كان شارل ديغول قد صرّح قبل صدور نتائج الاستفتاء (نيسان/أبريل 1969)، بأنّه سيستقيل من منصبه إذا لم توافق أكثريَّة الشعب الفرنسي على طروحاته. يومها، ظنَّ كثيرون أنّ الجنرال كان يلتمس العاطفة الشعبيَّة، كي تُقبَل اقتراحاته الإصلاحيَّة. سقط الاستفتاء، وحبست فرنسا أنفاسها وانتظر العالم بوجوم ما سيقرّره ديغول. لم يترك “قائد فرنسا الحرّة” الرئاسة فحسب، بل هجر عالم السياسة إلى الأبد. وانسحب، بعد أيّامٍ قليلة، إلى دارته في Colombey-les-Deux-Églises حيث توفي (في السنة التالية) تاركاً وصيَّتيْن: الأولى، ألاّ يحضر جنازته رؤساء ولا وزراء ولا سياسيّون؛ والثانية، أن يُحفَر على قبره فقط: “شارل ديغول 1890-1970”.
هكذا انتهت حكاية أبرز الشخصيّات المؤثِّرة في تاريخ فرنسا. لقد هالَ ديغول أن يخسر الاستفتاء. لأنّه قرأ في هذه الخسارة، رفضاً لحكمه ونزعاً لثقة الشعب الفرنسي عنه. هو الذي أغدق عليه هذا الشعب النعوت المعظِّمة لشأنه وبأسه؛ سمّوه “مُنقِذ فرنسا الڤيشيَّة” و”باني فرنسا الحديثة” و”مؤسِّس الجمهوريَّة الخامسة” و”الأبّ الروحي للجمهوريَّة”.
وما استحضار سيرة المارد الفرنسي، اليوم، إلاّ لأنّنا نعيش زمناً فرنسيّاً بامتياز. انطلق، من لحظة الاستذكار الاحتفالي بولادة “لبنان الكبير” من الرحْم الفرنسي، وتوالى مع مشهد حفيد الجنرال غورو، وهو يحاول، عبر الصعقات الكهربائيَّة، إعادة الحياة إلى قلب هذا اللبنان الصغير المتهالك بفضل “نخبة” من قادته. نخبة، أسّست لنظريَّةٍ في علم السياسة ستُدرّسها الجامعات، في كلّ مرّة احتاج طلاّبها نموذجاً يبيِّن لماذا تُخرَّب الأوطان ومتى تُعطَّل الأنظمة وكيف تُدمَّر المؤسّسات وتُقمَع الشعوب!
كذلك، تمّ فرْز لبنان بلداً يعلِّم قادتُه قادةَ العالم، كيف تُصان الكرامات عَمَلاً بالقاعدة القائلة “كرامتنا ليست في ما نقوم به، بل في ما نفهمه”. إذن، لحُكَّامنا فهْمهم الخاصّ للكرامة، بعامّة، ولكرامة الحاكم، بخاصّة. أمّا “النزق” الديغولي، فهو بمعاييرهم عنفوانٌ في غير محلّه. وكأنّني بهم يلومون ديغول في قبره ناصحين “ما هكذا يُحتوى غضب الشعوب يا جنرال!”. أسَمعتَ في عليائك أيّها الجنرال؟ تعلّم من أقزام السلطة في لبنان. وصَلِّ لربّك فِعْل الندامة!
لا أُحسُّ إلاّ بالخجل هذه الأيّام. إحساس، تضخَّم بقوّة عندما أتانا الرئيس الفرنسي وصيّاً جديداً على نظامنا
قبل أسبوعيْن، اتّصلت بي إحدى المحطّات الفرنسيَّة، لتطلب منّي، عبر أحد صحافيّيها، مقابلة. “ما هو موضوع هذه المقابلة؟”، سألتُه. فأجاب “نُعِدُّ تحقيقاً عن اللبنانيّين الحاملين جنسيَّة أجنبيَّة، ولم يغادروا لبنان بعد”. يا سلام، قلتُ في نفسي. بات التشبُّث بهذا الوطن، ظاهرةً تستدعي البحث والتقصّي! اعتذرتُ لهم عن “تلبية الدعوة”، واعتذرتُ لنفسي، أيضاً، لأنّني ما زلتُ أرفض مغادرة لبنان. علماً، أنّ هذه الفكرة تجتاحني منذ أسابيع، وبإلحاح. لكنّ دوافع تفكيري بالرحيل (مجدَّداً) ليس سببها، إطلاقاً، الخوف من جوعٍ وعوز، أو من تشظّي روحي في انفجار، أو من سحْل جسدي في ساحات التظاهرات. الدافع الوحيد هو شعوري بالمهانة والخجل. شعور، لا يني يتدفّق من حواسّي الخمس على مدى أيّام الأسبوع. حال لبنان، يُشعِرني بالخجل الجارف. حالنا في لبنان، يحفر خندقاً غميقاً في قلبي. إنّه لرهيبٌ يا أصدقاء، ذاك الحزن الذي يعصف بالمرء جرّاء هكذا شعور. شعور الخجل بوطنه. خجل، يماثل خجلنا بأمّنا أو بأبينا. فعندما أصادف أحد أصدقائي القدامى (من غير اللبنانيّين خصوصاً)، صرتُ أشعر أنّني أصادف شخصيّتي القديمة. فأتحدّث معه كما كنتُ، وليس كما أصبحت! ما هو دليل التحرّر؟
سؤال يطرحه الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، ويبدو، هنا، من خارج السياق. لكنّ “فيلسوف الأخلاق” يجيب عليه فوراً “هو، ألاّ يعود المرء يشعر بالخجل أمام نفسه”. إذن، العلاقة وثيقة بين الحرّية والكبرياء. وأيّ مسٍّ بحرّية الإنسان، هو مسٌّ بكبريائه، والعكس صحيح. المعادلة بسيطة للغاية. من هنا، عندما أشعر بالخجل لكوني لبنانيَّة، يتأكّد لي بالدليل القاطع أنّ حرّيتي بخطر. بل إنّها مُنتَهَكة. بل مُستَلَبة. لذا، تذكّرتُ ما قاله نيتشه. لأنّني لا أُحسُّ إلاّ بالخجل هذه الأيّام. إحساس، تضخَّم بقوّة عندما أتانا الرئيس الفرنسي وصيّاً جديداً على نظامنا. ومع كلّ ما سبق الزيارتيْن ورافقهما وأعقبهما من تسريبات وتصريحات ومواقف ومشهديّات وانطباعات و.. استنتاجات.
من أين جاء هذا التفوّق في قلّة الحياء لدى حُكَّام لبنان؟ ربّما سأل ماكرون نفسه هذا السؤال، في كلّ مرّة سمعهم وسمع عنهم والتقاهم. وعندما أتاه الجواب، خاطبهم من دون قفّازات. حتى الصحافة الفرنسيَّة، استوقفتها نبرة رئيسها التقريعيَّة للمسؤولين اللبنانيّين. نبرة الترهيب والترغيب التي تُتَّبع مع الأطفال؛ “إذا أكلتَ السندويش سأجلب لكَ كذا”، تقول الأم لولدها، “أمّا إذا كنتَ غير مهذَّب فسأحرمك من كذا..”. لكن، حتى مع ولدها الصغير، تنتقي الأمّ الحنون كلماتها حين تؤنِّب كيْلا تجرح ثقة الطفل بنفسه وبقدراته. لذا، تأخذه أحياناً بعيداً عن العيون لتوبِّخه “لا تكرّر ذلك مرّة أخرى، أفهمت؟”. ايمانويل ماكرون لم يراعِ حُكَّامنا، هكذا، حين حقَّرهم أمام كاميرات العالم. يا لخجلنا يعبِّئ المدى!
وأنا أتابع مؤتمره الصحفي، كنتُ أخبِّئ وجهي كيْلا أشهد على “بهدلتهم” العلنيَّة. خجلتُ عنهم، لأنّهم، بنظر ماكرون، يمثِّلوننا ويمثِّلونني. فعُدتُ واستحضرتُ كلّ خجلي من نفسي ومن الغير وعلى الحال الذي قبلتُ أن أصل إليه في هذا البلد. كيف أتقبَّل هذه العيشة؟ لستُ أدري. لأوّل مرّة في حياتي أشعر بهذا القدْر من العجز. وكأنّني أفقدُ كلّ قدرة لي على التعبير والكتابة. فلا قيمة لما يكتبه الإنسان إذا لم يكن حرّاً، أليس كذلك؟ القيود تكبِّلني من كلّ الاتجاهات، والرصاص يطوّقني من كلّ صوب. أضحت روحي كالمواقع الساقطة عسكريّاً.
سألتُ الربّ مراراً وأسأله اليوم، ماذا فعل اللبنانيّون ليستحقّوا هذا المصير؟ ربّما لأنّهم لا يفعلون شيئاً غير البكائيّات، بالمعنى الرمزي للكلمة. فلقد استنفد أهل لبنان (من غير جماهير السلطة طبعاً)، كلّ ما كان في جعبتهم من مفردات وتعابير لنقد هؤلاء الحُكَّام وهجائهم وشتمهم. لكنّ شيئاً لم ينفع معهم. رغم أنّ أيّ جملة أو لفظة ممّا قالوه لحُكَّامهم، تهدُّ جبالاً لا أنظمة فقط، حتى في دول العالم المتخلِّفة! قالوا لهم، أنتم فاشلون وتافهون وعاجزون وأنذال ومتواطئون ومرضى نفسيّون ومتعصّبون ولصوص ومافياويّون وساقطون ومتهالكون وقَتَلَة ومجرمون ضدّ الإنسانيَّة و.. ماذا بعد؟
صاح “محيط المحيط” واستسلمت كلّ قواميس اللغة ولم يستسلموا، هم. لكنّنا، ومع غبار كلّ عواصف السُباب، لم نتنبَّه إلى مدى هُزال وضحالة وصغر أفراد الطبقة السياسيَّة في بلادنا! لم نلحظ، كم إنّهم قاصرون، بالمعنى الحقيقي لكلمة “قاصر”. ولم نكن نوقن، أنّ أقصى ما يمكن أن يتسلَّمه هؤلاء من مناصب (اللهمّ اللامعون منهم)، هو رئاسة بلديَّة صغيرة. معقول؟ نعم. انظروا إليهم واستخلصوا.
فرَك ماكرون يديْه، وقال لهم “حسناً سآخذ على عاتقي كلّ شيء وسأسرِّب لكم الأجوبة”. وهذا ما فعله فعليّاً. فاصطفى لهم، في الجواب الأوّل، رئيساً للحكومة “لم تُقبِّل فمه إلاّ أمّه” (في السياسة)
فلقد ظهّر لنا ماكرون، الداخل بالأمس إلى عالم السياسة، قصور سياسيّينا الموصوف. أولئك الذين أفنوا أعمارهم وأعمارنا، في هتْك حُرمات السياسة ومِنْعَة السيادة الوطنيَّة. فخاطبهم وخاطبنا من خلالهم، كما لم يتجرّأ مسؤولٌ غربيٌّ قبله على مخاطبة أناسٍ، من المفترض أنّهم مسؤولون عن مصير شعبٍ وبشر. لكنّهم، وللأمانة، كانوا وضعوه في أجواء ذاك القصور، قبل قدومه المظفَّر الثاني إلينا. راسلوه وسألوه وشكوا وبكوا بعدما ضاقت بهم الحِيَلُ. قالوا له (من دون أن يرفّ لهم جفن خَفَر)، إنّهم لم يعرفوا الإجابة على أيٍّ من الأسئلة التي طرحها عليهم في امتحان 6 آب/أغسطس.
ففَرَك ماكرون يديْه، وقال لهم “حسناً سآخذ على عاتقي كلّ شيء وسأسرِّب لكم الأجوبة”. وهذا ما فعله فعليّاً. فاصطفى لهم، في الجواب الأوّل، رئيساً للحكومة “لم تُقبِّل فمه إلاّ أمّه” (في السياسة). وفي الجواب الثاني، عمّم عبر البريد السريع اسمه على المعنيّين بشؤوننا وشجوننا، مع عبارة “لمَن يهمّه الأمر”. ومن ثمّ، جاءهم في الجواب الثالث متأبِّطاً ذراع مَن يُهيَّأ ليهندس “سياسات ماليّتنا”. وفي باقي الأجوبة، سرّب لائحة أسماء لمَن تليق بهم، برأيه، “الحقائب المشموسة” (ذات السمعة السيئة)، ومسوَّدة البيان الوزاري، و… فعلها ايمانويل ماكرون. فصفّق له لبنانيّون كُثُر، بأسى وجرحٍ عميق في الكرامة، وصرخوا “خَرْجْهُن (يستحقّون ذلك).. وخَرْجْنا”. تقول العصفورة، إنّ المسؤولين السوريّين الذين حكموا لبنان، بالطول والعرض، كانوا يتفاجؤون من “إنبطاح” المسؤولين اللبنانيّين أمامهم. فهُم، أي السوريّون، لم يكونوا يطمحون إلى هذا القدْر من الإنبطاح والولاء و.. المذلّة!
ماذا كتب حُكَّامنا، أيضاً، في تاريخ الذلّ اللبناني؟
بعد مئة عامٍ على تأسيس الكيان، وسبعةٍ وسبعين عاماً على استقلال البلاد، وواحدٍ وثلاثين عاماً على ولادة الجمهوريَّة الثانية، ما زلنا بحاجة لمَن يُمسِك بيدنا على الطريق، خوفاً من أن تسحقنا الموتوسيكلات. وما زالت الطبقة السياسيَّة الحاكمة، تتثنَّى بين وصيٍّ ووصيّ. وما زال “لبنان الكبير”، يترنّح بين وصايةٍ ووصاية. فاستحقّ، بجدارة، لقب “بلد الأربعين حرامي ووصاية”. إنّه بلد الأقزام بالجينات، فلا ينمو (مثل الأشجار القزمة). وبلد يستقطب الاحتلالات المتنوّعة، ولا يتحرّر. يبدو أنّ هذه هي طبيعته بالولادة. لا إمكانيَّة لتحرير لبنان، قطعاً. تحتلّه كلّ سلطةٍ تصل إلى حكمه، بالمباشر أو بالإنابة. هذا واقع. وهذه حقيقة. لا بدّ من الاعتراف. فهل من دليلٍ على أنّنا أحرار؟ كلا.
هذه الأيّام، تتسلّل أنشودة فلسطينيَّة إلى حنجرتي. أنشودة، تعيدني إلى أيّامٍ عصيبة عشناها في هذا البلد. عَبَرت ببالي هذا الأسبوع، مع توجّسي من موجة قتلٍ جديدة يتهيَّأ لها أركان السلطة. لو كنتُ بأخلاقهم لفعلتُها، في الوقت المستقطَع الذي منحهم إيّاه ايمانويل ماكرون كي “يتَّعظوا”. تقول الأغنية، “يمّا مويل الهوا يمّا مويليّا/ ضرب الخناجر ولا حكم النذل بيّا/ ومشيت تحت الشتا والشتا رواني/ والصيف لمّا أتى ولَّع من نيراني/ والليل شاف الردى عم يتعلّم بيّا/… يمّا مويل الهوا”.
كلمة أخيرة. لقد أمست مواجهتنا للزمرة الحاكمة، فِعْل مقاومة حتميّ. وفي هذا الشهر المجيد الذي شهد إطلاق “جبهة المقاومة الوطنيَّة اللبنانيَّة” ضد الإحتلال الإسرائيلي، نعود ونستشعر أهميَّة مقاومة القوى الغاشمة. فإقتضى، أمس قبل اليوم، أن نقاوم عدوّ الداخل الذي اجتاح سلطة وطننا ولا يزال يحتلّها.