.
أمام هذه الانتفاضة، أعادت القوى السياسية المختلفة التي أقرت قانون العفو التذكير بجرائم الحرب الأهلية، من خلال التهويل بتكرارها وإستعادة الخطاب التحريضي، على خلفية الاتهامات نفسها التي كانت سائدة أثناء النزاع
الحالة اللبنانية.. والواقع المركب
شكل تاريخ 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019مفترقاً في تاريخ لبنان السياسي والاجتماعي تميّز بوحدة المطالب الشعبية بعيداً عن الانقسامات السياسية الحادة التي ترتبط بشكل مباشر أو غير مباشر بانتماءات طائفية وصراعات إقليمية ودولية. فأظهرت حركة الشعب في ذلك التاريخ مؤشراً جديداً لم يسبق له مثيل من خلال توجه موحد لمكونات المجتمع اللبناني تجسدت بالمطالبة بدولة القانون واحترام الحقوق الأساسية للمواطنين، والتقت بذلك الرغبة الشعبية بمضمون التعديل الدستوري المجمّد الذي بلغ من العمر ثلاثين عاماً. أمام هذه الانتفاضة، أعادت القوى السياسية المختلفة التي أقرت قانون العفو التذكير بجرائم الحرب الأهلية، من خلال التهويل بتكرارها وإستعادة الخطاب التحريضي، على خلفية الاتهامات نفسها التي كانت سائدة أثناء النزاع، ولم تتوان عن نكء العديد من الجراح المرتبطة بالوعي واللاوعي الجمعي للمجتمع، بدءاً من مجاعة الجبل مروراً بعمال المرفأ وأحزمة البؤس، وخطاب اليمين واليسار، والعمالة للصهيونية ودور كل من منظمة التحرير والجيش السوري في لبنان. كما أعادت التذكير بشرط نبذ الطائفية من النفوس متناسية دورها خلال مرحلة ما بعد الحرب من اعتماد سياسة عامة متكاملة تسعى لنقل المجتمع اللبناني نحو المواطنة ودولة القانون، وتغاضت عن أن انعكاسات النظام النيوليبرالي عدلت بمعايير القوة والتأثير لأدوات تلك المرحلة ووضعتنا أمام تحديات من نوع مختلف تتطلب من المجتمعات والمؤسسات التحضر لمواجهتها بأدوات جديدة.
عدم تزامن الإرادة الشعبية مع التعديل الدستوري وغياب النية السياسية باحترامها، حوَّلا مقدرات الدولة إلى كانتونات واقعية، خلافاً لوظيفة اتفاق الطائف التوحيدية. زدْ على ذلك، تحولات عالمية، سياسية وإقتصادية تغلغلت في الواقع اللبناني وزاد من تعقيد الأزمة الوطنية.
تتمثل خصوصية التجربة اللبنانية بأنها لم تنه المرحلة الانتقالية في المصالحة والعدالة والمحاسبة لمرحلة ما بعد الحرب الاهلية. إلا أن تعليق الانتقال الحقيقي إلى حكم القانون، مع استلام الحكم من قبل أطراف الحرب نفسها التي أقرت قانون العفو عن جرائم الحرب وتشاركها المصالح المالية والاقتصادية للدولة، أدى ذلك كله إلى إدخال لبنان في أتون جديد من الانتهاكات وفقدان أي ثقة بالمؤسسات والدولة والقانون. كما أن الوقوع في الأزمة الجديدة على خلفية جرائم الفساد دفع القوى الحاكمة نفسها إلى طرح قانون عفو جديد عن كل الجرائم الاجتماعية والمالية والأمنية والاقتصادية المرتكبة خلال الفترة السابقة، ما يجعل امكانية بناء الدولة أشبه بالمستحيل.
تشكل الأزمة الحالية على المستوى الشعبي والسياسي نموذجاً لتقاطع الانتهاكات المختلفة لحقوق الانسان ذات الطابع الإنساني الموروث عن الحرب الأهلية وذات الطابع الاقتصادي والاجتماعي الممأسس ضمن المرحلة النيوليبرالية. تراكم هذه الازمات في لبنان بين 1990 و2020 جعل من العدالة الانتقالية مركبة ومعقدة، ما يعطي لمرحلة الانتقال أبعادا تختلف عن تجارب أخرى في العالم، ويجعل البلد أمام مفترق جذري في البعد المؤسساتي للدولة والبعد الانصهاري للمجتمع والوجه المستقبلي للكيان.