كان ستالين يهاب دهاء بيريا، ويشكّ ببعض “ارتباطاتٍ له” مع اليهود. فكان عندما يخابره ليلاً، يبدأ بسيْل الأسئلة الروتينيَّة المتّصلة بمهامّ الرجل، ليصل دوماً إلى السؤال الأهمّ: “أمّك يهوديَّة.. أليس كذلك؟”. نعم، يجيب بيريا، ليطير النوم من عينيْه، بعد ذلك. فهو كان يسمع في ذاك السؤال، تهديداً مسبقاً له من ستالين بالتخوين أو العزل أو القتل أو…، إذا خطر بباله، للحظة، أن يخرج عن طاعة القائد، أو يدبِّر له مكيدة. فبيريا يدرك أنّ ستالين يعرفه جيّداً. وأنّه يعرف، بالتفاصيل المملَّة، أصل وفصل “شجرة عائلته”. وهو يدرك، أيضاً، كُرْه ستالين الشديد لليهود، وقلقه من “مخطَّطاتهم” للتخريب على حُكمه.
إنّه إذن، السلوك الستاليني الناعم للترويع. والذي كان يشكِّل تكتيكاً لتحاشي الترويع الخشن: القمع وأخواته. يعتمد الترويع الناعم، على تذكير المُروَّع بقدرات وخبرات المُروِّع في البطش. أمّا الهدف النهائي، فهو فرْض السطوة. ولتحقيق هذا الهدف، يتوسَّل المُروِّع مروحة واسعة من آليّات التطويع. كما أنّ للترويع الناعم “موجبات”، أبرزها: إجبار المُروَّع على القيام بعملٍ لا يرغب المُروِّع أن يقوم به؛ حمْله على الامتناع عن القيام بعملٍ ما؛ دفْعه للتراجع عن فعلٍ ما؛ تعطيل تنفيذ قانونٍ أو تشريعٍ ما؛ منْع تنفيذ حُكمٍ أو أمرٍ أو إجراءٍ قضائيٍّ ما؛ رفْع الغطاء عن المُروَّع كي يعود إلى قطيع المُروِّع (في حال خروجه عنه)؛ تكدير الأمن والسكينة العامّة…إلخ. في لبنان، وبفضل هذه الموهبة في “الترويع الناعم”، وصل معظم حُكَّامنا إلى مناصبهم وتسلَّقوها وتدرَّجوا فيها.
“كلّن يعني كلّن”، وجدوا هذا الدرب منيعاً أمام كلِّ مقاومة لهم. فتفجَّرت مواهبهم الترويعيَّة (وما زالت تتفجَّر)، كلٌّ حسب قدرته وحاجته وأسلوبه. لكنّهم، أوجدوا تسمية موحَّدة خاصّة بنا، تستند إلى خبراتنا العالميَّة في تصميم الأزياء: “القمصان السود”. ومَن يقرأ من المروِّعين هذه السطور سيتعجَّب، ربّما، لاعتقاده بأنّ “القمصان السود” ماركة مسجَّلة لـ”حزب الله”. كم هم جاهلون بما يفعلون! إذْ تنزل قمصاننا السود إلى الأسواق، طوائف طوائف، كلّما أراد “ستالينٌ ما” أن يبثّ الذعر في نفس “بيريا ما”، مع اعتذارنا المسبق من التطاول على المُشبَّه بهما في عليائهما. لكن، متى بدأت رحلة القمصان السود في لبنان؟
لا بأس هنا من بعض تنشيطٍ للذاكرة. في 12 كانون الثاني/يناير 2011، وبينما كان رئيس الحكومة السابق سعد الحريري في البيت الأبيض برفقة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، نزل شبّان تابعون لحزب الله إلى بعض الشوراع، بقمصانهم السوداء. وبلمح البصر، إستقال وزراء المعارضة جماعيَّاً (أحد عشر وزيراً من أصل ثلاثين) وسقطت حكومة الحريري الأولى. كان مبرِّر الاستقالات: عدم الاستجابة لمطلب المعارضين بعقد اجتماعٍ عاجل لمجلس الوزراء لمواجهة المحكمة الدوليَّة (التي تحقِّق في اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري). هذا وتكرّرت، بعد ستَّة أعوام، التجربة الحريريَّة ذاتها، إنّما “بالشقلوب”. فمن الرياض، بُثَّت كلمة متلفزة لسعد الحريري وهو يقدِّم استقالةً، تبدّى أنّها بضغطٍ من “قمصان سود” سعوديَّة. على الفور، انتشر فيديو يظهر فيه أحد مُنشِدي حزب الله، وهو يقوم بكيِّ قميصٍ أسود، وكيِّ الوعي اللبناني. كان ترويعاً موسيقيَّاً ناعماً، ذكَّر اللبنانيّين (وغيرهم) بأنّ “القمصان السود” عائدة إلى المشهديَّة بعد طول غياب، لتمنع الاستقالة وتصون التسوية (الرئاسيَّة). ماذا بعد؟
“القمصان السود” يا أصدقاء، لعنة من لعنات لبنان الكثيرة. لكن ما العمل؟ فـ”جبابرة” نظامنا يعشقون القمصان السود عشقاً مُحرَّماً. والحرام يستهويهم، كيفما كان ومن أيّ مصدرٍ أتى!
مع الأيّام، اكتسبت ظاهرة “القمصان السود” بُعْداً رمزيّاً كثيفاً في لبنان الأخضر. لدرجةٍ، بات معها مجرَّد التلفُّظ بكلمتيْ “القمصان السود”، كافياً ليُظهِّر في عقول اللبنانيّين “صورة ذهنيَّة” معيَّنة. صورة، قادرة أن تخلق في دواخلهم أحاسيس وانطباعات وتوقّعات محدَّدة. وتشي، بما يُمكن أن تقوم به “الجهة” التي تحرِّك تلك القمصان، واقعيَّاً أو افتراضيَّاً. فأهلُ لبنان تدرَّبوا وباتوا يفهمون سريعاً، ومن دون تفسيرٍ يُذكر، رسالة (أو رسائل) القمصان. وهم يفكّون، بسرعةٍ قياسيَّة أيضاً، رموزها تبعاً للّحظات السياسيَّة. فيقرؤون:
ممنوع الإعتراض على قرار مُتَّخَذ؛ سيُمنَع بالقوّة كلّ إجراء أو حدث أو موقف أو سلوك غير مرغوب به؛ ستُلغى مفاعيل كلِّ قرار غير مقبول به، بعد تجويفه من كلّ مضمون؛ سيُخرَّب على أيّ اتفاقٍ غير مسموح به، سواء أكان ثمرة إجماع أو محلَّ تنازع؛ ممنوع فتْح أيّ ملف مشبوه؛ ممنوع إقفال أيّ معمل أو مصنع أو مستودع أو…، حتى ولو كان ينضح بالموبقات؛ ممنوع التعرّض لهذه الشخصيَّة أو تلك؛ ممنوع أن تقوم لأيّ قوّة قائمة، إذا كانت قيامتها غير ملائمة للسلطة؛ يمكن فعْل أيّ شيء، نكرِّر أيّ شيء، في الظلمة أو في وضح النهار؛ و…أُعذِر مَن أنذر!
“القمصان السود” يا أصدقاء، لعنة من لعنات لبنان الكثيرة. لكن ما العمل؟ فـ”جبابرة” نظامنا يعشقون القمصان السود عشقاً مُحرَّماً. والحرام يستهويهم، كيفما كان ومن أيّ مصدرٍ أتى!
كلّ مَن يحتاج من القائمين والقيِّمين على إمارات لبنان الكبير الطائفيَّة، أكانوا سياسيّين أو رجال دين أو رعاعاً يأتمرون بأمرة قادرٍ جبّار (بالمقاييس اللبنانيَّة)، يمتشق “القمصان السود” سيفاً يلوّح بنَصْله المسنون، متى أراد وأينما يريد . قد يلعب لاعبٌ بسيفه مع “تِرْس” رعايا إمارته، أو مع “أَتْراس” رعايا الإمارات الأخرى. ويجب الإقرار، بأنّ لا جودةً تضاهي جودة أقمشة القمصان السود الشيعيَّة. فمعها بدأت الحكاية. وعلى الرغم من تنطُّح البعض من أبناء الطائفة لتقليد موديل “حزب الله” بموديلاتٍ فاشلة، لكنّ القمصان الشيعيَّة، على أنواعها، تبقى الأكثر رواجاً واستخداماً وفعاليَّة. ولهذه القمصان سوقٌ مميَّز في الإمارة السنيَّة. فمُوالو “قميص عثمان”، يرتدون، هم أيضاً، “القمصان السود” متى دعت الحاجة. وبسوادها الحالك، أو الباهت أحياناً، يرسمون الخطوط الحمراء، سدّاً حصيناً أمام التعرُّض لأيِّ مرتكِب “من عظام الرقبة”. مهما كان نوع وشكل ودرجة هذا الارتكاب. إلى أيّ إمارة نصل الآن في استعراض القمصان؟
إلى إمارة الدروز. فهؤلاء، بدورهم، لهم أسلوبهم الخاصّ في ارتدائها. لكنّهم يشترونها، هذه الأيّام، من السوق السوداء. ولا يخفى عليكم، أنّ القمصان السود تليق ببعض المُستعرِضين، أكثر من بعضهم الآخر. فالأسْود، كما يُلاحَظ، يناسب الزعامات الأصيلة أكثر من المستجدِّ منها (على غرار الكورونا). فتكون تارةً، على طريقة “بيضة القبّان” الضابطة لأكذوبة ميزان المماحكات السياسيَّة. وتارةً أخرى، تلبسها أجسادٌ منفوخة فوق طاقتها (كضفدع لافونتين)، لتُنذِرنا برُقيٍّ عظيم: “كذا… وصبّاطي سوا”. لكنّ الأطرف يبقى، على الأرجح، القميص الأسود من مقاس XXL الذي أهداه أقوياء هذا البلد إلى بعض الأجساد الدرزيَّة الهزيلة بمقاس SMALL. يا إلهي! سبحان مَن أعطى هذا وحرَم ذاك. وسبحان مَن ذكَّرنا بالمثل القائل “الألبسة خلاخل والداءُ من الداخل”. ماذا الآن عن القمصان السود المسيحيَّة؟
تزدهر في الإمارة الأرثوذكسيَّة مبيعات هذه القمصان، في الموسم الذي يتحرّك فيه الترويع الناعم على كلّ الجبهات الطائفيَّة، تحت شعارٍ موحَّد: “إيّاكم وحصّتنا في جبنة النظام!”. لكنّ الاستعراض الأبرز يحصل في الإمارة المارونيَّة. فعند البطريركيَّة “للطرب آلات”، ولكلِّ قميصٍ آلتُه. في ما مضى، عزف العود SOLO “ممنوعٌ إسقاط الرئيس الماروني بضغطِ الشارع”. وبالأمس، عزف الناي الحزين “ممنوعٌ المسّ بحاكم مصرف لبنان الماروني”. واليوم، يعزف المجوز الشجيّ للقرّادي “بلدنا عَمْ بتنادي وَيْن هيبتنا يا ولادي”. فهذه الهيبة المهدورة على دروب عشْق القصر الجمهوري، لم يرَ بطريركنا سبيلاً لإعادتها، إلاّ عبر دعابة “الحياد”. علْماً أنّ رجال الدين لا يستسيغون كثيراً الدعابات. لِنعُدْ إلى خواريفنا (كما يقول التعبير الفرنسي).
لماذا هذا التدليس في الكلام عن الحياد وبأنّه لا يستهدف أحداً بذاته، بينما رسالة قميص بكركي الأسود واضحة، وهي رفْع الغطاء المسيحي عن حزب الله بالدعوة للانخراط بوجهه؟
في ليلةٍ صيفيَّة، أنزل البطريرك الماروني “القمصان السود” من خزانة الديمان، لتبدأ عروض الحياد “غير الحياديَّة”. فقلنا، لماذا أيّها الربّ هذا القصاص الجديد؟ فبعد ترْك حزب الله محاولاته غير الناجعة في الجهاد ضدّ الفساد منصرفاً إلى تبديد الوقت في مسالك الجهاديْن الزراعي والصناعي الوعرة، جاءنا البطريرك مجاهداً لتضييع بوصلة المصائب، هو الآخر، تحت راية “الحياد”. لذا، يحقّ لنا سؤال الجالس على كرسي إنطاكيا: لماذا اليوم وليس البارحة، غبطتك؟ سؤالٌ مشروع في الزمن الترامبي الضاغط على الجاليات اللبنانيَّة في أميركا! هل هو الدفاع بالهجوم؟ لأنّنا في الحقيقة، لم نفهم هذا التناقض في مواقفكم. فيوماً تعتبرون، أنّه لولا مشاركة حزب الله في الحرب السوريَّة لَكَان “الدواعش” في قلب جونية. ويوماً آخر ترون، أنّ سلاح هذا الحزب هو مَن يمنع عنّا نعمة الحياد! أيُّ موقفٍ من الموقفيْن يجب أن نعتمد؟ ولماذا هذا التدليس في الكلام عن الحياد وبأنّه لا يستهدف أحداً بذاته، بينما رسالة قميص بكركي الأسود واضحة، وهي رفْع الغطاء المسيحي عن حزب الله بالدعوة للانخراط بوجهه؟
لا يليق القميص الأسود بالكنيسة يا سيّد الصرح! ولا تنفع مساحيق “الحياد” لتمويه بشاعات نظامنا الأسود أو عيوب حياتنا الوطنيَّة! كان من الأجدى لهذا الشعب المقهور، وغبطتك سيّد العارفين، أن تسمّي الأشياء بأسمائها. هل من الصعب القول بالفم الملآن: “هذه الطبقة السياسيَّة الحاكمة، مع كلّ السلالات المتحدِّرة منها، هي أزمة لبنان الأولى والأخيرة والملِّحة. يجب أن تبدأ محاسبتها، فرداً فرداً، أمس قبل اليوم. ويجب ألاّ يُستثنى من هذه المحاسبة أيّ حزب لبناني، مهما كانت هويَّته. ومَن تثبت مسؤوليَّته في جريمة إعدام البلد، فليُحاسبْه ويحاكمْه الشعب قبل القضاء، أمس قبل اليوم، أيضاً”؟ قالها المطران بولس عبد الساتر بالأمس، فلماذا لا تقولها اليوم؟ أمّا “حالة حزب الله”، فمن الجدير تشريحها على مشرحة الوطن، ولكن ليس قبل استئصال الأورام من جسد النظام والحُكم. فهذه الأورام تفشَّت في بلادنا قبل ولادة حزب الله، وهي ما يتسبّب بفقدان البلد لتوازنه يا غبطة البطريرك!
كلمة أخيرة. يقول أحد الفلاسفة: “عندما تسمع صوت “صراخ الأخلاق” يرتفع على باب البيت، فادخل سريعاً لتتفقّد الجريمة التي تحدث في الداخل”. كأنّ هذا القول صيغ خصِّيصاً لنا. ها هو صراخ الأخلاق يمزّق فضاءنا ويخرق جدار الصوت كالطائرات المعادية. ولا سلاح لدى حُكّامنا للتصدّي لهذه الطائرات، إلاّ سلاح “القمصان السود” المضادّ للمواطنين اللبنانيّين. فهو السلاح الأمضى، لمنع الحلول، ولتمييع الأزمات، ولقمع كلّ محاولةٍ لمحاسبة اللصوص، ولإجهاض أيّ خطّة للتغيير. لقد كان يُراد لانتفاضة 17 تشرين/أكتوبر أن تقوم بفحصِ ضميرٍ جماعي للشعب، يمكِّن لبنان من أن ينفض عنه آثام العقود السابقة ويتعلَّم. نعم. لقد أحبط سلاح “القمصان السود” كلَّ الفحوص، وبضميرٍ مرتاح. هل من قهرٍ يوازي هذا القهر؟ وهنا إقتضى التساؤل: هل سنترحَّم يوماً على زمن الأعداء؟ هكذا يبدو. ولكن، أليس بطش الأعداء الأصيلين أرحم من بطش مرتزقتهم بنا؟ لا تعليق.