“الأفكار بشأن الدفع قدماً باتصالات من أجل تسوية شاملة للعلاقات بين إسرائيل ولبنان ليست جديدة وهي تُطرح للنقاش، سواء في أوقات توتر وتصعيد، أم في ظروف تغيّر نحو الأفضل في علاقات إسرائيل مع دول في الساحة الإقليمية.
الحجة الأساسية التي تُسمع كثيراً منذ انسحاب إسرائيل من لبنان في سنة 2000 هي أنه باستثناء التهديد الذي يمثله حزب الله، يوجد عدد قليل من الخلافات بين لبنان وإسرائيل وهي قابلة للحل (مياه، حدود، لاجئون فلسطينيون)، وأن أغلبية السكان في لبنان غير معادية لإسرائيل. وبناء على ذلك، حالة الحرب بينهما ناجمة في الأساس عن مصالح أجنبية: في الماضي الوجود الفلسطيني، وبعد ذلك الهيمنة السورية، وفي العقود الأخيرة صعود حزب الله، الذي تحول إلى العنصر الأقوى والأكثر تأثيراً في الساحة اللبنانية، ويعمل في خدمة إيران.
لإسرائيل ولبنان تجربة سنوات طويلة من الاتصالات المباشرة وغير المباشرة، سواء مع أطراف لبنانية رسمية أم مع ممثلي الطوائف المختلفة، في الأساس في أعقاب مواجهات عسكرية، وغالباً بمرافقة الولايات المتحدة والأمم المتحدة حتى تمت بلورة اتفاقات وتسويات وتفاهمات، أغلبيتها الساحقة لم تعمر طويلاً، وجرى خرقها عاجلاً أو آجلاً بعد التوصل إليها. الأبرز فيها: اتفاق الهدنة (آذار/مارس 1949- لبنان كان أول دولة عربية وافقت على توقيع الاتفاق)؛ اتفاق السلام بعد حرب لبنان الأولى (17أيار/مايو 1983) الذي الغته حكومة لبنان بضغط سوري؛ تفاهمات مكتوبة في أعقاب عملية “عناقيد الغضب” (نيسان/أبريل 1996)؛ الاتصالات للتوصل إلى اتفاق على خروج الجيش الإسرائيلي من لبنان والتي أدى فشلها إلى القرار الإسرائيلي بالانسحاب الأحادي من المنطقة الأمنية (أيار/مايو 2000). لبنان لم يوافق في سنة 2000 على أداء دور في ترسيم “الخط الأزرق” الذي قام بصوغه طاقم من الأمم المتحدة، ويشكل حتى اليوم خط الحدود الفعلي. كما جرت لقاءات غير مباشرة لبلورة قرارات مجلس الأمن بشأن لبنان، وفي الأساس القرار 1701 في سنة 2006، ومنذ انتهاء حرب لبنان الثانية تعمل بانتظام لجنة اتصال عسكرية مشتركة، بمشاركة مندوبين من قوات اليونيفيل والجيش اللبناني والجيش الإسرائيلي، تعالج مشكلات ضبط الحدود، وفي إطارها جرت سابقاً مفاوضات لم تنجح، لتقسيم قرية الغجر.
فرص تسوية العلاقات
يمكن الادعاء أنه في ضوء التغييرات في المحيط الإقليمي (ضعف المحور الشيعي من جهة، واتفاقات إسرائيل الجديدة مع الدول العربية من جهة أُخرى)، وأيضاً الوضع الداخلي الصعب في لبنان، نشأت فرصة للدفع قدماً بتغيير استراتيجي في العلاقات بين الدولتين:
أولاً، انهيار لبنان، الواقع في أزمة ثلاثية الأبعاد اقتصادية، سياسية، وصحية، تفاقمت بعد كارثة الانفجار في مرفأ بيروت (4 آب/أغسطس). هذه هي أخطر أزمة عرفها لبنان في العقود الأخيرة، وهو بحاجة ماسة إلى مساعدة خارجية ضخمة. الدول العربية ومعظم الأطراف الدولية ليسوا مستعدين، أو لا يقدرون على أن يتحملوا وحدهم العبء الثقيل للمساعدة، والمطروح مبادرة تدفع بها قدماً أطراف في الغرب، بقيادة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والإدارة الأميركية، لجمع رزمة مساعدات وقروض للبنان، بشرط إجراء إصلاحات اقتصادية وسياسية. في إسرائيل، هناك مَن يقترح أن تتضمن هذه الشروط أيضاً تفاهمات على الصعيد الأمني والعلاقات مع إسرائيل، لكن على ما يبدو الطريق إلى تحقيق هذا الهدف لا تزال طويلة.
ثانياً، اتفاقات السلام الجديدة لإسرائيل مع دول عربية، والتي جرت بدفع من الرئيس الأميركي دونالد ترامب، تشكل انعطافة استراتيجية بالنسبة إلى إسرائيل في الساحة العربية، ويمكن أن تمنح شرعية لأي طرف عربي آخر يختار إجراء اتصالات معها. تُظهر هذه الاتفاقات الحسنات التي تنطوي عليها الصلات بإسرائيل، والتي يستطيع لبنان أيضاً الاستفادة منها، وخصوصاً الحصول على مساعدة فورية من الولايات المتحدة ومن أطراف عربية أُخرى، بالإضافة إلى فوائد محتملة من العلاقات مع إسرائيل يمكن أن تساعد الاقتصاد اللبناني في مجالات الطاقة (الغاز والكهرباء)؛ الزراعة؛ المياه؛ الصحة؛ الصناعة؛ والسياحة.
الاتفاق على البدء بمفاوضات ترسيم الحدود البحرية، الذي جرى التوصل إليه بعد عشر سنوات من معالجة الموضوع، يشكل مؤشراً إيجابياً: إذا أدت المفاوضات فعلاً إلى اتفاق، سيخلق ذلك مناخاً إيجابياً يمكن أن يسهل حواراً، وربما يتيح التقدم إلى اتفاقات في موضوعات إضافية معينة
لماذا وافق حزب الله؟
منذ تدخّل حزب الله في القتال في سوريا وفي السنة الأخيرة تحديداً، وهو يعاني من مصاعب مالية آخذة في الازدياد. انهيار الاقتصاد اللبناني كان له تأثير فيه أيضاً، ويمكن أن نضيف تشديد العقوبات المباشرة من الولايات المتحدة على الحزب، وعلى الأطراف التي تساعده في لبنان (المصارف؛ الوزراء الشيعة)، وعلى راعيته إيران، التي قلصت هي أيضاً مساعدتها للحزب.
بالإضافة إلى الضائقة الاقتصادية، مُنيَ الحزب بإخفاقات في المعركة السياسية في ضوء اتساع الاستجابة لتصنيفه كتنظيم إرهابي، بفروعه العسكرية والسياسية والمدنية، وانضمام دول إضافية (الولايات المتحدة، هولندا، بريطانيا، ودول الخليج) ومؤخراً ألمانيا التي تحاول طرح اقتراح بهذه الروحية على الاتحاد الأوروبي. كما يشكل حزب الله هدفاً لانتقادات متزايدة في الساحة الداخلية في لبنان، من خلال اتهامه بالمسؤولية عن الإدارة الفاشلة للدولة، وتهديداته لمواطني الدولة، ومؤخراً أيضاً المطالبة علناً بنزع سلاحه. هذه الظروف، كما يبدو، هي التي دفعت حزب الله إلى الموافقة على بدء المفاوضات على ترسيم الحدود البحرية الذي كان مصمماً حتى الآن على إحباطه.
الاتفاق على البدء بمفاوضات ترسيم الحدود البحرية، الذي جرى التوصل إليه بعد عشر سنوات من معالجة الموضوع، يشكل مؤشراً إيجابياً: إذا أدت المفاوضات فعلاً إلى اتفاق، سيخلق ذلك مناخاً إيجابياً يمكن أن يسهل حواراً، وربما يتيح التقدم إلى اتفاقات في موضوعات إضافية معينة، مثل ترسيم نقاط الخلاف على طول الحدود البرية؛ تفاهمات وتعاون في مجال الطاقة (التنقيب عن الغاز واستخراجه؛ ضمان منصات الغاز والمساعدة في التزود بالكهرباء)؛ تقديم مساعدة إسرائيلية للسكان اللبنانيين ـ على سبيل المثال من خلال فتح “الجدار الطيب” للعمل في شمال إسرائيل ـ وربما الموافقة، في إطار تطبيق القرار 1701، على إبعاد حزب الله عن “الخط الأزرق” الذي انزلق إليه في السنوات الأخيرة.
العقبات الأساسية
حزب الله. حزب الله. حزب الله. يشكل الحزب، الذي توجهه أيديولوجيا دينية متطرفة ويعمل كوكيل عن إيران، حجر العثرة الأساسي في وجه أي محاولة لتسوية العلاقات بين إسرائيل ولبنان. حزب الله الذي لم يكن لديه خيار بسبب الظروف الصعبة الحالية للبنان، وافق على البدء بمفاوضات لترسيم الحدود، يكرر ويشدد على أن المقصود ليس مفاوضات سياسية. هو يستمر في ترسيخ مكانته في الساحة اللبنانية: لديه أكبر قوة عسكرية في الدولة، ويواصل جهوده للتسلح بسلاح متقدم في هذا الوقت الصعب أيضاً؛ وهو مندمج جيداً في المنظومة السياسية، ويؤثر في عمليات اتخاذ القرارات. عملياً حزب الله يدير “دولة داخل الدولة”. بناء على ذلك، من المتوقع أن يعمل على نسف المحادثات في موضوع الحدود، وأن يعارض المزيد من الدفع قدماً بالعلاقات مع إسرائيل. ومن المتوقع أن يرفض حزب الله أي مطالبة بالتنازل عن مكانته الخاصة، أو وضع سلاحه في تصرف طرف آخر (لبناني أو أجنبي). في هذه المرحلة، يبدو أنه لا يوجد طرف داخل لبنان أو خارجه، قادر على نزع سلاح حزب الله من دون مواجهة عسكرية.
ضعف معارضي حزب الله
ليس واضحاً مَن هي الأطراف في المنظومة السياسية اللبنانية التي ستكون قادرة على الدفع قدماً باتصالات رسمية مع إسرائيل، في ضوء الضعف البارز للأحزاب المؤيدة للغرب، التي تعارض حزب الله (معسكر 14 آذار). الحكومة الحالية في لبنان هي حكومة انتقالية مشلولة (استقالت بعد كارثة المرفأ)، ويسيطر عليها معسكر حزب الله (معسكر 8 آذار). ظاهرياً حزب الله وحركة أمل هما اللذان أفشلا مؤخراً محاولات الرئيس الفرنسي للمساعدة في تأليف حكومة فاعلة تمس بمصالح الحزب، وهو يؤيد عودة سعد الحريري إلى رئاسة الحكومة، الذي سبق أن أثبت عدم قدرته على المس بمكانة الحزب.
العداء لإسرائيل
هناك علاقة عدائية بإسرائيل في الشارع اللبناني، ليس فقط من جهة مؤيدي حزب الله، وذلك نتيجة سردية معادية لإسرائيل تُسمع في الشارع وفي وسائل الإعلام منذ عشرات السنوات، والتداعيات المدمرة لحروب إسرائيل على وعي لبنان وسكانه. الدليل على ذلك رفض الجمهور رفضاً مطلقاً اقتراحات إسرائيل بالمساعدة في أعقاب كارثة مرفأ بيروت.
إجراء حوار مع فرنسا والولايات المتحدة، اللتين تقودان المساعي لتحسين الوضع في لبنان، وأن نقترح في إطاره اشتراط تقديم المساعدة الغربية للبنان أيضاً ببلورة “خريطة طريق” لحل المشكلات الخلافية بينه وبين إسرائيل
حتى لو جرى التوصل إلى اتفاق بين إسرائيل ولبنان بشأن ترسيم الحدود البحرية، فإن فرص أن يقود هذا الاتفاق إلى تغيير استراتيجي لمصلحة العلاقات بين الطرفين ضئيلة. وذلك، ما دام حزب الله يحافظ على مكانته ونفوذه في لبنان، وأيضاً على تحالفه مع أكبر حزب مسيحي في لبنان، التيار الوطني بقيادة الرئيس ميشال عون. مع ذلك يمكن الدفع قدماً بعدد من الجهود التي تهيئ الأرضية لإمكان نشوء ظروف أكثر ملاءمة للتسوية:
أولاً، إجراء حوار مع فرنسا والولايات المتحدة، اللتين تقودان المساعي لتحسين الوضع في لبنان، وأن نقترح في إطاره اشتراط تقديم المساعدة الغربية للبنان أيضاً ببلورة “خريطة طريق” لحل المشكلات الخلافية بينه وبين إسرائيل، لخلق استقرار أمني، وكي نفحص معاً خطوات لاحتواء تأثير حزب الله.
ثانياً، طرح المشكلة اللبنانية أيضاً في محادثات مع أصدقاء إسرائيل القدماء – الجدد في الخليج الفارسي، وتشجيعهم على المساهمة في تحسين العلاقات بين إسرائيل ولبنان، من خلال ضمان استئناف المساعدة للبنان في مقابل إجراء تغيّر تدريجي في السياسة اللبنانية حيال إسرائيل والعلاقة مع حزب الله.
ثالثاً، حديث غير رسمي (trak 2) بين أطراف لبنانية من كل القطاعات والطوائف وبين إسرائيليين لمعرفة مجالات الاتفاق المحتملة ومحاولة تجسير الفجوات الخلافية.
رابعاً، بذل جهد للتأثير في وعي الجماهير المتعددة في لبنان للكشف عن خطوات حزب الله التي تضر بمصالح الدولة اللبنانية، وتسليط الضوء على الرسالة بشأن المساهمة الإيجابية المتوقعة للعلاقات مع إسرائيل في تحسين الوضع في لبنان (المصدر مؤسسة الدراسات الفلسطينية).