أولاً، لاستخلاص دروس جديدة في فن التفاوض. للتعلّم كيف يثابر صناع القرار، الشركاء، على المحادثات والتبادل مع الإصرار على تجاوز الخلافات للتوصل إلى اتفاق. كيف يوفّقون بين مصالح يكاد يستحيل التوفيق في ما بينها. كيف يصنعون الحلول معاً. كيف يقدمون التنازلات من أجل تسهيل إبرام تسوية مرضية للجميع. كتلك التسوية التي أبصرت النور أخيراً، وبعد طول انتظار، والمتمثلة في توافق الدول الـ27 الأعضاء على خطة “تاريخية” لدعم النهوض الاقتصادي بعد أزمة “كورونا”، بقيمة تصل إلى 750 مليار يورو.
نحج الأوروبيون إذاً في اختبار الوحدة. وأكدوا أنه يمكن للمصيبة أن تجمع بدلاً من أن تفرّق. ومن دون إنكار واقع أن أزمة كورونا كشفت عن ثغرات ونواقص في البناء الأوروبي، لجهة عدم استباق أزمة صحية بحجم جائحة “كوفيد ـ 19” وعدم الجهوزية لمواجهتها بأقل الخسائر، فضلوا تحمّل مسؤولية الفشل أو الإخفاق أو التقاعس معاً. وقرروا تغليب المصلحة المشتركة على المصالح الذاتية، إدراكاً منهم بأن غرق المركب الأوروبي يعني غرقاً وإضعافاً للجميع في عالم مضطرب. بمعنى آخر، أثبت الأوروبيون مقولة أنهم لا يتوافقون ابداً لكنهم ما زالوا سوياً، بحسب ما يردد الباحث الفرنسي في علم الاتصال والإعلام، مؤسس ومدير مجلة “Hermès La Revue” العلمية، دومينيك فولتون، الذي صودف صدور كتابه الأخير “Vive l’incommunication – La victoire de l’Europe”، في ربيع 2020، أي في أوج أزمة “كورنا”، والذي يحلل فيه أهمية المشروع الأوروبي على الرغم من الاختلافات بين الأوروبيين.
ثانياً، للاتعاظ من تجربتهم في التضامن. فبعدما أعطت الدول الأوروبية إشارات سلبية أثناء إدارتها لأزمة “كورونا” بكثير من الأنانية، عادت وسارعت إلى طي صفحة هذا السلوك المنافي لفكرة الاتحاد الأوروبي القائمة على التعاون والتضامن، وذلك بواسطة خطة النهوض الاقتصادي التي تضع أسساً متينة للتضامن الأوروبي في إدارة عواقب ما بعد أزمة “كوفيد ـ 19”. تنص الخطة على تخصيص مبلغ 360 مليار يورو، ستوزع كقروض، على أن تتولى كل دولة مستفيدة من قرض محدد هنا، تسديد الديون بنفسها. كذلك، تقضي الخطة توفير مبلغ قدره 390 مليار يورو، عبارة عن منح ومساعدات للدول الأكثر تاثراً بتداعيات الأزمة الصحية، لكنها مصنفة كديون مشتركة تتكفل الدول الأعضاء الـ27 بتسديدها بشكل جماعي، وهنا يكمن مغزى التضامن.
خطة النهوض الاقتصادي هذه، في السنوات القليلة المقبلة، لا تخفف من رمزية الإنجاز وأبعاده التضامنية. يتعلق الأمر بخطوة يمكن البناء عليها من أجل شق الطريق نحو خطوة اتحادية واندماجية أكبر، تتمثل في تشكيل حكومة أوروبية، أو على الأقل حكومة اقتصادية أوروبية، كما يطمح البعض
صحيح أن فرنسا وألمانيا ودولاً أخرى كانت تتطلع إلى أن تصل قيمة هذه المنح إلى حوالي 500 مليار يورو بدلاً من 390، لكن دواعي التسوية مع الدول الأوروبية، مثل هولندا والدنمارك…، التي تصنف باعتبارها “مقتصدة” في نفقاتها و”بخيلة”، والتي تتذمر من وضع النفقات العامة في دول مثل إيطاليا وإسبانيا وتحملها مسؤولية عدم ترشيد نفقاتها، اقتضت تقديم تنازل. وهذا التنازل لا يقلل من قيمة الإنجاز الذي حققه الأوروبيون بتحفيزهم لمبدأ التضامن. حتى أن كل الشروط المرافقة لتطبيق خطة النهوض الاقتصادي هذه، في السنوات القليلة المقبلة، لا تخفف من رمزية الإنجاز وأبعاده التضامنية. يتعلق الأمر بخطوة يمكن البناء عليها من أجل شق الطريق نحو خطوة اتحادية واندماجية أكبر، تتمثل في تشكيل حكومة أوروبية، أو على الأقل حكومة اقتصادية أوروبية، كما يطمح البعض.
من خلال حفاظهم على وحدتهم وتعزيزهم لمبدأ التضامن في ما بينهم، وجّه الأوروبيون أيضاً رسالتين، أولى سياسية موجهة إلى الشعبويين والمعادين للاتحاد الأوروبي، ومفادها أنه لا يمكن لدولة بمفردها مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين والأزمات المتوقعة وغير المتوقعة. من هنا، ضرورة الحفاظ على الاتحاد الأوروبي كأداة لتعاون بنّاء، على الرغم من أية ثغرات ونواقص يمكن ملاحظتها هنا وهناك. وكضمانة لسلام دائم في القارة التي شهدت حربين عالميتين في النصف الأول من القرن العشرين. وثانية دبلوماسية إلى الولايات المتحدة الأميركية وروسيا والصين، ومفادها أن رهانات القادة الحاليين لهذه الدول العظمى على تفسخ وانهيار الاتحاد الأوروبي ستبقى رهانات خاسرة!
ثمة رسالة جانبية ضمنية وجهها الأوروبيون إلى دول الضفة الجنوبية للبحر المتوسط، ومن ضمنها لبنان، من خلال ذلك الاتفاق التاريخي، عنوانها العريض أنه لا يمكن لحكومات فاسدة، عاجزة عن تحقيق الإصلاحات الاقتصادية والإدارية والسياسية، وممتنعة عمداً عن وقف الهدر في نفقاتها العامة وعن وضع حد لنهب المال العام من قبل السياسيين والأوليغارشيين، أن تستفيد من التعاون مع الاتحاد الأوروبي. بكل ما يحمله هذا التعاون من فرص ونقاط قوة وجاذبية في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإنمائية والبيئية والتربوية والثقافية. سياق الرسالة نفسها، يشي بأن تعلّموا كيف تتحاورون بين بعضكم البعض وكيف تفاوضون الخارج لأجل مصلحة بلدكم ووحدة أرضه وشعبه ومؤسساته، بدل أن تناشدكم فرنسا وغيرها بأن ساعدوا أنفسكم حتى نساعدكم.