تلقى صندوق النقد الدولي طلباً من مصرف لبنان المركزي من أجل تقديم مساعدة طارئة للبنان في إطار “أداة التمويل السريع”، للتعامل مع الحاجات المستجدة في ظل الدمار الذي تعرّض له مرفأ بيروت والمناطق المحيطة به بعد الإنفجار. مع العلم أن هذه الأداة تُعد من أدوات التمويل التي يقدّمها صندوق النقد للدول التي تعاني من مشاكل تمويليّة مستجدة وذات طابع عاجل، من دون أن يقترن هذا التمويل ببرنامج متكامل من النوع الذي كان يتفاوض عليه لبنان طوال الفترة السابقة.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن أداة التمويل السريع تُعد محدودة من ناحية الحجم قياساً ببرنامج القرض الذي كان يسعى إليه لبنان، إذ تفيد مصادر مقرّبة من حاكم مصرف لبنان رياض سلامة أن حجم التمويل الذي كان يسعى الحاكم إلى تأمينه من الصندوق في هذا الإطار لا يتجاوز الـ 250 مليون دولار تخصص لإعمار المناطق المدمرة وإغاثة المنكوبين.
وكان لافتاً للإنتباه إنقسام مواقف ممثلي الدول في المجلس التنفيذي لصندوق النقد بين خيارين: الأوّل، يدعو لتنفيذ الإصلاحات قبل البحث في أي دعم مالي يمكن تقديمه لبنان؛ الثاني، يركز على البحث عن سبل توفير الدعم المالي الطارىء للبنان، وتحديداً من خلال “أداة التمويل السريع”. وفي المحصّلة، سقط الطلب اللبناني بعد أن تبيّن أن أغلب أعضاء المجلس تبنوا الرأي الأول.
صندوق النقد يحدّد ثلاثة إجراءات ضروريّة قبل البحث في أي تمويل للبنان، وهي إيجاد إطار تنظيمي لمسألة التدفقات الماليّة إلى الخارج، أي الكابيتال كونترول، ومعالجة مؤسسات الدولة غير الفعالة أو غير المنتجة، بالإضافة إلى صياغة مقاربات لمعالجة أزمة القطاع المالي
أولويات متطابقة ومتضاربة!
عند مراجعة مواقف المدراء التنفيذيين الذين يمثّلون بلدانا معيّنة في صندوق النقد، والذين صوتوا ضد منح الدعم المالي للبنان، يمكن تلمّس أولويّة كل من هذه الدول على الشكل الآتي:
- الولايات المتحدة الأميركيّة: التشديد على أهمية إلتزام لبنان بقواعد مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، بالإضافة إلى التعامل مع فاتورة القطاع العام المنتفخة وإصلاح مؤسسات الدولة، وتطبيق سعر صرف مرن لليرة اللبنانيّة. لبنان يحتاج إلى حكومة شفافة وقادرة على التعامل مع التحديات، والحد من سعي أقطاب الطبقة السياسيّة إلى المصالح الشخصيّة.
- فرنسا: تشديد على حاجة لبنان إلى خطة إصلاح واضحة وتبنٍّ سياسي واضح للإصلاحات، بالإضافة إلى وجود إدارة شفافة وواضحة لأي دعم دولي يمكن أن يحصل عليه لبنان.
- السعوديّة: تشديد على أهميّة الإنفاق تبعاً للأولويّات الإجتماعيّة بالإضافة إلى إستعادة نزاهة وملاءة النظام المالي، كما إعطاء أولويّة قصوى لتطبيق الإصلاحات.
- ألمانيا وهولندا: ركزتا على السيطرة على الحدود، بالإضافة إلى تطبيق قواعد مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، كما ركّزتا على تخفيف الإعتماد على التعامل النقدي خارج النظام المالي.
- فلندا: شددت على أهميّة حماية السيولة المتبقية من التدفّق إلى الخارج، في إشارة واضحة إلى موضوع الكابيتال كونترول، كما شددت على ضرورة إجراء التدقيق اللازم في ميزانيات مصرف لبنان المركزي.
أما الدول الأخرى، فقد طالبت بإعتماد مقاربة أكثر مرونة إتجاه الوضع اللبناني، وتحديداً من خلال الأخذ بعين الإعتبار حاجة لبنان إلى التمويل الطارىء والمُلح، كما إعتبرت هذه الدول أنّه لا يتعيّن على الصندوق إنتظار معالجة كل الملفات السياسيّة العالقة قبل منح هذا الدعم إلى لبنان. ومن هذه الآراء ظهرت مواقف كل من إيطاليا وإيران وكندا وتركيا وروسيا. كما طالبت دولتان أفريقيتان بالبحث عن طرق مبتكرة لتقديم الدعم الطارىء المطلوب. وتقدمت كل من البرازيل والأرجنتين برأي متمايز، من خلال الحديث عن ضرورة البحث عن طرق تحمي الفئات الأكثر هشاشة في لبنان من تحمّل وزر الأزمة، كما طالبتا بمعالجة أسباب عدم فعاليّة كل المعالجات السابقة التي جرى إعتمادها.
يذكر أن المجلس التنفيذي إستمع إلى عرض قدمه رئيس بعثة صندوق النقد التي تفاوض لبنان مارتين كريسولا وحدّد فيه ثلاثة إجراءات ضروريّة قبل البحث في أي تمويل للبنان، وهي إيجاد إطار تنظيمي لمسألة التدفقات الماليّة إلى الخارج، أي الكابيتال كونترول، ومعالجة مسألة مؤسسات الدولة غير الفعالة أو غير المنتجة، بالإضافة إلى صياغة مقاربات لمعالجة أزمة القطاع المالي. أما العبور إلى معالجة المسائل الثلاث، فلن يتم قبل التوافق على خطّة إصلاح متكاملة تقرها الحكومة اللبنانية الجديدة.
بإنتظار الحكومة الجديدة
عمليّاً، كان من الواضح من القرار الأخير الذي إتخذه صندوق النقد أن الإهتمام الدولي المستجد بعد إنفجار المرفأ لم يغيّر شيئاً في معادلة الدعم المالي المطلوب من الصندوق، والشروط التي يفرضها الصندوق مقابل هذا الدعم. مع العلم أن المداخلات التي قدّمها ممثلو الدول التي إعترضت على منح لبنان الدعم المالي الطارىء عكس تبايناً واضحاً في أولويّات هذه الدول في كل ما يتعلّق بالأزمة الماليّة، فيما تأثّرت أولويات هذه الدول بالمتغيّرات السياسيّة التي تحكم مواقفها، ولو أن الملاحظات التي جرى تقديمها كانت بمعظمها ذات طابع مالي إقتصادي.
وفي كل الحالات، بات من الطبيعي أن يُحال الملف هذا برمّته إلى الحكومة الجديدة، والمقاربات التي ستذهب إليها للتعامل مع الأزمة، خصوصاً أن جميع الشروط التي ما زال صندوق النقد يتحدّث عنها ترتبط بملفات لا يمكن التعاطي معها إلا بحكومة مكتملة الصلاحيات، ومن خلال خطّة متكاملة تستطيع التفاوض عليها مع الصندوق بعد توفير الدعم السياسي اللازم لها. ولهذا السبب، سيكون على اللبنانيين إنتظار الحلول والتسويات السياسيّة قبل العودة إلى مخاض البحث عن المعالجات الماليّة والإقتصاديّة.