منذ هزيمته في معركة الباغوز في ريف ديرالزور في سوريا عام 2019، لم تفتر جهود تنظيم الدولة الإسلامية ومساعيه من أجل “العودة” وفرض نفسه لاعباً رئيسياً على خريطة الصراعات المحتدمة في كل من سوريا والعراق.
ورغم “غزوة الثأر” التي قادها انتقاماً لمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، ومن بعدها “غزوة الاستنزاف المباركة” التي ما زالت مستمرة ضمن استراتيجية متكاملة لانهاك خصومه وتشتيت انتباههم، فإن الضربة المؤثرة التي يمكن أن تشكل حدثاً تأسيسياً يمهد لعودة قويّة للتنظيم جاءت من أفغانستان أو “ولاية خراسان” حسب ما يطلق عليها في أدبياته.
وتمثلت في العملية النوعيّة التي نفذها يوم الأحد الواقع في 2 من شهر آب/اغسطس الجاري في ولاية جلال آباد الأفغانية، والتي نجح من خلالها في إعادة تسليط الضوء على استراتيجية “هدم الأسوار” أو “فك العاني” التي شكلت بين عامي 2012 و2013 بداية نهوضه الجديد بعد هزيمته في العراق على يد الصحوات عام 2009 وصولاً إلى إعلان الخلافة عام 2014.
ولا تقتصر أهمية العملية وخطورتها على النتائج الوخيمة التي أسفرت عنها سواء لجهة النجاح في اقتحام سجن محصن ومحمي وإطلاق سراح المئات من معتقليه، أم لجهة دلالاتها على استغلال التنظيم للاتفاق الموقع بين الولايات المتحدة وحركة طالبان في أفغانستان من أجل توسيع نشاطه “الجهادي” مستثمراً ركون الأخيرة إلى التهدئة وسلوك المسارات السياسية، بل تتعدّى ذلك إلى درجة اعتبارها بمثابة حدث تأسيسي في مسيرة التنظيم من شأنها قرع جرس الانذار في مختلف الدول التي ينشط فيها، ولا سيما في سوريا والعراق اللتين تغض سجونهما بآلاف المعتقلين من مقاتلي التنظيم وعوائلهم، خاصة إذا اخذنا بالاعتبار الخطة المحكمة التي اتبعها الأخير في تنفيذ عملية ننجرهار.
خطة الاقتحام
لم يتطلّب تنفيذ خطة اقتحام سجن ننجرها، سوى اشتراك 11 مقاتلاً من مقاتلي تنظيم الدولة الاسلامية، تمّ تقسيمهم إلى ثلاثة مجموعات بالإضافة إلى الانتحاري مفجر العربة المفخخة.
وقد عملت المجموعة الأولى المؤلفة من أبو علي البنجابي وحامد الطاجيكي ومولوي سعد الخراساني، على تأمين التغطية النارية لوصول السيارة المفخخة التي قادها الانتحاري أبو رواحة الهندي، إلى بوابة السجن، ومن ثم عزل منطقة الهجوم ومنع قوات الشرطة الأفغانية من الاقتراب منها.
وجاء دور المجموعة الثانية بعد الصدمة التي أحدثها تفجير السيارة المفخخة، حيث عمل عناصرها (قاري أسامة الخراساني وأبو عمر الطاجيكي وإسماعيل الطاجيكي وإدريس الطاجيكي والدكتور أبو حيان الهندي) على تدمير أسوار السجن بالعبوات الناسفة تمهيداً لاقتحامه والاشتباك مع حاميته لعدة ساعات، قبل أن يتمكنوا من استهداف أبراجه الخلفية وقتل جميع من فيها، وهو ما أتاح لهم الوصول إلى الزنازين حيث فتحوا الطريق للمعتقلين للهروب وأرشدوهم إلى الطرق المناسبة في الخارج.
في غضون ذلك، كانت المجموعة الثالثة المؤلفة من عنصرين أبو دعاء الهندي، وخيبر الكابلي تعمل على إشغال القاعدة الأميركية في المدينة بهدف منعها من تقديم أي دعم لحامية السجن أثناء تعرضها للهجوم.
وتذكّر هذه العملية من حيث خطتها المحكمة وقلة أعداد المنفذين المشاركين فيها بالعمليّة التي قادها أبو أنس الشامي عام 2013 لإطلاق معتقلي التنظيم في سجن أبو غريب في العراق والتي شكلت في حينه منعطفاً خطيراً في صعود نشاط التنظيم، لا سيما أن معظم من أطلق سراحهم كانوا من القيادات الكبيرة ومن طبقة “الأمراء” الشرعيين والعسكريين.
دلالات العملية لا تقتصر على الجانب الأفغاني فحسب، بل تأتي في سياق استراتيجية وضعها زعيم التنظيم السابق أبو بكر البغدادي قبل مقتله بعدة شهور، وعملت قيادة التنظيم الجديدة على اعتمادها والسعي لتطبيقها
دلالات العملية
أفغانياً، تشكل عملية اقتحام سجن ننجرهار مؤشراً على تنامي قدرة تنظيم الدولة على تنفيذ عمليات أمنية معقدة وسط وجود حماية أميركية لا يستهان بها في محيط مكان العملية.
ولعل الهدف الرئيسي من إطلاق معتقلي التنظيم بهذا الأسلوب الاستعراضي للقوة هو تفنيد أسلوب حركة طالبان التي ذهبت إلى خوض غمار السياسة من أجل إطلاق سراح معتقلي الحركة، وهو الشرط الذي ما زال يتعرض للكثير من الشد والجذب أثناء تنفيذه من قبل السلطات الأفغانية.
وكأن التنظيم أراد أن يقول أن “فك العاني” لا يكون بالسياسة، وإنما بالقتال والعمليات الأمنية، وأن الأخيرة هي التي تجلب النتيجة الحقيقية وليس استجداء الأعداء.
وبالتالي يمكن وضع هذه العملية ضمن إطار المنافسة التي يقودها التنظيم مع بعض الحركات الجهادية مثل حركة طالبان وتنظيم القاعدة حيث يريد التنظيم أن يثبت أن النهج الذي يتبعه هو النهج الصحيح تمهيداً لإعادة ترميم قدراته على الاستقطاب وتجنيد عناصر جدد من أجل تعزيز نفوذه.
لكن دلالات العملية لا تقتصر على الجانب الأفغاني فحسب، بل يأتي اقتحام سجن ننجرهار في سياق استراتيجية وضعها زعيم التنظيم السابق أبو بكر البغدادي قبل مقتله بعدة شهور، وعملت قيادة التنظيم الجديدة على اعتمادها والسعي لتطبيقها. وتقوم هذه الاستراتيجية على اعتبار هدف “فك العاني، أي إطلاق سراح معتقلي التنظيم من ابرز الأهداف التي يسعى إليها الأخير.
وقد أكدت افتتاحية العدد 246 من صحيفة النبأ التي تصدر عن ديوان الإعلام المركزي في “داعش” على أن قيادة التنظيم ما زالت تضع قضة “الأسرى” على رأس قائمة أولوياتها ” وأن ولاة الأمر ما زالوا يوصون إخوانهم بتقديم هذه القضية على ما عداها”. وشددت على أن “الواجب الأخص على جنود الدولة الإسلامية بأن يجعلوا هذا الأمر همهم الدائم الذي لا يغفلون عنه”.
ولم يكن من قبيل المصادفة أن تذكر الافتتاحية من بين اساليب العمل على إطلاق الأسرى، “العمليات التي يقوم بها الأسرى داخل سجونهم بمفردهم أو بإعانة من إخوانهم من الخارج، لفكاك اسر أنفسهم وغيرهم من المأسورين” إذ في ذلك إشارة واضحة إلى بعض حالات التمرد التي قادها معتقلو التنظيم في بعض السجون التي تشرف عليها قوات سوريا الديمقراطية في مناطق شرق الفرات، وقد نجح بعضها في تأمين هروب بعض المعتقلين.
وبما أن غالبية معتقليي داعش يتواجدون في سجون في سوريا والعراق، حيث يبلغ عددهم مع عوائلهم عشرات الآلاف، من بينهم عدد كبير من قيادات الصف الأول والثاني، فإن من شأن ما حدث في ننجرهار أن يطلق صفارة الانذار في هذين البلدين ويدفع الجهات المشرفة على أماكن اعتقال مقاتلي التنظيم أن تعمل على وضع خطط إضافية من أجل تحصين السجون ومنع اقتحامها وتهريب من فيها من معتقلين.
وما يزيد من إلحاح هذا المطلب، أن بعض المتواجدين في سجون قوات سوريا الديمقراطية اصبحوا هدفاً لأجهزة الاستخبارات الاقليمية وخصوصاً التركية التي لم تخف سعيها إلى إطلاق عائلة مالدوفية مكونة من إمرأة وأربعة أطفال. إذ من شأن ذلك أن يخلق نقطة تقاطع بين مصالح السياسة التركية من جهة وخطط تنظيم داعش من جهة ثانية، وهو ما قد يعني أن استهداف السجون وإطلاق سراح المعتقلين قد يكون ورقة مرغوبة إقليمياً من أجل التأثير في ملف شرق الفرات وتحديد مآلاته.