قبل أيام قليلة، صرح جان إيف لودريان قائلاً: “أبلغنا المسؤولين في بيروت بوجوب إنهاء التعطيل المتعمد لتأليف الحكومة اللبنانية”.
لكن على من تقرأ مزاميرك يا داوود؟
منذ ما قبل الإنهيار الإقتصادي والمالي المريع في خريف العام 2019، وتحذيرات الخبراء الدوليين من كارثة آتية لا ريب فيها، ستجتاح لبنان وقد تشظيه وتمزقه، لا تنفك تتوالد وتنذر بالأخطار والأهوال، ومع ذلك بقيت آذان أهل السياسة مسدودة، وظلت حبال الإنقاذ مقطعة الأوصال ومفككة الأواصر، وكأن بهم ينزلون في مضارب بني ربيعة وشاعرهم الذي قال قبل 1300 سنة:
لقد أسمعت لو ناديت حياً/ ولكن لا حياة لمن تنادي.
ماذا في ذاكرة الآذان المغلقة؟
أولاً، من عام 2018:
في الواحد والعشرين من أيار/ مايو 2018، قالت وكالة “فيتش” ـ Fitch للتصنيف الإئتماني “إن لبنان يواجه تحديات مالية واجتماعية خطيرة، إذا لم تحدث تغييرات جوهرية في الوضع السياسي القائم”.
وفي الثلاثين من آب/ أغسطس 2018، حذرت مجلة “إيكونوميست” (The Economist) البريطانية من انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية، وهذا الإنهيار سيدفع بإتجاه عدم الإستقرار الإجتماعي والسياسي، إلا أن أخطر ما قالته “إيكونوميست” جاء على الوجه التالي:
“إن أرقام المصرف المركزي مضللة، وهو يقوم باقتراض العملات الأجنبية التي تحملها المصارف واستعمالها للحفاظ على ربط سعر الصرف، في مقابل حصول المصارف على عوائد هائلة، وأن ساسة لبنان حققوا ثروات ضخمة ويقومون بتعويم مخططات خيالية”.
وفي التاسع عشر من كانون الأول/ ديسمبر 2018، أكد تقرير أصدرته وكالة “فيتش” أن “لبنان يفتقر إلى خطة ذات مصداقية قابلة لخفض عجز الميزانية”، وأن المالية العامة اللبنانية “ازدادت سوءا في عام 2018”.
تلك عينات قليلات من تحذيرات وردت قبل ثلاثة أعوام، والسؤال الناتج عن ذلك: ماذا كان يفعل المسؤولون؟ الله أعلم، ربما كانوا يلهون، ولكن قصة اللهو، تستحضر ما جاء في روايات تاريخية عن الخليفة العباسي المستعصم، إذ كان “يلهو” مع جواريه وحريمه حين كان هولاكو يدك أسوار بغداد عام 1258، ولم يأخذه عقله إلى ما يجري خارج الأسوار، إلا بعدما أصاب سهم الجحافل المهاجمة إحدى عيني جارية هي أفضل المحبوبات لديه!
ثانياً، في الآذان غير الصاغية عام 2019:
في كانون الثاني/ يناير 2019، خفضت وكالة “موديز” (Moody’s) تصنيفها الإئتماني للبنان، من “b3” إلى “caa -1″، وقرأ خبراء المال والإقتصاد هذا الخفض، بأنه مؤشر إلى مخاطر سلبية كبيرة، وفي الأول من تشرين الأول/ اكتوبر، حذرت الوكالة عينها، من خفض جديد لتصنيف لبنان خلال الأشهر الثلاثة التي تلت صدور التحذير.
وأما وكالة “ستاندارد أند بورز” (Standard & Poors)، فقالت في تقرير لها في 23 آب/ أغسطس 2019 إن ثقة المستثمرين في لبنان مستمرة في التراجع، وانعدام الثقة مرشح للإستمرار ما لم يتمكن المسؤولون اللبنانيون من تجاوز خلافاتهم السياسية والذهاب إلى تطبيق برامج إصلاح بنيوية تقلل من عجز الموازنة وتنشط الأداء الإقتصادي. وفي 15 تشرين الثاني/ نوفمبر، تم تخفيض تصنيف لبنان إلى CCC/C.
ماذا كان يفعل المسؤولون اللبنانيون حيال هذه التقارير؟
كانوا “يغذون” اللبنانيين بمحاسن الألفاظ ومزينات الكلام، ومثل هذه “التغذية” تقود إلى الفيلسوف أفلاطون، إذ يقول:
“تسقط الدولة حين تبدأ طبقة الحكام بالتلاعب بالكلام، فيوردون الكلام في معرض الجد، ويهزؤون بنا كأننا أطفال”.
رحم الله افلاطون.
أفلاطون: “تسقط الدولة حين تبدأ طبقة الحكام بالتلاعب بالكلام، فيوردون الكلام في معرض الجد، ويهزؤون بنا كأننا أطفال”
في ذاكرة عام 2019 أيضاً:
وكالة “فيتش” خفضت (24 ـ 8 ـ 2019) تصنيف لبنان من (-B) إلى (CCC)، وللمرة الثانية (13 ـ 12 ـ 2019)، خفضت الوكالة ذاتها تصنيف لبنان الإئتماني من (CCC) إلى (CC).
وأما وكالة “بلومبيرغ” (Bloomberg) فقد كانت حذرت في الأول من تشرين الأول/ أكتوبر 2019 من “اتساع التفاوت بين أسعار صرف الليرة اللبنانية بين السوق الرسمية والسوق الموازية”، وقالت إن ذلك يعني “أن الوضع المالي اللبناني دخل مرحلة الخطر وبات الإنزلاق قريباً، وهو مسألة وقت لا أكثر”.
وفي مقالة مدوية وشبيهة بالعصف المأكول نشرتها مجلة “إيكونوميست” بتاريخ 5 ـ 10ـ 2019، جاء “أن الحكومة اللبنانية تصر على أن الوضع تحت السيطرة، لكن قيمة هذه التطمينات تنخفض بسرعة انخفاض الليرة اللبنانية، وموازنة 2019 تضمنت أرقاماً مغلوطة، والمسؤولون اللبنانيون منشغلون بالمشاحنات ويديرون بلادهم بالمشاحنات”.
ما نوع هذه المشاحنات؟
لم تتحدث “إيكونوميست” عنها، لكن الذين كتبوا عن الجدال البيزنطي تحدثوا كثيراً وأسهبوا عن أنواع تلك المشاحنات وأجناسها وأصنافها، ومنها على سبيل المثال: ما حجم إبليس؟ وهل هو من الضخامة التي يتجاوزها الخيال فلا يتسع له المكان، أم هو مثل خيط رفيع يمكن إدخاله في ثقب إبرة؟
سقطت القسطنطينية عام 1453 مع هذا النوع من الجدالات، وسقط لبنان مع هذا النوع من المشاحنات.
ثالثاً، في الآذان المسدودة عام 2020:
في ذاكرة العام الماضي يتقدم تقرير(1ـ 5 ـ 2020) لوكالة “بلومبيرغ” ورد فيه أن السلطات اللبنانية ليس لديها خطة جادة لإنقاذ البلاد من الإنهيار، وفي السابع من تموز/ يوليو جاء في تقرير لـ”بلومبيرغ” أيضا أن “لبنان ينهار على ما يبدو، فانهيار العملة أدى إلى بؤس العائلات إلى تحطم الأنشطة الإقتصادية، فيما السياسيون والمصرفيون يتبادلون الاتهامات عبر موجات الأثير”.
ونشرت صحيفة “ول ستريت جورنال” (The Wall Street Journal) الأميركية (17 ـ 8 ـ 2020) مقالة تحدثت فيها عن الفقر في لبنان، وقالت “قبل إنفجار مرفأ بيروت، قدّر البنك الدولي أن 22 في المائة من اللبنانيين يمكن أن يهبطوا إلى مستوى الفقر المدقع، وأن 45 في المائة باتوا تحت خط الفقر”، وفي السابع والعشرين من أيلول/ سبتمبر 2020، ورد في “ول ستريت جورنال” أن لبنان أشبه بالقطار السريع الذي ينزلق نحو الهاوية.
إلا أن الأشد مأساوية من بين الموضوعات المختارة عن لبنان في عام 2020، ما ذهبت إليه صحيفة “لوفيغارو” (le figaro) الفرنسية في الثالث والعشرين من تموز/ يوليو، حين أفردت على صدر صفحتها الأولى هذا العنوان: “لبنان يهبط إلى الجحيم ـ la descente aux enfers:liban”.
يقول الحكيم الصيني كونفوشيوس: لا أخشى ألا يعرفني الناس، بل أخشى ألا أعرف الناس، وأخشى أكثر ألا أعرف شيئاً عن الناس، وأخشى أكثر ألا أعرف شيئاً عن أوضاع الناس
هل يعرف المسؤولون اللبنانيون أن المواطنين اللبنانيين في الجحيم؟ أو في جهنم؟ أو في بئس المصير؟
لا أحد يدري إذا كانوا يعرفون، وبين معرفة أحوال الناس من عدمها يقول الحكيم الصيني كونفوشيوس: لا أخشى ألا يعرفني الناس، بل أخشى ألا أعرف الناس، وأخشى أكثر ألا أعرف شيئاً عن الناس، وأخشى أكثر ألا أعرف شيئاً عن أوضاع الناس.
يستحق الرحمة كونفوشيوس.
رابعاً، في الآذان التي تسمع باليمين فتخرج الأسماع من الشمال، وفيها بعض من ذاكرة عام 2021:
بتاريخ 3 ـ 3ـ 2021، قالت صحيفة “لوموند” (Le Monde) الفرنسية، إن لبنان ينحدر إلى هاوية مخيفة وكأن هناك من يتعمد دفع الشعب إلى الجوع، وفي تقرير بثته قناة “bbc” البريطانية (6 ـ3 ـ2021) أن “الإسكوا” تقدر ارتفاع نسبة الفقر في لبنان من 28 في المائة عام 2019، إلى 55 في المائة لغاية مايو/ أيار 2020″، وبتاريخ 9 ـ 3 ـ 2021 قالت صحيفة “لوفيغارو” الفرنسية “إن طبقة الأوليغارشية اللبنانية تتفرج على انهيار المجتمع اللبناني”، وبحسب الصحيفة الفرنسية، أن لبنان بات يعرف ما يمكن تسميتها بطبقة “الفقراء الجدد”، وهؤلاء هم من الأساتذة، والعسكريين، وموظفي القطاع العام، والمتقاعدين، فرواتبهم باتت في الحضيض، فيما المصارف تحجز مدخراتهم، ولا يعرفون إليها سبيلا.
هل من أذن سمعت؟
هناك آذان الموجوعين التي تسمع، هذه الآذان تسمع وعوداً، وتسمع أيضا أقوالاً معسولة، وفيها قال حكيم صيني غير كونفوشيوس، بل هو منشيوس، وفي القول المعسول يقول:
لا أصادق الرجل الذي يصعد إلى الشجرة ليصطاد سمكة.
هل تثمر الأشجار أسماكاً؟
ربما.. سينتظر اللبنانيون حتى تنبت الأسماك على رؤوس الأشجار.
هذا إذا بقيت لنا شجرة.