السلطة اللبنانية.. ومأزق الهويّة

مأزِقُ السلطةِ في لبنانَ بِنيويٌ عميقٌ. عمرُ المأزِقِ مئةٌ وخمسُ سنواتٍ، منذ إعلانِ ما سُمِّيَ "دولةَ لبنانَ الكبير" في العام 1920. سلطة ٌ بلا دولة فعلية. ودولةٌ بلا هويّة. والمعادلةُ واضحةٌ في هذه الحالةِ: سلطةٌ بلا هُويةٍ. تُعاني من انفصام ٍبين خطابِها اللفظويّ وقدرتِها الفعليّة، ويصبحُ كلُّ كلامٍ عن السيادةِ فقَّاعاتٍ للاستخدامِ العابر.

الأخطرُ من ذلك أنَّ مفهومَ السيادةِ يتحوَّلُ -بحسبِ كلِّ مرحلةٍ- إلى مطَّاطةٍ يجري توظيفُها للاستغلالِ السياسيّ-الطائفيّ المحليّ. هذا كلُّهُ مخالفٌ لعلمِ الدستور، عندنا برغم المثالبِ الكثيرةِ في دستورِنا، وفي العالم. كان أستاذُ الفقهِ الدستوري في جامعة تولوز الفرنسية، أندريه هوريو، يحذر دوماً من أيِّ سلطةٍ تأخذُ قراراتِها من دون الارتكاز على الهويةِ الوطنيةِ، ويرى في ذلك خطراً على الدولة والوطن. أمَّا عندنا في لبنان فلا تتمتَّعُ السلطةُ بـِ”الشخصيةِ الوطنية”. تسعى على الدوام إلى أنْ تعبِّر عن وجودِها في القضايا المصيرية من خلال الحسابات الخارجية. تنظرُ إلى ما تريدُهُ أميركا وغيرُها من دول الغربِ الاستعماريّ، وتسمعُ من واشنطن ما تريدُه إسرائيل، كما تسمعُ من السعودية ما ترغب بهِ في لبنان وسوريا وغزَّة، وتتصرَّفُ على هذه الأسسِ. وتتوهَّمُ أنَّها بهذه الطريقة تصنع الحلول، من دون إغفالِ الأمانة بأنَّ رئيسَ الجُمهوريةِ أشدُّ ميلاً للاعتدال فيما رئيسُ الحكومةِ أشدُّ ميلاً للتشدُّدِ، وأكثرُ تعلُّقاً بالتبعيّة، فالكلامُ الأميركي والسُعودي عنده مقدَّس.

ما تحتاجُ إليهِ السلطة ُفي لبنان هو مراجعةُ نفسِها قبل فواتِ الأوان. يُؤمَلُ منها أنْ تُطبِّقَ إحدى أهمِّ القواعدِ في علم ِالدستور وهي: بناءُ القراراتِ السياسية على أساسِ “سلطةِ الهوية الوطنية”، وعلى أساسِ التمييز الدقيقِ والعادلِ بين علاقاتِ لبنانَ الدوليَّة وبين مصلحةِ اللبنانيينَ في السلامِ الوطني والوحدةِ الوطنية. لا يجوزُ أنْ تقبلَ السلطةُ بضغوطٍ خارجيةٍ تصلُ إلى حدِّ تفجير حربٍ داخليةٍ ما لمْ يتِّمَّ استدراكُ ذلك.

المَثْلَبُ الأساسيُّ في حياةِ السلطاتِ في لبنان، هو أنَّها تبحثُ عن أوراقِ القوةِ في الخارجِ فحسبُ، وذلك منذ العام 1943 حتى الآن. والسلطة الحالية لا تخرجُ على هذا السياق. وهكذا خضعتْ السلطة لأفخاخٍ أميركية – إسرائيلية، ولولا وجود “الميزان” نبيه برّي لكنَّا وصلنا إلى ما هو أسوأ.

آخرُ الأفخاخ كان ورقة الموفد الأميركي “توم براك”، وهي ورقة أوامرَ بكلِّ ما للكلمة من معنى. حماسةُ رئيسِ الحكومةِ لتنفيذِها لم تكن مبرَّرةً، ولا سيَّما بسببِ مسألتين:

الأولى؛ عدم الحوارِ الحقيقي الجادِّ مع المقاومةِ بشأنِ معالجةِ مسألةِ السلاح في الوقت الذي يجري فيه الحوار مع القوى الفلسطينية غير “فتح”.

الثانية؛ التهرُّبُ من المسؤوليّةِ السياسيةِ وإلقاءُ الكرةِ في ملعبِ الجيش ِاللبناني.

هؤلاء يعرفون حقيقتين: الأولى؛ أنَّ الجيش يقومُ بمهمَّاته من دون إمكانياتِ كافية. الثانية؛ أنَّ سلاحَ المقاومة مُتماهٍ معَ الطائفةِ الشيعيةِ، سواءٌ اعترفوا بذلك أم لم يعترِفوا، فإلى أي ميدانٍ يجرُوّنَ الجيش؟ ألا يستحقُّ كلُّ ذلك مراجعةَ الحسابات؟ أم لمْ يرَوْا ما يحصُلُ في سوريا؟ ألم ينتبهوا في السلطة وفي كل القوى غيرها إلى أنَّ غياب الوحدة الوطنية – ولو في الحدِّ الأدنى – يُهدِّدُ وجودَ لبنانَ لا الوضع السياسي – الأمني وحدَه؟

نعرفُ جيِّداً أنَّ اللبنانيين لم يتّفِقوا يوماً على حسمِ هُويّةِ بلدِهم حتى بعد اتفاقِ الطائف. ومن الطبيعي أن يختلفوا على موضوع السيادة. هناك من يسمّونَ أنفسَهم سياديّين، وأشهرُهم راهناً أصواتُ “القواتِ اللبنانية” الذين يقدِّمونَ خطاباً ملتبساً، كي لا نقول غير ذلك. يسكتونَ عندما تعتدي إسرائيل ولا يَرَوْنَ في ذلك انتهاكاً للسيادة، أمَّا عندما كانت تضحِّي المقاومة الوطنية ثم الإسلامية دفاعاً عن الجنوب وعن لبنان فكانوا يتصرَّفونَ وكأنَّ الجنوبَ ليس من لبنان. وحالياً يواصلون السكوت عن الاحتلال الإسرائيلي ويشنّون الهجوم على المقاومة تحت شمَّاعة حصرية السلاح وإثارة النعرات الطائفية، ويرفعون المسألة من السياسة إلى الثقافة والاجتماع فيقولون “إننا لا نشبههم ولا يشبهوننا”. إنَّها عنصرية متجدِّدةٌ تنذرُ بمخاطرَ لا يحسبونها.

مسألةُ السلاح لم تنتهِ، ولن تنتهي بهذه الذهنيَّات. مجلسُ الوزراء ليس مكاناً كافياً للحوار.الناس تتطلَّعُ إلى خطابٍ جديد من رئيس الجمهورية يدعو فيه إلى حوار شامل يشارك فيه الجميع، كي يستعيد للسلطة هويتها الوطنية. الفرصة ما زالت متاحة، والبلد بحاجة إلى إنقاذٍ وليس أجدر من رئيس الجمهورية لقيادة هذه المبادرة. وعندئذ عندما تتحقق الوحدة الوطنية تتراجعُ غلواء المتدخلين من الخارج مهما كانوا. وربَّما، ولو بقليلٍ من الأمل، يتجه لبنان إلى عقد اجتماعي غير طائفي.

كان إدوار حنين أحدُ زعماء “الجبهة اللبنانية” في سبعينيَّاتِ القرن الماضي يقول: “لبنان والمارونية صنوان لا يكون من دونها ولا تكون من دونه”.

الحوارُ ضرورةٌ حاسمة. الأمر تغيَّرَ فلبنانُ للجميع يكون بهم ويكونون به، وإلا على الدنيا السلام.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  الإعلام الغربي في أوكرانيا.. صمودٌ وتصدٍ!
بسّام ضو

عضو الهيئة الإدارية لاتحاد الكُتّاب اللبنانيين

Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  رون بن يشاي: إسرائيل لن تتردد في مهاجمة مطار بيروت!